باحث مغربي ما من شك أن واقع التعليم، كما تشهد على ذلك أوضاع المدرسة المغربية، لا يساعد على تحقيق مجتمع المعرفة بوصفه مشروعا مجتمعيا ترنو إليه القوى الوطنية الحية في هذا البلد. إذ كيف يمكن المراهنة على المدرسة لتحقيق مشروع نهضوي طموح في ظل منظومة تربوية تقف عاجزة أمام تراجع مهارة القراءة والكتابة لدى المتعلم بسبب عوامل عديدة ومتنوعة لا يتسع المجال هنا لتفصيل القول فيها. وإن كنا نستطيع أن نشير، في هذا المقام، إلى عاملين اثنين لا نتصور أن تقوم للمدرسة المغربية معهما قائمة رغم كل مقترحات الإصلاح التي يمكن أن تتعاقب على منظومة التربية والتعليم. يتعلق الأمر بالاكتظاظ في المدن والأقسام المشتركة في البوادي؛ فمن المسلم به أن تمهير التلميذ على القراءة يتطلب غلافا زمنيا ملائما يسمح بتدبير أنشطة القراءة وترسيخ مبادئها في أذهان الناشئة. إذ تتحدد وظيفة القراءة المنهجية بالتعليم الثانوي التأهيلي في كونها "إجراء ديداكتيكيا هدفه تصحيح مسار المتعلم القرائي وتنمية رصيده الثقافي وقدرته على الانتقال من فك الرموز والعلامات اللغوية إلى تحليل الخطاب وتفكيك مكوناته"[1]. وهو أمر يتعذر في كثير من الأحوال بسبب الظروف التي يشتغل فيها المدرس المغربي. إذ تسند إليه أقسام مكتظة. وفي البادية تكون معظم أقسام الابتدائي متعددة المستويات وأحيانا مزدوجة اللغة (عربية- فرنسية) وبنفس الغلاف الزمني المخصص للأقسام العادية. مما يجعل إنجاز واكتساب التعلمات أمرا صعبا ومتعذرا في بعض الأحيان. إذ يجري التركيز، في أنشطة القراءة مثلا، على التلاميذ الذين تمكنوا من فك شفرة الحروف وإهمال التلاميذ الآخرين الذين لم ينجحوا في اكتساب مبادئ القراءة. ومما يزيد في تعميق أزمة القراءة أن الخريطة المدرسية تلزم المدرسين بإنجاح عدد كبير من التلاميذ الذين ينتقلون إلى مستويات أعلى تتطلب كفايات قرائية لا يتوفرون عليها. مما يجعل الفشل الدراسي، في هذه الحال، أمرا محتما، خاصة إذا استحضرنا غياب استراتيجية الدعم الموازي غيابا تاما في المدارس المغربية. إذ يقدم هذا الصنف من الدعم عادة للتلاميذ المتعثرين حتى يتمكنوا من اكتساب المهارات المطلوبة في متعلم المستوى الذي يتابعون به دراستهم. والنتيجة المنطقية لكل ذلك أن التلميذ يغادر مقاعد الدراسة دون أن ينجح في امتلاك مهارة القراءة والكتابة. وبذلك نكون أمام مدرسة مغربية غير قادرة على محاربة الأمية والقضاء عليها في صفوف المتعلمين. مما يجعل الدعوة إلى ترسيخ عادة القراءة والتشجيع عليها يبدو، في ظل هذا الوضع، ترفا عقليا أكثر منها حاجة مجتمعية ملحة. من المظاهر البارزة لأزمة القراءة في المدرسة المغربية سيطرة أسلوب الحفظ والتلقين على حساب تنمية مهارات التحليل والتركيب. والنتيجة المنطقية لذلك ضمور ملكات التواصل قراءة وكتابة، وهي التي تمثل القاعدة التي تتأسس عليها مختلف البنى المعرفية لدى الصغار والكبار على حد سواء بدءا من التعليم الأولي في رياض الأطفال وصولا إلى التعليم العالي في المعاهد والجامعات. ومن العوامل التي تعمق أزمة القراءة في المغرب عدم الاهتمام بالمكتبة المدرسية هذا إن وجدت أصلا. فهي إما مقفلة في وجه مرتاديها من التلاميذ أو أنها لا تستجيب لحاجتهم بسبب اقتصارها على كتب متقادمة لا يرى القائمون عليها ضرورة تجديدها من أجل مسايرة التحول الحاصل في البرامج والمناهج المقررة ناهيك عن التحديات الكبيرة التي يفرضها التطور الهائل في مجال المعرفة الإنسانية اليوم. ومما يزيد في تفاقم مشكلة القراءة الاقتصار على الكتاب المدرسي وعدم الانفتاح على مصادر المعرفة الأخرى التي لا تدخل ضمن المقرر الدراسي. فقد ترسخت في أذهان الآباء وبعض المدرسين قناعة ثابتة مؤداها أن القراءة خارج المنهاج الدراسي مجرد مضيعة للوقت الذي يتعين على التلميذ صرفه في تحصيل المعرفة المدرسية التي ستكون موضوع الاختبار. وقد نجم عن ذلك ارتباط القراءة بالمدرسة وحصر الكتاب في المقرر الدراسي الذي لا يشجع على اكتساب عادة القراءة واستمرارها خارج فضاء المدرسة، لأنه في الوقت الذي تركز فيه منظومة التعليم على بناء المعرفة وتوفير المعلومة، فإنها لا تولي أي اهتمام لمتعة القراءة. إذ "يبدو وكأن هناك اتفاقا أزليا، وفي كل بقع العالم، على أن المتعة لا مكان لها في المناهج الدراسية"[2]. إذ تتركز الممارسة البيداغوجية في المدرسة على المناهج التي توظف في تحليل النصوص وتفسيرها من دون التفات في الغالب إلى الأعمال الإبداعية في حد ذاتها. مما يدفع الطلاب إلى النفور من درس القراءة لأنه لا يستجيب لانتظاراتهم وتوقعاتهم. من أجل تشجيع التلاميذ على القراءة يتعين اختيار نصوص تثير فضولهم وتلبي رغباتهم، لأن فعل "قرأ" لا يتحمل صيغة الأمر[3]. ومن شأن وعي الفرد بأهمية القراءة والفوائد العظيمة التي يجنيها من مرافقة الكتاب أن تمثل دافعا قويا لإدمان القراءة. يقول العقاد عن تجربته الخاصة مع الكتاب: "أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا. وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب"[4]. وما من شك أن ربط القراءة بالمتعة كفيل بأن يدفع طلاب المدارس إلى الإقبال على القراءة، لأن الغاية النهائية من التواصل مع النصوص والخطابات أن يجد فيها القارئ "معنى يتيح له فهما أفضل للإنسان والعالم، وليكتشف فيها جمالا يثري وجوده، وهو إذ يفعل ذلك، يفهم نفسه فهما أفضل"[5]. ولا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية من دون تربية التلميذ على القراءة الذاتية. ويمكن اعتبار حصة تدريس مادة المؤلفات فرصة مناسبة يتعين استثمارها من أجل تنمية الكفاية القرائية لدى التلميذ بما يقود إلى تمهيره على قراءة الكتب كاملة التي تتطلب طريقة مختلفة عن الطريقة التي يجري التعامل بها مع النصوص المجتزأة. وبذلك يكتسب التلميذ عادة القراءة الذاتية التي تستمر معه بعد انتهاء فترة الدراسة النظامية. مما يجعل من القراءة فعلا وجوديا يساعدنا على العيش بعمق وليس مجرد سلوك معياري مقنن يقترن بالواجب المدرسي. ولذلك يتحرر منه التلميذ بمجرد مغادرته لمقاعد المدرسة التي تحولت إلى فضاء طارد ينفر منه التلميذ والأستاذ على حد سواء. [1] -وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (المملكة المغربية)، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، نونبر، 2007، ص: 36 [2] -دنيال بناك، متعة القراءة، تر. يوسف الحمادة، دار الساقي، بيروت، ط1- 2015ص: 72 [3] -نفسه ، ص: 13 [4] -عباس محمود العقاد، أنا، المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1- 1982 ص: 103 [5] –تزيفتان تودوروف، الأدب في خطر، تر. عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط1- 2007، ص: 15