"والدولة التي تخرّج بواسطة هذه الكتب المدرسية البائسة كل هؤلاء الطلاب لا تستطيع أن توظف منهم إلا عددا صغيرا، وتترك الآخرين بدون عمل. وبالتالي فعليها أن تقنع بإطعام الأولين، وجعل الآخرين أعداء لها."1 هكذا علّق كوستاف لوبون عالم الاجتماع الفرنسي الشهير الذي توفي سنة 1931على ما آل إليه التعليم الفرنسي - قبلة الفرونكفونيين المذهبيين اليوم - في القرنين التاسع عشر والعشرين، فكيف يسوغ لنا أن نعلق على تعليمنا التابع لمتبوع ضعيف، "ضعف الطالب والمطلوب"، وما عسانا نقول في حقه، بعد الذي قالته وأقرته التقارير الدولية بخصوص منزلة تعليمنا بين الأمم. إن الهدف الأسمى من التعليم - عند كل الأمم - وكما يدل على ذلك المصدر والاسم "تعليم" هو مساعدة المتعلمين على التعلم والأخذ بأيديهم من أجل الاكتساب والتمكن من كفايات ومهارات ومعارف ومعلومات جديدة تعين المتعلم على مواجهة الحياة والمساهمة في تطويرها وتحسينها و" أن تنمي لديه مهارات إتقان اللغة العربية لأنها لغة الدين والحضارة، واللغة الوطنية للمجتمع..."2، وبالتالي فإنه على التعليم أن يكون أبعد ما يكون عن اجترار وتكرار المعارف والمعلومات القديمة بالنسبة للمتعلم والمكتسبة لديه قبلا من خلال تجاربه الحياتية في الأسرة والمجتمع. ومنه فإنه لا داعي ولا فائدة في أن نقدّم للمتعلم في المدرسة ما يعرفه في حياته الاعتيادية من أسماء وكلمات وعبارات وندرجها في الكتب المدرسية، فتأخذ حيّزا كان من حق كلمات وعبارات جديدة من شأنها إغناء الرصيد المعجمي للمتعلم، لأن تكرار المكتسب القديم يملأ جزءا من ذاكرته بشيء غير مفيد وموجود أصلا، ولأنه يمكن للمدرس بكل بساطة أن يقدم هذه الكلمات والعبارات في إطار الشرح والتوضيح والتوسيع إذا رأى وقدّر أن ذلك في مصلحة المتعلمين، ولأن المتعلم يعرف هذه الأشياء تمام المعرفة يغدو هذا النوع من التعليم تجهيلا، وتضييعا لوقت المتعلمين الثمين وحرمانا لهم من تعلم ما يمكّنه من مواجهة المستقبل والحياة الواسعة التي هي أكبر من محيط المتعلم الضيّق. ونحن نريد من منظومة التربية والتعليم أن تحقق وتوفر للمتعلمين التربية والتعليم لا "التغبية" والتجهيل ولذلك نسلمها فلذات أكبادنا، ونريد منها كذلك النأي عن التجهيل وتكريس المكر والخداع من أجل خدمة مصالح جهات معينة واطّراح التحزب والتمذهب وتقديم الجهل بأسماء وعناوين العلم، وإخفاء مادته وجوهره الذي ينضح ويرشح جهلا. ورغم هذا الوضع المتردي لمجتمعنا عموما وتعليمنا خصوصا ينبغي لنا دائما الاحتفاظ بقدر من التفاؤل إلى جانب التشاؤم الذي يفرض نفسه علينا، فالتفاؤل يمكنه أن يساعدنا على التنفيس والتخفيف من الاحتقان، أما التشاؤم فمن شأنه إعدادنا لخيبات الأمل المتوالية. ومن المظاهر التي تدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بتعليمنا المغربي النقاش الكبير الذي ازداد حدة بعد ظهور بعض الكتب المدرسية الجديدة، وإن اتسم في بعض الأحيان بالحماس الزائد والمبالغة والكذب والتلفيق وعدم الإنصاف، وهو شيء غير محمود طبعا "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)"3، وفي الوقت نفسه يدل على يقظة قطاع عريض من الشعب المغربي وغيرته على وضع التعليم وحزنه وغضبه بسبب تتابع السقطات وتوالي المصائب، غير أنه لا ينبغي تخصيص كل الجهد الممكن وبذله في سبيل هذه المعركة التي تظهر في ما يبدو لي أهون مما سيليها، ذلك أن تعليمنا موعود بمصائب مقبلة سيرقق بعضها بعضا، فكلما ستحل مصيبة جديدة سنرى أن التي قبلها كانت سهلة بسيطة. وأقصد بالمصيبة المرتقبة التي تفوق مصيبة محاولات التلهيج البائسة بمراحل ما يحمله مشروع القانون الإطار المتعلقة بمنظومة التربية والتعليم، والذي سيتم تقديمه للبرلمان بعيد الدخول السياسي المقبل من أجل التصويت عليه، والذي سيصبح القانون الأساس الموجه لمنظومة التربية والتعليم لسنوات طويلة مقبلة. وهذا القانون الإطار الجديد يحمل مجموعة من المستجدات المتعلقة بمكونات المنظومة والمناهج والبرامج والتكوينات والموارد البشرية والتعددية اللغوية والتناوب اللغوي، وخصوصا تمويل منظومة التربية والتعليم، ومن أخطر ما جاء به مشروع القانون هذا هو إلغاء مجانية التعليم التي ستكرس طبقية التعليم وستخلق أشباه متعلمين عندما سيضطر عدد غير يسير من المتعلمين إلى مغادرة الفصول الدراسية بسبب عدم قدرة الأسر المعوزة التي تشكل أغلبية داخل المجتمع المغربي على تسديد تكاليف متابعة الدراسة في "المدرسة العمومية". وكمقدمة ضمنية لإلغاء مجانية التعليم نجد في المادة الرابعة من هذا القانون: "الاعتماد في تمويل المنظومة على مبادئ التضامن الوطني في تحمل التكاليف العمومية، ومساهمة الأسر على قدر استطاعتها، مع مراعاة نظام الدعم الاجتماعي لفائدة الأسر المعوزة، ولاسيما من أجل ضمان تمدرس أبنائها"4. وفي المادة رقم 11 نجد البند الآتي: "تحديد ومراجعة رسوم التسجيل والدراسة والتأمين والخدمات ذات الصلة بمؤسسات التربية والتعليم والتكوين الخاصة وفق معايير تحدد بنص تنظيمي"5. أما المادة الأخطر والأكثر وضوحا فهي المادة رقم 45، والتي تنص على إقرار مبدإ المساهمة في تمويل التعليم من قبل الطلبة والتلاميذ، وهي كما يلي: "تعمل الدولة طبقا لمبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص على إقرار مبدإ المساهمة في تمويل التعليم العالي بصفة تدريجية، من خلال إقرار رسوم للستجيل بمؤسسات التعليم العالي في مرحلة أولى وبمؤسسات التعليم الثانوي التأهيلي في مرحلة ثانية، وذلك وفق الشروط والكيفيات المحددة بنص تنظيمي، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل والقدرة على الأداء"6. مما سيجعل مجانية التعليم في خبر كان وسيضيف إلى الأسر أعباء مالية جديدة لا قبل لأغلبها بها، وسيدفع ولا شك عددا كبيرا من الأسر إلى التفكير كثيرا قبل الإقدام على إرسال أبنائهم إلى التعليم الثانوي التأهيلي فضلا عن التعليم العالي، والاكتفاء بالتعليم الإلزامي المجاني الذي ينتهي بالسنة الثالثة الإعدادية. وطبعا فمسألة إلغاء مجانية التعليم من الخطورة ما يجعلها في صدارة القضايا والمسائل التي ينبغي للمغاربة مناقشتها والتركيز عليها لأنها ستهدد آلاف المتعلمين بمغادرة المدرسة العمومية قسرا بسبب تكاليف التسجيل والدراسة والتأمين، وغيرها من الخدمات التي ستجتهد بعض الجهات في توسيعها وتفريعها لتحصيل أرباح أكثر من الأسر المعوزة التي كانت تجد في المدرسة العمومية المجانية ملاذها الوحيد. إن هذا الوضع المخيف الذي بلغه تعليمنا يدعو إلى التشاؤم وإلى استنهاض همم ذوي المروءات ممن يغارون على المدرسة العمومية ولا يبغونها الخبال والعنت والتردي بشكل عام، ورجال ونساء التعليم بشكل عام، ودعوتهم إلى عدم المساهمة في هذه الردة والنكوص والنكسات التي تترى على تعليمنا من خلال توظيف الدارجة في تقديم الدروس وعدم تعويد المتعلمين على الحديث والتواصل ما أمكن باللغة العربية الفصيحة ونخص بالذكر أساتذة اللغة العربية الذين لا عذر لهم في اعتماد الدارجة في الفصول الدراسية، لأن اعتماد الدارجة بشكل يومي وطيلة الموسم الدراسي أخطر ملايين المرات من إدراج عدد محدود من الكلمات الدارجة في بعض الكتب المدرسية. كما أن نساء ورجال التعليم بمقدورهم تشكيل حائط صد أول وبناء سد منيع أمام هذه الهجمات المتكررة والغزو التجهيلي من خلال عدم اعتماد هذه الكلمات الدارجة وتعويضها بكلمات عربية فصيحة، لأنه للمدرس صلاحية اختيار الأفضل للمتعلمين، ومن ذلك اختيار نص أو نصوص أخرى إذا كانت النصوص المقررة في الكتب المدرسية غير صالحة ولا تفي بالمطلوب، فكما هو معلوم المنهاج التعليمي هو الملزم وليس الكتاب المدرسي الذي يبقى مجرد وسيلة من وسائل التعلم. الهوامش: 1 - سيكولوجية الجماهير، كوستاف لوبون، ترجمة وتقديم هاشم صالح، دار الساقي، بيروت–لبنان، ط: 7، سنة 2016، ص: 109. 2 - هيكلة التعليم الثانوي، وزارة التربية الوطنية، المملكة المغربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، سنة 1994، ص: 5. 3 - سورة المائدة الآية 08. 4 - مشروع القانون الإطار رقم 15.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، ص: 8. 5 - نفسه، ص: 13. 6 - نفسه، ص: 31.