من المعروف أن النبش في التراث الموسيقي الشعبي، ومحاولة تدوينه عملان في غاية الأهمية ليس بالنسبة إلى التاريخ الفني للشعوب فحسب وإنما حتى بالنسبة إلى تطوير ثقافاتها. لكن الأمر في نفس الآن ليس بالمهمة السهلة لمن أراد القيام به، والتغلغل في متاهاته. إذ هو في عمقه عمل توثيقي، وميداني، وعلمي، تواجهه تحديات جمة، وصعوبات يقر بها كل من اقتحم هذا الميدان المعتمد على الوسائط الشفاهية، والمساهمة الجماعية في التشكل والبناء والاستمرار. لكل ذلك يُعد كتاب "أغاني نساء مراكش: اللعّابات- الطقيطقات- الهواري- التّهضيرة" 1 لمؤلفته جميلة العاصمي مساهمة نقدية وعلمية مهمة تنضاف إلى جهود باحثين مغاربة آخرين قاموا بدورهم في مجال تدوين أنواع موسيقية مغربية حفاظا عليها من النسيان والضياع، سواء من المنظور الأدبي والشعري، أم من منظور الموسيقى والنغم والإيقاع. يتضمن الكتاب مقدمتين؛ الأولى للدكتورة سلمى المعداني، والثانية للدكتور قدور إبراهيم عمار المهاجي، إضافة إلى تمهيد للمؤلفة جميلة العاصمي. أما صورة الغلاف فمن تصميم الفنانة التشكيلية العراقية الدكتورة وسماء الأغا. وهو من الحجم المتوسط ويضم 179 صفحة. ويشتمل الكتاب على خمسة أقسام كل واحد منها يتطرق إلى نوع موسيقي مخصوص. وقد ضم القسم الأول "أغاني لعّابات مراكش". أما القسم الثاني فمعنون ب"أغاني على شكل طقيطقات". وحمل الفصل الثالث اسم "أغاني الهواريات". بينما عُنون الفصل الرابع ب"التّهضيرة". أما الفصل الأخير فحمل عنوان "تنبيهات شفوية تعلن عن انتهاء الأغنية". إضافة إلى ملحق ضم تدوينا موسيقيا، وإيقاعيا، ومقاميا لبعض الأغاني وهو من إنجاز الأستاذ مصطفى جعباري. كما اشتمل الملحق على صور لبعض الآلات الموسيقية التي تستعمل في عزف الأنواع الغنائية: اللعّابات، والطقيقطات، والهواري، والتهضيرة. اتبعت جميلة العاصمي منهجية خاصة في ترتيب كتابها، حيث تبدأ كل قسم بتعريف النوع الموسيقي الشعبي الذي سيتمحور حوله، ثم تعمل بعد ذلك على جرد ما جمعته من نصوص شعرية اعتمادا على مختلف الفرق النسوية التي تعاملت معها، مع هوامش، وتعليقات، وشروح تخص تفاصيل كل نص شعري مدون. ومن خلال إلقاء نظرة على عنوان الكتاب "أغاني نساء مراكش: اللعّابات- الطقيطقات- الهواري- التهضيرة" يتبين الدور الرئيس الذي تلعبه المرأة في حفظ التراث الشفهي الموسيقي المغربي، وفي تشكيل جوانب من الذاكرة الجماعية المغربية، موسومة بالطابع التراثي الأصيل. ولعل مما يؤكد هذه الفكرة ما توحي به دلالة العنوان من اقتصار أداء بعض الأنواع الموسيقية على أصوات النساء دون الرجال. والنتيجة وضوح دور المرأة المغربية بطبقاتها الصوتية المختلفة عن الرجل، وبأدوارها الاجتماعية الخاصة بها، وبأحاسيسها ومشاعرها الرقيقة. إضافة إلى مساهمتها الفعالة في بناء قوالب الفن الموسيقي بصفة عامة رغم الطابع المحدود لثقافتها، وبساطة تكوينها. تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ عنوان المؤلَّف سؤال حول الطريقة أو الأسلوب الذي تعاملت به المرأة مع الفن قديما ومدى اختلافه عن الأساليب الحديثة التي تحاصرنا اليوم عبر شتى وسائط التواصل الاجتماعي. فهل مازال هناك حضور لتلك الأساليب النسائية لجداتنا في الحفظ، والغناء، والأداء؟ لا أظن أن الأمر كذلك. كما أن الكتاب يجيب بطريقة غير مباشرة عن السؤال. ذلك أن الزمن تغير، وثقافة المرأة طرأ عليها تحول كبير مع اقتحامها لميادين جديدة عليها. ومن ثم أصبح جانب من تراثنا الفني الموسيقي معرضا للضياع. ذاك ما استخلصته جميلة العاصمي في تمهيد مؤلفها قائلة: "أما أفراد الفرق النسائية اللواتي اتصلتُ بهن فأغلبهن يتحفظ من إعطاء أي معلومات أو نصوص، كما يرفضن نشر صورهن، كما أن منهن من توفيت، ومنهن من تقدمت في السن واعتزلت الغناء" ص 20 قيمة الكتاب إذن عميقة، تكمن في تدوين قسم من التراث الموسيقي النسوي المغربي في ناحية مراكش، وفي حفظ جانب منه كي لا يضيع، خاصة جانبه الأدبي المتعلق بالأشعار والقصائد المغناة شفهيا. وفي هذا السياق التدويني لا بد من إثارة انتباه قارئ الكتاب إلى نقطة مهمة ذات صلة بالزيادات التي أضافتها الكاتبة إلى بعض الأشعار. إذ من الواضح أن الموسيقى الشعبية تختلف عن الموسيقى العلمية الكلاسية بكون كثير من قواعدها لم تدون ولم تضبط علميا، وإنما استمر تداولها بواسطة التلقي الشفهي من جيل لآخر. لذلك فإن نصوص الأغاني لم تبق على أصلها وإنما تعرضت لتصرفات حافظيها ومدوينها مثلما حصل في الموسيقى الأندلسية. وتشير جميلة العاصمي في تمهيدها إلى اقتراحها للإضافات في الأبيات الشعرية المدونة حتى تنضبط مع الصياغة العامة للشعر، وموضوع الأغنية. تقول عن ذلك: "إلا أنني لاحظت قصرا وتكرارا في بعض النصوص، وعدم خضوعها لأية قواعد، الشئ الذي اضطرني إلى نظم مقاطع على وزنها، وإضافتها إلى عدد من القطع التي يشتمل عليها هذا الجزء، وذلك قصد إتمامها وجعلها أغاني متكاملة تخضع لأوزان وقواعد الأغنية الشعبية، وتضع لها بداية ونهاية، وموضوعا محددا" ص 22. وهنا يراودني سؤال مركب ثان: هل المحافظة على التراث تعني الإبقاء عليه كما استمعنا إلى نصوصه أم يجوز لنا التصرف فيه حتى ينضبط ويستقيم في إطار قواعد مخصوصة؟ ومن الجوانب المهمة التي أثارت انتباهي في كتاب "أغاني نساء مراكش" استعماله لمصطلحات موسيقية شعبية من قبيل "فرق المازنية"، و"كريف الميزان"، و"هواري مهزوز"، و"التويشية" وغيرها من المصطلحات المستعملة في الأنواع الموسيقية الأربعة التي عالجتها المؤلَّفة، وكلها تُتداول من قبل ممارسي هذه الأنواع في الحفلات، والأعراس، ومختلف المناسبات المقامة في مراكش. وحبذا لو ينتبه الباحثون إلى هذا الجانب المعجمي والاصطلاحي في أغانينا الشعبية لتوثيقه وجمعه في إطار قواميس متخصصة تساير اللهجات المختلفة المنتشرة في جميع أرجاء المغرب، وذلك على غرار ما فعله في مجال الموسيقى الأندلسية الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل في كتابه "معجم مصطلحات الموسيقى الأندلسية المغربية". نخلص في نهاية هذا المقال التعريفي إلى أن جمع التراث الموسيقي عمل ميداني يحتاج إلى أكثر من جهد. ولعله من الأفضل أن تكون جهودا جماعية. في هذا السياق يندرج عمل الباحثة العاصمي التي تتميز بطموح كبير يحلم بأجزاء أخرى للكتاب. قالت: "الجزء الثاني سأخصصه للأناشيد الوطنية والموشحات والأمداح والحضرة النسائية بمراكش. أما الجزء الثالث فسأخصصه بعون الله ومشيئته لأغاني شيخات وعروبيات وحوزيات مراكش. أما الجزء الرابع، فسأجمع فيه الأحاجي والنكت والأمثال والتعياع، وبعض المقاطع التي تصاحب طقوس العرس المغربي الأصيل، والتي يتقن بها الأطفال خلال اللعب وما شابه ذلك" ص 22 ندعو الله أن توفق ابنة مراكش جميلة العاصمي في تحقيق كل هذا العمل الجاد. وعموما فإن أملنا أن تُجمع موسيقانا ونصوصنا الشعبية، وأن يقوم باحثو كل مدينة وقرية بتوثيقها توثيقا علميا، مستفيدين من الوسائل التكنولوجية الحديثة لإنقاذ ما تبقى منها، في ظل هيمنة العولمة وطغيان ألوان الموضة. 1 - منشورات مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، ط1، ج1، مراكش 2012. سعاد أنقار