إن تشخيص مرض وقوع المغرب في مستنقع التخلف التعليمي والتربوي على غالية مستوياته ومجالاته حسب ما رتبه عليه البنك الدولي ،الذي نشك في نزاهة تقريره وأهدافها السياسية،لا يمكن أن يحصر في مقال أو مقالين أو كتاب ضخم وكتان ،وذلك لأن كل رجل تعليم وكل طالب وكل كاتب وكل صحفي وإعلامي نزيه إلا ويملك سجلا خاصا به ومعلومات متميزة قد يمكن من خلالها رصد الأمراض التي فتكت بهذا المجال حتى أصبح يمثل معرة وشرخا عميقا على جبين هذا البلد الغالي والأبي بمكتسباته عبر القرون والأجيال!. فلقد كان من المفروض أن يصبح المغرب بحسب معطياته التاريخية والجغرافية والحضارية واللغوية ووحدته الوطنية في الصف الأول ضمن ركب الدول المعاصرة والمتحضرة، وذلك لسبب بسيط ،هو أنه يمثل البلد المباشر للقارة الأوروبية المتزعمة للنهضة العلمية المعاصرة ويؤرخ للامتداد التاريخي للحضارة الأندلسية التي هي منه وإليه. عند التأمل في الأسباب الرئيسية يبدو لنا أنه يمكن الاقتصار على نقطتين مهمتين يمكن من خلالهما إلقاء نوع من اللوم على المسئولين المباشرين والمتعاقبين على قطاع التعليم والتربية ومساره ،وكذلك المنظرين لمواثيق إصلاحه ومناهجه التربوية ،وذلك من دون أن نعمم الحكم بالفشل المطلق والسلبية الشاملة في هذا المجال. إذ التعميم بهذا الشكل قد يكون تطرفا في الحكم ومجاراة مغلوطة لما يمليه علينا الآخرون من الخارج ،وبالتالي سنقع في دوامة النقد الذاتي من خلال توجيهات العنصر الخارجي،وهذا مما قد يتنافى مع أبسط قواعد المنهج العلمي والغيرة الوطنية السليمة والمعتدلة.ولهذا ف »إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم » كما قال النبي صلى الله عليه وسلم! من هنا فالحكم بالفشل الشامل على مجال التعليم ببلادنا هو من نمط القائل « هلك الناس »،لكن كأن نقول بأن هناك خلل ينبغي استدراكه ومرض يقتضي علاجه فذاك هو المنطق العلمي والأخلاقي الذي ينبغي أن يسلك ويحتذى من غير إملاءات خارجية أو مضاربات ومزايدات سياسية انتهازية… أولا: سؤال السقوط والتعثر بين العجز والهروب وتتضمن السؤال عن السبب الرئيسي في تخلف التعليم في بلادنا والذي قد يعني إن هو تحقق الاقتراب من الموت المحقق للفكر ووقوعه في بطالة شاملة لكل مرافق الحياة العامة. هذا السؤال قد يمكن لنا صوغه باللغة الدارجة العامية في نكتة هي:سئل رجل عن سبب وفاة أبيه فأجاب ببساطة ولامبالاة :بابا طاحْ ماناضْ! يعني أن هذا الولد البار لم يكلف نفسه العناء لمعالجة أبيه بجدية والسهر على راحته وصحته بالصورة اللازمة،لأنه عاجز عن فعل ذلك أو غير مبال بخطر ما سيؤول إليه أبوه،فكان أبسط جواب وأسهله على من سأله هو نسبة العلة إلى فشل ذات أبيه وجوهره وليس إلى العوامل المؤثرة فيه ربما ،قد يكون هو نفسه أحد عواملها، والتي قد تراكمت عليه حتى وصل إلى ما وصل من إنهاك وعجز لا يستطيع معه حراكا … فالمرض قد كان واضحا والخطر قائما ولكن مع ذلك قد اصطدم برفض مبطن للقيام بالواجب واستدراك الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه . بهذا الموقف فقد كانت هناك خطيئتان قاتلتان أحلاهما مُرٌّ علقم. الخطيئة الأولى :هي عدم وجود الرغبة في تكلف العناء لتشخيص المرض ذاتيا وبوسائل محلية وفي متناول اليد والإمكان. الخطيئة الثانية :هي اللامبالاة بالمرض وعلته وعدم الرغبة في طلب العلاج له من طرف الآخر الصادق في نصيحته وصداقته، الذي ربما يكون قد جرب دواء ما لنفس المرض ونجح في تمثله وامتصاص مكوناته. لكن مع كل هذا فمهما طلبنا الدواء من الخارج من دون تشخيص المرض من الداخل بإرادة صادقة في تناوله مع إدراك أوجه المناسبة بينه وبين ما يقتضيه من تدرج وتوقيت مناسب فقد لا نصل إلى النتيجة المرجوة . إذ كيف نعالج من لم نعرف جوهر مرضه والسبب الرئيسي في علته وكيف نعطي للمريض دواء لا يتناسب مع حجم ونوع علته ؟فاسألوا أهل الطب إن كنتم لا تعلمون!. هذا الإشكالية من مبدأ « طاح ماناض »هي بعينها التي قد يعاني منها مجال التعليم والتربية والتكوين في بلادنا بل غالبية البلدان العربية ودول العالم الثالث كما يسمونه تبكيتا ،وذلك من خلال الهروب اللامسئول من الجلوس على الطاولة والمقعد الخشبي الصلب للنظر الجدي في العلة الرئيسية للمرض الذي أدى إلى هذا المآل المأساوي والمعرة في جبين قطاع التعليم والتربية والتكوين في بلادنا، بلد: الآجرومية والمرشد المعين وفاطمة الفهرية وابن رشد وابن طفيل وابن عربي والشيخ خليل والقاضي عياض… يا معشر العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد فالنداء إلى إصلاح المنظومة التعليمية ببلادنا قد دق ناقوسه إعلاما بالخطر منذ زمن طويل ولكن من داخل البلد وليس من خارجه ،وبواسطة رجاله المخلصين والغيورين على وطنهم لا الأجانب والمنظمات المشبوهة والمتربصة به. لكنه لما لم يستمع إلى آرائهم وملاحظاتهم التي هي في صميم خدمة مصلحة البلاد والعباد تقلصت أفكارهم وتقزمت طموحاتهم والتزموا حينها منطق « الصمت حكمة »و »من صمت نجا »إلى أن يظهر الحق الذي سيفرض نفسه على أرض الواقع بشتى الصور والألوان ولو على يد وألسنة الأعداء ومن لا مصلحة له في تقدم المغرب أو تطوره،وهذا ما حصل على نموذج أكلة البطاطس وتدخل العنصر الخارجي لإرغام الطفل الغر والعنيد لأكلها عنوة رغم كراهيته لها ،لأن فيها مصحته وبقاءه. لهذا فقد كان كلما ظهر منتقد للبرامج التعليمية والتربوية وتراكماتها السلبية منذ بداية الاستقلال إلى يومنا هذا إلا ووضع رأيه في سلة المهملات وطي النسيان ووسم إما بالرجعية أو التطرف أو اليسار واليمين بحسب نوعية المتناوبين على قطاع التعليم وتوجهاتهم الأيديولوجية ومستوياتهم الطبقية،حتى الجرائد التي قد تسمى وطنية زعما ستسد الباب وستسلك منهج النخبوية والإقصاء والنشر بالمقاص. كل هذا قد كان سببه – فيما أظن – وجود نظرة دونية من طرف رجال السياسة المفترضين إلى رجال التعليم كعقد نفسية مرضية لا يمكن تفسيرها وتراكمات تاريخية وثقافية سلبية. حتى إن المواثيق والمناهج وترتيب السلالم والقرارات حول الترقيات المتضاربة(كقانون 1997 الجائر في حق شريحة جد مهمة من رجال التعليم العالي ضاعت معه أقدميتهم وحقوقهم المالية والمعنوية لغاية الإحباط) التي صيغت وتصاغ قد كان لا يؤبه فيها بمشاركة المعنيين الميدانيين بشتى مستوياتهم وأطرهم،بل إن الإدارة هي التي تقرر وتقبل وتجيز ما يحلو لها من مناهج وقوانين من غير مراعاة لتخصصات أو استشارات حقيقية أو ديمقراطية مزعومة كحبر على ورق.،ولم يستدرك الوضع وإعادة الترتيب إلا بعد مساومات وتضخم وشيخوخة لم تفد فيها الترقيات شيئا ذا بال. من هنا ستأتي النتائج السلبية حينما يتصدر القرار في المجال التعليمي التربوي غير المختصين من أهله فيعجزون عن تشخيص المرض القاتل والفتاك بالبنية التعليمية جملة وتفصيلا،وسيكون أسهل جواب عن سبب الوفاة غير المعللة أو المستدركة هو »طاح ماناض ». ثانيا:الجواب الشافي على سلبيات التسييس والتيئيس فعلى عكس الجواب السلبي الذي كان من أسباب إيصال المغرب وحجزه للرتبة المشرفة !في السلم العالمي حسب تقرير البنك الدولي سيبرز صدق أولئك المقصيين والمهمشين لأسباب ذاتية وفئوية وسياسية حزبية ضيقة ممن التزموا منطق « الصمت حكمة ». بحيث سيصبحون هم المؤهلين إن خلصت النيات لإشراكهم في منظومة الإصلاح الفعلي والمتكامل للمنظومة التعليمية بلادنا للإجابة عن الأسئلة المتراكمة حول سبب فشلها، رغم ما يبدو في بعض أوجهها من بريق زائف ودعايات وشعارات مموهة حول سلامة المسار ونجح الميثاق الوطني للتربية والتعليم بنفس الطريقة التي يروج لمدونة الأسرة ومشاكل تطبيقها مما لا يمكن إخفاؤه وتغطيته،وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. هذه الإجابة ستكون سهلة وموضوعية وواقعية إلى حد ما،كما أنها تمثل المبدأ الثاني الذي ينبغي اعتماده في معالجة هذا الوضع المزري والمسيء لقيمة العلم ببلادنا. يتلخص هذا التوصيف في النكتة المشهورة التالية: »قيل لرجل كان أبوه قد ركب حمارا وخرج من البيت: »باباك طاحْ!فأجاب ببداهة وسرعة لوعيه بحال أبيه:حِيثْ مْن الدار خْرج مايِلْ »! فبداية الاضطراب والتعثر قد بدأت منذ أن حصل المغرب على استقلاله كان من أبرز مظاهره باختصار شديد وإمكانية التفصيل في وقت لاحق إن تيسر لنا ما يلي: 1)القيام بالتوظيف العشوائي لكثير من رجال التعليم بمجرد أن بعضهم يعرف قراءة الحروف الأبجدية قد لا يحسن إجادتها، وهذا مما أد إلى تفاوت مستويات المتعلمين فيما بينهم وحظوظ وقوع بعضهم تحت رعاية هذا المعلم أو ذاك . بحيث سيكون الذي من حظه المعلم ذو الكفاءة الممتازة بطبيعة الحال هو الأنجب والأكثر تطلعا ونجاحا على غيره ممن سيتعثر بتعثر معلمه أو أستاذه،ناهيك عن هذا أن رجال الطبقة المترفة وأصحاب الألقاب الوطنية المحتكرة باسم المقاومة وغيرها سيرسلون أبناءهم إلى البعثات الأجنبية أو ستعطى لهم دروس خصوصية ،ومن هنا بدأت الفوارق الطبقية على مستوى التعليم والتربية مما سيؤدي إلى مرضين متعاكسين ومتضادين وهما :عقدة الشعور بالنقص من طرف غير المحظوظين وعقدة النرجسية والاستكبار من جهة أصحاب البعثات والسفريات. هذا الانشطار في مجال التعليم سيضيع الفرص على ذوي الطاقات الكامنة وأصحاب الطموحات من أبناء الشعب البسطاء والوطنيين حقيقة وتاريخا واقعيا،وهو ما رفضه الإمام مالك رحمه الله تعالى لما أراد هارون الرشيد منه أن يخصص لابنه دروسا منفردة في قصر الخلافة متعللا بقوله: »إن هذا العلم يا أمير المؤمنين قد خرج من عندكم فإن أنتم أهنتموه هان وإن أعززتموه عز ». لأن عزة العلم هي أن يقوم تحصيله على العدل وفتح المجالات لكل طاقة في المجتمع كي تبذل جهدها للوصول إلى طموحاتها الإيجابية والتي ستنعكس على كل الأمة إن هي وجهت تربويا وأخلاقيا. 2) بداية التعريب في التعليم تحت شعار العروبة والإسلام وإبراز فعالية الاستقلال ورجاله ،وهكذا قد كان منطق جميل من حيث المبدأ وبالتالي فقد استدعي له أساتذة أكفاء من الشرق العربي وخاصة الجمهورية العربية المصرية. غير أن الحرب مع الجزائر في بداية الستينات والانحياز السياسي لدولة مصر إليها ضد المغرب المضياف ستؤدي إلى رد فعل طبيعية ومنفعلة في نفس الوقت وستطال هيئة التدريس ببلادنا ،ومن ثم إعادة المصريين إلى بلادهم وإلغاء مشروع التعريب الشامل كما كان ينادى به حينذاك . بهذا سيخسر المغرب رهان التعريب إلى يومنا هذا على مستوى العلوم والرياضيات ومواد الفيزياء والكيمياء وغيرها،بحيث قد كان ،ما زل المصريون حاليا يوظفونها في قنواتهم الفضائية بنجاح وبدون عقدة نقص نحو اللغة التي هي أشرف اللغات،يدرس شاملا بقواعده ورموزه وحروفه كما نجد في سلسلة « الجبر الابتدائي » و »المكتبة العلمية الميسرة » الصادرة عن معهد الإنماء العربي وذات الجودة العالية في التعريب والتبويب والمواضيع من فيزياء وكيمياء وذرة وفلك… وليس كما هو حال التعريب الذي الآن عندنا في المغرب في صورة خلط وتشتيت ذهني وسيكولوجي للتلميذ عند تناول العلوم منشطرة ومتشظية بين حروف فرنسية وتعليقات فَرْعَبية،فلا هي عربية فصحى ولا هي فرنسية رومانسية ! أي أن التعريب عندنا جاء عبارة عن تصادم اليمين واليسار على غير قاعدة علمية أو جمالية وفنية ،تماما كما هو حال السياسات الحزبية في بلادنا في صراعاتها بين اليمين واليسار ،حيث لا لهذا ولا لذاك وجود على الحقيقة حينما تكون الأيدي الفاعلة مشلولة وغير قادرة على تحديد الاتجاه والمسار السليم.وهذا ما دفع ببعض السخفاء إلى اتهام اللغة العربية بأنها ضعيفة عن مجاراة العلوم والتكنولوجيا وغير ذلك ،بينما الداء والدخن لم يأت إلا من قبل مثل هؤلاء المتطفلين على العلم والإعلام بكثرة اللغط وخبط الكلام !. فكانت تلك الأحداث أول ضربة للتعليم تحث غطاء الغيرة الوطنية والوحدة الترابية وما إلى ذلك ،مما سيتشخص واقعيا بالعودة للاستنجاد بالمجندين الفرنسيين بشكل مكثف وإطلاق العنان لهم ليصولوا ويجولوا بمناهج التعليم ومستوياته. في أواسط الستينات كان قد بدأ المد الشيوعي والاشتراكي يتغلغل في أوساط الطلبة ومعهم رجال التعليم بطبيعة الحال وبالتالي سيعرف حزب الاستقلال انقساما إلى ما سيعرف عند أصحاب هذا المد بالاتجاه الرجعي و التقدمي. فالرجعي المزعوم حسب تصنيف الاشتراكيين والتقدميين قد كان هو الذي يسير دفة التعليم ويتحكم في دواليبه،ومن ثم فكان لابد من افتعال الاضطرابات في البلاد والدعوة إلى النضال والإضرابات المتوالية،حيث التاريخ يعيد نفسه،بل حبك الانقلابات والمؤامرات… 3) هذا التوتر سيؤدي إلى طغيان الهاجس الأمني على السياسة الرسمية للبلاد وسيتركز خصوصا على مجالات التعليم والجامعة بالأخص ،وسيصبح من الضروري ضبط الخلايا المعارضة والمتطرفة من اليساريين والتقدميين وما إلى ذلك . في حين أن القصر قد كان يبذل أقصى ما في وسعه، كما يبدو، لكسب هذه الشريحة المهمة بل الجوهرية في المجتمع والدولة ،وذلك من خلال إبداء بعض الالتفاتات والمكرمات التي كان يقدمها لطلاب الجامعات وأساتذتها. بحيث قد يحكى من مصادر موثوقة ومعايِنة للحدث أنه في بداية الستينات أو أواسطها كان الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى قد قام بزيارة تفقدية وهو ممتطيا جواده إلى الحي الجامعي بالسويسي ،وذلك في إطار فتح باب التواصل ،تماما كما نهجه خليفته الملك محمد السادس في بداية ولايته،مع الفئات الطلابية وإبراز التعاطف وكسب الانعطاف نحوهم ،لكنه مع الأسف سيفاجأ باستقبال سيء جدا مبني على الصفير والسباب والاتهام بالمصطلحات البذيئة كنموذج الرجعية والإقطاع…وذلك كمؤشر على بدايات فساد واختلال المنظومة التعليمية والتربوية في بلادنا بفعل المؤثرات الإيديولوجية والحزبية المتطرفة. فما كان منه إلا أن قفل راجعا من حيث أتى بانطباع محبط واستياء ممن لم يقبلوا التكريم الملكي والتواضع السياسي ،من طرف وطني أصيل ومسئول أمام الله وأمام العباد فيما يتخذه من قرارات وتدابير لصالح البلد الذي يحكمه. فقد كان أقصى ما رد به على هذا الاستقبال غير المسئول ،كما يحكى والعهدة على الراوي ، أن غيرت وجبات الحي من الدجاج المحمّر والمشوي من اللحوم والفواكه المتنوعة إلى أنواع من القطاني كالعدس واللوبيا وما شاكلهما كنتيجة لشد الحبل حينما لا يحترم القانون ولا الأعراف من كلا الطرفين ،وكأن الحسن الثاني كان يقول لهم بلسان حاله التربوي هذا: وأنت إذا أكرمت الكريم ملكته وأنت إن أكرمت اللئيم تمردا فخلفية الاستقبال لم تكن مجرد طيش طلابي أو سفه طارئ وإنما كانت مبرمجة وقصدية تسعى إلى تهديد النظام واستقرار البلاد في مهده،وهذا ما لم يكن يغيب عن وعي الملك الحسن الثاني ، وهو السياسي المحنك والنموذج الأذكى من بين المغاربة . هكذا سيصبح التعليم محاصرا بين كماشة الملك الذي له حقه في المطالبة بالاحترام وتقدير المكانة حتى يثق بالشريحة التعليمية ويهتم بها من غير تحفظ أو توجس،بينما الجانب الآخر من الكماشة كانت الأحزاب التي تتصارع حول أيهم يستطيع استقطاب الطلاب للعب ورقة الحكومة المستقبلة والتجييش للانتخابات بإضراباتهم واحتجاجاتهم ،بينما الدول الخارجية أو الكتل الشرقية والغربية وذات الأطماع في المغرب قد تدعم هذا التيار أو ذاك،في حين سيستعمل الطلبة كلعبة في ساحة الثيران وفريسة أو مطية مستساغة بشكلها الانفعالي والثوري القصير النظر. فكانت أحداث 1967وإضرابات السبعينات واستغلال حرب الخليج من طرف الجماعات والمنظمات التي دخلت كطرف ثالث في هذه المعادلة الخاسرة والمائلة منذ البداية،فتوالت السنوات البيضاء وتراكم الخريجون وخاصة الحقوقيين عند بداية الأزمة ،ومن ثم عمت البطالة وتقلصت المباراة إلى درجة الصفر في كثير من القطاعات العامة. بعد هذا سيأتي العجز عن التوظيف وسيتحول الاشتراكي والتقدمي إلى الرأسمالي وسيصبح المتزعم للخوصصة الفظيعة المتطرفةو المتوحشة نكما أنه هو و الرأسمالي أصلا سيهربان بالمال وما حمل الجمل من الموارد العامة نحو الخارج إما للاستثمار الشخصي أو الاستهلاك الترفيهي المتطرف! وبهذا سيتساوى اليمين واليسار حيث لا هذا ولا ذاك -كما قلنا- وستطرح مسألة سوق الشغل وعلاقتها بالجامعة وبالتالي سترمى كرة الفشل السياسي إلى الحرم الجامعي الذي أفشله أصحاب التيارات وأيديولوجيات الصخب والسباب. 4) هكذا سيصبح قطاع التعليم مختبرا للتجريب على الفئران ومكنسة للتناوب السحري بحسب الحكومات المتوالية في البلاد بعدما حصل التوافق السياسي على تناول الكعكة من كل جوانبها كل حسب مقصه ونياته. بحيث إن هذا التناوب سيؤدي – كما سبق في مقال لنا -إلى تعقيد مشكلة « القِدْر بين طباخين » ،الذي قد لا يوصل أبدا إلى تناسق مذاقه وطعمه مهما برمج له وحرص على حسن تشكيله وتنوعت توابله. إذ سيصبح الأمر كشد غريق بغريق وكما يقول المثل المغربي: »تلك العُشبة من تلك الشجرة »،أي أن الإدارة الجامعية ستبقى رهينة بالتوجهات السياسية وستخضع للإملاء وستفتقد إلى التنسيق بين هياكلها الداخلية فما بالك بالخارجية. في حين سيخوصص القطاع التعليمي بشكل فظيع وعشوائي متناسل على نمط خوصصة المجال الصحي ذي الخاصية العامة والإنسانية كما أن شأنه شأن التعليم في الأهمية،وستنافس ،أو تكاد تقبر، الجامعة تأثرا بظاهرة المعاهد والمؤسسات ذات الوجبة السريعة وصفة المضاربة التجارية في باب العلم والتربية والتكوين المهني، الذي قد ينتهي بنفسه ومنهجه عند التقليد والاستيراد لا البحث والاستكشاف والمنافسة العلمية ببراءة الاختراع والإنتاج،مما قد يبدو في نهاية المطاف أن المسألة في مجملها مجرد: »بيزنس إيس بزنس ». كما من بين العوامل القاتلة لقيمة التعليم ودوره في بلادنا حينما سيصبح المعهد المخوصص هو الباب الأرقى والأوحد للتوظيف ومنح فرصة الشغل،أي بلغة الوضوح من له المال سيحصل على عمل ومن لا فسيؤول إلى بطالة وكسل وبالتالي قبر الطموح وهدم القيم وتكسير الهمم،حتى إن الطفل الصغير سيكره المدرسة من أول يوم يدخلها ،لأنه بحسب المناهج التركيمية والعشوائية في خلط المواد سيبدأ بالتدرب على أن يصبح حمَّالا إذ سيكلف بحمل محفظة على ظهره قد يزيد وزنها عن عشرين كيلوغراما متناسبة مع وزن جسمه من الأوراق بدون فائدة كثيرة ولا وعي كلي بمضمونها » كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا » بحيث قد يلقن الجملة المركبة قبل المفردة ، والسياسة قبل الدراسة ،والسبب في هذا كله كما يبدو هو هوس سوق الشغل والمضاربات التجارية والورقية على حساب القيم التعليمية وأهدافها التربوية والوطنية ،من دون التمييز بين ما يدخل في إطار العلوم المهنية والخدمات الاجتماعية المادية وما يندرج في إطار التكوين العقدي والسلوكي والوطني للطفل ،الذي بدونه فلن يكون اقتصاد ولا عدل ولا مساواة ولا معاملات مستقرة في جميع القطاعات… ثالثا:المختصر المفيد في اقتراح العلاج والتجديد هذه باختصار بعض ملاحظاتنا المقتضبة والناقصة والسريعة لكنها صحيحة واقعية إذ »الميَّة بِتكذِّب الغطَّاس »كما يقول المثل المصري. خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل فملاحظاتنا هذه قد أجملناها وصغناها من خلال الواقع وبانفعال واضح وتأسف على بعض العلل التي أدت إلى النتيجة السيئة التي وصل إليها مستوى التعليم في بلادنا ،قد كنا بدورنا ضمن ضحاياه في مرحلة تمدرسنا واضطرابنا عندها، وهي بكل وضوح تبين نقط الميل الفظيع الذي خرج عليه التعليم من مهده على مراحل متفاوتة ومتأرجحة وهو ممتطيا صهوة لا يدرى ما نوعها حتى سقط على أم رأسه من حيث لا يريد: حتى إذا ما انجلى عنك الغبار تبين هل فرس تحتك أم حمار فالتعليم كمنطق سليم ونصيحة وطنية غيورة ينبغي أن يبقى بعيدا عن المؤثرات الحزبية والصراعات الإيديولوجية والمخابراتية ،شأنه شأن الطب والصحة عموما والتي قد لا يميز فيها بين زيد أو عمرو عند العلاج، وذلك للحفاظ على سمو همم رجاله ومعلميه ومتعلِّميه حتى يطلبوا العلم من أجل العلم ويقرؤوا ويشجعوا على القراءة ،التي يبدو قد انهار مستواها بشكل شبه عام، سلوكا وتحفيزا عمليا لتعم الفائدة الجميع ويتعاملوا مع الحقيقة كما هي ،وبالتالي يزدهر البحث العلمي ونواكب التطور بعزم وقوة عزيمة وهدف راق وإصرار وطني. من هنا فأقترح بأن تصبح وزارة التربية والتعلم وزارة السيادة ،المتميزة البديلة وليست التقليدية، وذات القدرة على اتخاذ القرار بواسطة أهل التخصص والتواصل مع رأس النظام في البلاد على أساس التفاهم والإقناع والفكر المستنير، حتى يتحقق التكامل بين الحاكم والعالم كما نظر لذلك علماؤنا عبر التاريخ على أساس رعاية المصلحة العامة،وبهذا فلن يخضع مجال التعليم لابتذال التناوب سواء كان حكوميا أو إيديولوجيا حزبيا وكتليا. إذ التناوب على الوصاية التعليمية والتربوية عبارة عن احتضان مؤقت وعابر،والحضانة إذا تميزت بالتناوب على المحضون – وهذا مما يعرفه أهل الفقه والقانون- ضاع وفسدت أخلاقه وساءت معاملاته ومراحل نموه. هذا الاقتراح كنت قد طرحت جزء منه أثناء مؤتمر للنقابات الجامعية كان قد انعقد في تطوان قديما، في إطار البحث عن الأرضية التوافقية التي كان يسعى إلى تحقيقها رجال التعليم العالي خاصة مع الحكومة آنذاك أي منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة. بحيث كنت أقول:ينبغي فتح قنوات اتصال مباشر بين رجال التعليم والملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله تعالى على أساس المودة ومناقش المصلحة العليا للبلاد من غير هواجس أمنية أو تشحين إيديولوجي لم ولن يؤدي إلا إلى توتر متبادل،كما عبرت بالدارجة :إذا قصدتم فاقصدوا الدر الكبيرة. وهذا الاقتراح لا ينبغي أن يفهم منه تملقا أو تنازلا من أجل التقرب إلى السلطة بصورة مجانية وعلى حساب المصلحة العامة، ولكنه هو الرأي السليم والسديد الصريح لتثبيت الأمن الفكري والعقلي والعقدي والروحي للمجتمع المغربي ،والذي قد لا يتنافى أو يتعارض مع الأمن المادي والسلم الاجتماعي،إذ الوطن وطننا والملك ملكنا والمجتمع مجتمعنا والدين ديننا والمصلحة العامة غايتنا ومجمعنا: » فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ». فالتعليم لا ينبغي أن يصبح ألعوبة في يد الأحزاب ،سواء كانت تقليدية أو متناسلة جديدة وطارئة، وكذلك النقابات المنضوية تحت لوائها،بحيث كلما جاء وزير من حزب ألغى مشروع الوزير السابق وبدأ يفكر في الإصلاح المزعوم وإعادة ترميم حتى بناية الوزارة نفسها، وكأن العلم لا ثوابت له أصيلة تضبطه ولا مناهج قارة أو تجارب وقوانين حتمية تفرضه… من هنا فقد أرى مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى في الحفاظ على قدسية العلم والتعليم لتحقيق هدفه المنشود وتقدم اطراده ،كما عبر في فتواه الرائعة هاته حينما استشاره الخليفة المهدي أو ابنه المنصور في إعادة بناء الكعبة على ما كان قد صنعه ابن الزبير حينما رماه الحجاج بالمنجنيق وأعاد بناءها عبد الملك بن مروان إلى ما كانت عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال رحمه الله تعالى: »إني أكره أن يتخذها الملوك ملْعبة!!! ». قياسا على هذا فالتعليم قد نكره ونستهجن أن تتخذه الأحزاب ،رغم احترامنا لجميعها وأدوارها الاجتماعية والسياسية وكذلك المضاربين التجاريين والمنظمات الدولية ،ملْعبة وحقل تجربة وتعلما للحجامة في رؤوس اليتامى. فنحن لسنا هكذا كما قد توهمه البعض، وتعليمنا ليس كله فاشل أو عاجز ،وإنما لنا جذور وأصول ثابتة حضاريا وثقافيا وعقديا وعلميا على جميع الأصعدة والمستويات نستطيع بها مقاومة التحديات وإثبات الذات، بل ينبغي فرضها في الواقع وعلى أسرع وتيرة وبأحسن وجه ،ولكن حينما تتحدد النوايا ويأخذ الجد مسلكه وتخصصه « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ « والله لا يضيع أجر المصلحين. الدكتور محمد بنيعيش كلية أصول الدين جامعة القرويين المغرب