* انطلاقا من سنة 1956، حيث استعاد المغرب استقلاله الوطني، عمل ورش التربية والتعليم بأساليب ومخططات وإستراتيجيات مختلفة، بهدف تعميم التعليم، وانفتاحه على القيم الروحية والثقافية، وتوفيره فرص متكافئة لمختلف مكونات الشعب المغربي، للانخراط في أسلاكه ومنظوماته. كما بذل جهدا ملحوظا من أجل إدماج العلوم والتقنيات الجديدة في برامجه، في محاولة لتكييفه مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر العالمي الحديث. إلا أن السياسات التي اعتمدها هذا الورش، منذ البداية، والتي قامت في أساسياتها، على الاستجابة لمرحلة ما بعد عهد الحماية، استنفذت أغراضها مع ظهور عصر العولمة، ومعالم “القرية الكونية” وهو ما كان يتطلب طي مرحلة الماضي، وبناء نظام تربوي جديد، في مستوى تحديات العولمة والقرية الكونية الجديدة، وهي تحديات تقوم على مبادئ وقيم مغايرة. في أفق ستينات القرن الماضي، عرفت التربية في بلادنا توجها عاما، تجلى في ربط التربية بالتنمية، و هو ما كان من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى التنمية البشرية، و الإحساس بإنسانية التربية ، و لكن مع حلول الألفية الثالثة، فوجئ المغاربة بتراجع موضوع التربية إلى مرتبة ثالثة، بعد العولمة و الديمقراطية بحمولتها الضخمة، القائمة على حرية الفكر/ حرية السوق/ حرية الاعتقاد. و فوجؤوا أكثر من ذلك، بعدم قدرة السياسة التربوية على التصدي للآثار السلبية الناتجة عن عولمة الاقتصاد، و لا التصدي لإشعاعية الديمقراطية. – 2 – هكذا، وبالرغم من الإنفاق الضخم الذي صرفته الدولة على قطاع التعليم خلال العقود الخمسة الماضية (حوالي 25 % من الميزانية السنوية العامة) لم تستطيع الأنظمة التربوية، الإسهام في عملية التنمية المنشودة، ولم تستطيع تحقيق النتائج المرجوة، للديمقراطية إذ ظل التعليم متخلفا في مناهجه وهياكله ومضامينه و طرائقه. إن النقد العلمي / التربوي، الذي واجه السياسات التعليمية بالمغرب خلال العقود الخمسة الماضية، يؤكد أن هذه السياسات عرفت تخبطا و عدم وضوح في العلاقة بينها وبين احتياجات الهيكل الوظيفي للتعليم، إضافة إلى غياب فكر تربوي واضح المعالم من شأنه إنجاز مهام التنمية الشاملة، التي طرحت نفسها باستمرار على المغرب خلال هذه الفترة من التاريخ. وفي نظر الباحثين في الشأن التربوي المغربي، أن القصور في هذه المسألة، لا يعود فقط إلى فشل النظام التعليمي وحده، ولكن أيضا إلى إخفاق وفشل برامج التنمية ذاتها، لعدم قدرتها على استيعاب الاحتياجات الفعلية للواقع المغربي، وما يرتبط به من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وفي نظر هؤلاء الباحثين أيضا، أن السلبيات التي أحدثت فجوة واسعة بين النمو في جهاز التعليم، والنمو في حركة الواقع المغربي متعددة، يمكن إنجازها في: 1 – عدم استطاعة سياسات التعليم، الوفاء بحاجات البلاد صناعيا وزراعيا. واستيعاب الطاقة العاملة، مما خلق فائضا كميا كبيرا في إعداد الخريجين، واعاق بشكل ملموس، عملية التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد. 2 – الاتجاه المستمر لسياسات التعليم، نحو تغطية حاجيات الإدارة من الكوادر الوسطى، وهو ما يتنافى تماما مع مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة. 3 – عدم اهتمام سياسات التعليم، بالتعليم التقني، وجعل كل الحوافز أمام التعليم الجامعي 4 – اعتماد سياسات التعليم، في العديد من المحطات لأهداف طموحة، من غير أن تسخر لها الوسائل الكفيلة لتحقيقها. 5 – عدم استناد هذه السياسات على تخطيط علمي، يضمن التوازن الضروري بين أهدافها وبرامجها من جهة، وبينها وبين المخططات الاقتصادية من جهة أخرى. 6 – عدم اعتماد هذه السياسات على استراتيجيات متواصلة للتكوين المستمر للأطر العاملة في حقل التعليم، تواكب أهداف التنمية و طموحاتها. 7 – افتقار هذه السياسات إلى مقومات وخصائص التعليم السليم، الذي يكون عونا على التعليم الاقتصادي والاجتماعي، إذ ظل مسخرا لخدمة أهداف النمو الاقتصادي، الذي تتحكم فيه قرارات خارجية، وليس التنمية البشرية التي تستجيب للمتطلبات الوطنية . – 3 – بذلك يكون ورش التربية و التعليم انطلاقا من سنة 1956، وحتى اليوم، رغم ما بذله من جهد، لم يستطيع الإسهام في عملية التنمية المنشودة، لم يحقق النتائج المطلوبة، إذ ظل بشهادة الحكومات والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، وبشهادة علماء التربية، متخلفا في هياكله ومضامينه وطرائقه. لم تمس المحاولات المتعاقبة لإصلاحه، إلا بعض جزئياته الشكلية، من دون أن تغير من مقوماته الجوهرية. فبقى أسير أوهام الماضي، سواء في تمسكه بأسلوب التلقين، أو في اختزاله تقويم الكفايات والكفاءات، أو في القدرة على الاسترجاع والاستذكار، لم ينجح في أن يجعل التفكير العلمي بديلا عن التفكير الخرافي القائم على الحدس والوهم. لم ينجح في تأسيس ثقافة شعبية قائمة على أسس علمية بديلة، يتطلبها التواصل مع عصر العولمة…ومع تحديات الديمقراطية… ومع متطلبات التنمية. يعني ذلك بوضوح، أن السياسات التعليمية في المغرب ونتيجة للسلبيات المذكورة، قد ركزت خلال العقود الخمسة الماضية على المحفوظات والمعلومات والمقررات، أكثر مما اهتمت بصياغة الإنسان/ المواطن الصالح/ العارف لحقوقه وواجباته/ المشبع بقيمه الوطنية والروحية والإنسانية/ المؤهل لمواكبة التطورات الفكرية والعلمية، ومتطلبات العولمة والحداثة. ونظرا لهذه الحالة من التردي، التي لم يستطيع ورش التعليم المفتوح على مصراعيه منذ سنة 1956، وحتى الآن، معالجتها أو التحكم في سلبياتها، فإن أية مقاربة تقليدية للإصلاح أو المعالجة، لم يكن أمامها سوى إعادة إنتاج نفسها وبدرجة أسوأ. وأقصى ما أعطته من نتائج، هو محافظتها على مستوى تخلفها عن الركب العالمي. إن ما قد ينتج من آثار وخيمة على مستقبلنا الاقتصادي/ الاجتماعي/ الحضاري، جراء سيادة العولمة، واكتساحها في غياب نظام تربوي على مستوى تحديات هذه ” السيادة ” قد يعرض واقعنا، كبلد ينتمي للدول الأكثر تخلفا في اقتصاده، يعاني من الأمية المتعددة الصفات : ( أمية أبجدية. أمية تكنولوجية . أمية سياسية. أمية ثقافية ). ويعاني من الفقر والتهميش والبطالة، لا يخضع لأي تخطيط، غير مرتبط بأية صيرورة تنموية … قد يعرضنا لتأثيرات سلبية، لا أحد يستطيع تصورها أو تحديد نتائجها. إذن ما هي التربية التي يجب اختيارها لبلد في وضعية المغرب، في ظل المتغيرات التي يعرفها عالم اليوم، والمتعلقة خاصة بالتنمية البشرية. وبالعولمة و التنافسية والتبادل الحر والحداثة و التكنولوجية؟ ما هي التربية التي تستطيع تدارك ما فات لبلد في وضعيتنا، وتحقيق قفزته النوعية التي تضعه على سكة العصر، بقيم جديدة، ومسارات جديدة تستجيب لاختياراته الديمقراطية والحضارية، ولقيمه الروحية…؟ – 4 – يلخص علماء الاقتصاد مفاهيم التنمية البشرية، التي تضعها السياسات التعليمية ببلادنا كاختيار أساسي، في اكتساب الساكنة القدرة على الرفع من ناتجها الحقيقي الإجمالي، بكيفية تراكمية. وهو ما يعني الزيادة والتوسع في الإنتاج/ الاستغلال الأمثل للموارد البشرية المتاحة/ الرفع من قدراتها الإنتاجية/ تهيء تكافؤ الفرص الاقتصادية بين المواطنين وبين المناطق المختلفة للوطن/ الارتفاع في الدخل السنوي للأفراد/ التنوع في الاقتصاد الوطني/ المحافظة على التوازن بين المشاريع الصناعية والزراعية. ومن أجل تحقيق هذه التنمية على أرض الواقع يؤكد العديد من المفكرين وعلماء التربية و الاقتصاد في عالم اليوم، أن التخطيط التربوي القائم على تنمية الثروة البشرية، وحده يستطيع تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة. فالتنمية البشرية لا تنحصر في إطار اقتصادي صرف، ولكنها تتجاوزه إلى إطار واسع للنمو، تأتي في تراتبيته، الناحية البشرية قبل الاقتصادية، لذا تأتي عناية الدول المتقدمة حضاريا واقتصاديا واجتماعيا، بالثروة البشرية، وتسخير هذه الثروة للازدهار والتقدم ورقي المجتمع، في مقدمة أهدافها التربوية… والتنموية. يعني ذلك، أن العلاقة جدلية بين التربية والتنمية. فكل واحدة منهما، تؤثر وتتأثر بالأخرى، لدرجة يصعب الفصل بينهما. فالتربية تؤثر على التنمية من خلال المشروع الذي يتم تحديد غاياته وأغراضه بكل دقة و موضوعية، ورصد الموارد والإمكانات لتحقيقه وتقويم مراحل إنجازه، مما يسمح في نهاية المطاف من تحقيق أهدافه المخططة والمرسومة. وبالمقابل تستفيد التربية من التنمية، بحيث يساهم النمو الاقتصادي، في توفير الحاجيات الأساسية للمجتمع وتحقيق فائض الأموال الضرورية لتطوير العمل التربوي وجعله يحقق أفضل مردودية تنموية. – 5 – * من بين السمات البارزة للألفية الثالثة: العولمة الاقتصادية/ شمولية التبادل الحر/ الصراع التنافسي بين الدول/ التطور التكنولوجي المتواصل/ التواصل الإعلامي، السياسي، الثقافي المطرد/ التنمية البشرية، وهي تحديات تواجه قبل كل شيء، الأنظمة التربوية التي أصبح عليها تكوين المواطنين، بناء على مناهج المعرفة، وعلى روح الحداثة، وعلى استيعاب التطورات العلمية التكنولوجية وتسخيرها لفائدة المجتمع والدولة، ذلك لأن الأنظمة التربوية في عصر العولمة أخذت تتجه بالأساس، إلى حصر حاجيات المواطنين، من المعارف والتقنيات التي يمكن الانطلاق منها، لتحقيق تراكمهم المعرفي الكفيل، بتشكيل ثقافة في مستوى هذا العصر واشتراطاته. إن الحضارة الإنسانية، أصبحت بفضل ثورة المعلومات و الاتصالات، تعيش على إيقاع ثورة معرفية جديدة، قلبت رأسا على عقب كل ما عرفه الإنسان ومارسه المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خلال القرون الماضية. فمفاهيم الدولة الوطنية، والسلطة والأسرة بدأت تتلاشى، أمام الكم الهائل من المعلومات التي أصبح من الصعب ضبطها، خارج شروطها العلمية/ التكنولوجية/ الاتصالاتية… وهو ما يعني بالنسبة لعلماء التربية، استحالة صياغة أية سياسية تنموية، خارج هذه الشروط. يعني ذلك بوضوح، أن اكتساح العولمة، كالتخطيط للتنمية البشرية، يبدأ من المسألة التعليمية ومن تأهيل المدرسة لدورها المركزي في مواجهة واقع التخلف، والقيام بمهام التحديث والتغيير على مختلف المستويات المؤسسية، وفي تنشئة أجيال منتجة ومبدعة و حاملة لأصالتها الحضارية في مختلف أبعادها، باعتبار أن جوهر التربية والتعليم في ظل التحولات العالمية الراهنة، هو تكوين النشء وإعداده ليصبح قادرا على مواجهة تحديات العولمة والتفاعل مع متطلبات التنمية وشروطها. تشترط التنمية البشرية، في عصر العولمة على البلدان المختلفة/ الفقيرة، من أجل إخراجها من حالتها المتردية، ثلاثة شروط أساسية: وضع نظام تعليمي حديث يقضي على الأمية والجهل، ويعد الناشئة للحياة والعمل و الإنتاج. الأخذ بآخر التطورات العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها في الزراعة والصناعة والتجارة. وضع نظام حكم ديمقراطي يتيح مشاركة كل الشرائح الشعبية في صياغة القرارات، وفي إطلاق قدراتها المبدعة في خدمة الشعب. إلا أن هذه الشروط، بالنسبة لبلد عالمثالثي، متخلف اقتصاديا، في عالم يعرف تحولات حضارية عميقة، لا تعني مطلقا أن يفقد هذا البلد هويته الثقافية أو شخصيته ومكانته بين الأمم. إن الخضوع لشروط التنمية البشرية في عصر العولمة في مجال التربية والتعليم، يبدأ من استثمار الجهد في التربية، وإقامة تعليم موجه نحو المشاركة والتسلح برؤية مستقبلية، تقوم على قاعدة، أن يكون الاستهلاك في مستوى الإنتاج، وأن يكون انفتاح الأجيال الصاعدة على العمل و على الإنتاج الذي ينفعها غدا، ذلك لأن فاعلية التعليم في عصر العولمة تعني قبل كل شيء، تأهيل العنصر البشري لامتلاك ناصية العلم، والتحكم في الآليات التكنولوجية، وتأهيله للخلق والإبداع في مختلف المجالات، وتسخيرها للمصالح الوطنية، انطلاقا من محافظته على قيمه الروحية/ الدينية والثقافية… وتشبته بقيمه الحضارية. – 6 – أزمة التعليم في المغرب، لم تعد شأنا داخليا بعد تدخل البنك الدولي الذي أثار انتباه المغاربة مؤخرا إلى وضعيته المتردية، التي فشلت في اختيار الطريق الأصلح للخروج من حالة التخلف الاجتماعي و الاقتصادي الذي يعاني منه المغرب منذ عدة عقود، رغما على “المجهودات المادية” المبذولة من أجل ارتقائه وتحسين أدائه. التقارير الداخلية و الخارجية، التي أنجزت عن التعليم المغربي خلال العقود الاخيرة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن العراقيل و المشاكل التي تعيق هذا القطاع، تتمثل أساسا في التوسع المستمر لآفة الأمية، من الأمية الأبجدية، إلى الأمية التكنولوجية والسياسية والثقافية/ ضعف نسبة التمدرس خاصة في العالم القروي، وبالأخص بالنسبة للفتيات/ ضعف جودة التعليم في كافة اسلاكه، انطلاقا من سلك التعليم الأساسي، وهو ما يعني، الفشل الكلي في تحقيق مبدأ التعميم. والفشل الشامل في ربط مناهج التعليم بالتنمية، رغما على المجهودات المادية الهائلة التي تمت في هذا المجال، والأموال الطائلة التي تم صرفها عليه. وهي مجهودات تصنف المغرب من بين الدول العالمتالثية التي تخصص نسبة عالية من مواردها لقطاع التعليم. ومن الجدير ذكره في هذا الصدد، أن كلفة التكوين الفردية السنوية للتلميذ المغربي الواحد، في السلك الأول من التعليم الأساسي، تبلغ حتى الآن حوالي 2300 درهم وفي السلك الثاني من هذا التعليم تبلغ 4400 درهم و مع ذلك تبقى هذه الأرقام متواضعة مع تكلفته في دول أخرى بأوربا ( أي حوالي 14 مرة أقل مقارنة مع فرنسا مثلا). إن ميزانية التربية و التعليم، مثلت خلال العقود الثلاثة الماضية معدلا سنويا يفوق 23 % من الميزانية العامة للدولة، وهو ما يمثل 6 % من الناتج الداخلي الخام و ذلك دون الموارد التي تصرفها الأسر مباشرة لاقتناء لوازم التمدرس، من كتب ودفاتر وأدوات. ودون أداء تكاليف الرسوم والدروس الإضافية. ومع ذلك لم تستطيع هذه الميزانية الضخمة، تحقيق ما تحتاج إليه البلاد من تكوين وقضاء على الأمية، ورفع مستوى التعليم لمواجهة التحديات القائمة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تستطيع متابعة مجموع البرامج المقررة في مجال التعميم وتحسين التأطير، ورفع المردودية الداخلية للنظام التربوي. – 7 – السؤال الذي تطرحه هذه الحالة الإشكالية على مغرب اليوم : اين يكمن الخلل…؟ هل في نظرتنا إلى التعليم…. أم في إدارتنا لقطاعه؟ في الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نتوقف عند سلك التعليم الأساسي (كنموذج) باعتباره المدخل الرئيسي لإشكالية التعليم في كل أسلاكه الأخرى، وباعتباره أيضا الأرضية الصلبة التي تقوم عليها الشخصية التعليمية بكل إيجابياتها وسلبياتها… التعليم الأساسي، في التعريفات الأكاديمية الدولية (اليونسيف/ اليونسكو/ الاسيسكو)، هو الذي يزود المواطن بالمعارف و المهارات العلمية الأساسية، لمزاولة بعض الحرف البسيطة، أو لزيادة دخل الأسرة في المجتمعات الريفية والحضرية… وهو الذي يكفل للمواطن التمدرس عن طريق التفكيرالسليم، ويؤمن له حدا من المعارف والمهارات والخبرات التي تسمح له بالتهيء للحياة وممارسة دوره كمواطن منتج… وهو التعليم المناسب لجميع المواطنين، الذي يوفر لهم الحد الأدنى من الفرص التعليمية. وفي الوثائق المغربية الرسمية، التعليم الأساسي، هو مرحلة تعليمية تربوية إجبارية، مدتها تسع سنوات، تثبت في المتعلم القيم الإسلامية، وتكسبه القدر الضروري من المعارف والمهارات الإيجابية، مما يجعله قادرا على تحقيق الترقي الذاتي، ويؤهله للاندماج في مجتمعه، والمساهمة في تطويره، ومسايرة ركب التطور الإنساني والإسهام فيه. انطلاقا من هذه التعريفات “الأكاديمية” تبرز أمامنا العديد من الأسئلة الأخرى، أهمها: ما هي أسباب تراجع تعليمنا الأساسي عن هذه القيم والمواصفات…؟ تقول الشهادات المتوفرة عن هذا السلك من التعليم : إنه بقي حتى اليوم، يعاني من القطيعة التامة بينه و بين التعليم الأولى (ما قبل المدرسي ) رغم ما لهذا الاخير من أهمية في تحديد و تشكيل معالم شخصية الطفل، و تفتيق مواهبه و قدراته، الأمر الذي يحتم الابتعاد عن تلقين المضامين و خزن المعارف، و يفترض اعتماد المقاربات التواصلية التي تنمي فيه سلوكات ومواقف تؤهله للتفاعل الإيجابي، مع المحيط الاجتماعي و الثقافي. إنه لم يستند إلى اختيارات اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ثقافية واضحة ومحددة، يسهم فيها الجميع توجيها و تأطيرا. و إنما جاء نتيجة ظروف و أزمات متعددة، انعكست عليه، مما جعل الوزارة الوصية ترفع باستمرار، شعار الترميم، عوض الإصلاح والتجديد و إعادة الهيكلة و البناء، بغية الانسجام مع الإكراهات المتتالية التي تواجهها من كل جانب. إنه رغم لجان الإصلاح المتعددة، بقي بعيدا عن الاستراتيجية المتبصرة، التي من شانها تكييف مناهج التعليم الأساسي، مع البيئة المحلية، وأساسا مع العالم القروي، الذي مازال تعليمه بعيدا في مستواه وحجمه عن التعليم في الحواضر، خاصة ما يتعلق بتعليم الفتيات. إنه فشل في الانفتاح على محيطه الخارجي، إذ لم يتمكن من جعل المدرسة الابتدائية (الأساسية) فضاء للتنشيط الاجتماعي والثقافي والفني، وإن يجعلها قطب انجذاب أساسي، في المحيط الذي تتواجد فيه ومن أجله. إنه رغم ما يتطلبه من مصاريف ضخمة، وما يشكله كعبئ ثقيل على كاهل ميزانية الدولة، فإن مردوديته ضلت ضعيفة شكلا ومضمونا، إذ يستفاد من التقارير الرسمية، إن ثلاثة عشرة في المائة ( 13 % ) فقط، ممن يلجون التعليم الأساسي، هم الذين يحصلون على شهادة البكالوريا، بينما لا تشكل نسبة الحاصلين على شهادات عليا، سوى خمسة بالمائة (%)، وذلك دون ظاهرة مغادرة الدراسة في سن مبكرة لعدد كبير من التلاميذ، في العالمين القروي و الحضري، وهي ظاهرة يستعصي تبريرها بحكم تداخل عوامل عدة، أبرزها أن التعليم أصبح في نظر العديد من الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ لا يجدي نفعا بحكم طبيعة التباعد القائمة بينه وبين سوق الشغل، وبسبب صورة المعاناة اليومية للخرجين وحملة الشواهد الذين لم يعد بوسع لا القطاع العام، ولا القطاع الخاص استعابهم وتشغيلهم. أما بالنسبة للهدر المدرسي فهي في ارتفاع مستمر و خاصة في الأوساط الفقيرة : من بين 100 طفل عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 85 ويلتحق بالإعدادي 45، و يصل نهاية السلك الإعدادي 32 ويدخل الثانوي 22 ويحصل على الباكالوريا 10، بالإضافة إلى ذلك تتعمق الفوارق بين الوسط القروي والحضري وبين الذكور والإناث : إذ من بين 100 طفل قروي عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 66. ومن بين 100 فتاة عمرهن 7 سنوات تدخل المدرسة 59. إن تشخيص وضعية التعليم الأساسي، في مطلع الألفية الثالثة بالمغرب، من خلال هذه الأرقام، تكشف بالملموس مدى حجم التخلف الذي مازال يعاني منه نظامنا التعليمي. تقول هذه الأرقام بوضوح: أن نسب التمدرس الخام بالمغرب مقارنة مع الدول السائرة في طريق النمو سجلت تأخرا بمعدل 20 % بالنسبة للتعليم الابتدائي و 10 % بالنسبة للإعدادي والثانوي. – 8 – إن ما يلفت النظر في وضع التعليم الأساسي بالمغرب اليوم، أنه بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، بقي باستمرار، و على مدى أربعة أو خمسة عقود محل نقاش و تجاذب بين النخب السياسية و الثقافية في البلاد دون أية نتيجة تذكر، إذ تبلورت مناهجه وبرامجه في البداية داخل اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أسسها جلالة محمد الخامس تغمده الله برحمته سنة 1957، وهي اللجنة التي وافقت على اختياراته الأساسية: التعميم / التوحيد/ التعريب/ المغربة. وهي نفسها الاختيارات التي عكست الطابع التوافقي على عهد الاستقلال، ثم أعيد النظر في هذه الاختيارات والمناهج، داخل لجنة التربية و الثقافة لسنة 1960، وهي اللجنة المتفرعة عن اللجنة الوطنية لإعداد المخطط الخماسي الأول ( 1960- 1964 ) التي دافعت عن مشروع المدرسة الوطنية الموحدة. وأخيرا شكل هذا السلك من التعليم، بعد تنبيهات البنك الدولي، هاجسا للميثاق الوطني للتعليم، الذي رأى النور في مطلع الألفية الثالثة، على عهد جلالة محمد السادس. وهو الميثاق الذي خرج إلى الوجود بعد جهد جهيد، والذي كان الآمل منه، أن يدفع تجاه إصلاح المدرسة المغربية، وإعادة الاعتبار إلى المدرسة الوطنية… ولكن على ما يبدو أن إصلاح هذا التعليم، مازال في حاجة إلى مجهودات أكبر… ولربما إلى سنوات أخرى من العمل و الاجتهاد. يعني ذلك، إن الإصلاح الذي كان المغرب ومازال يسعى إليه منذ سنة 1957 وحتى اليوم هو أن لا تبقى مهام المدرسة المغربية، قائمة على حشو اذهان وعقول الناشئة المغربية بمعلومات تجريدية / لا قيمة لها، ولا فائدة منها. وأن تتحول إلى مدرسة جديدة عصرية، في مستوى طموحات وتحديات عصرها، قادرة على إعداد المواطن الصالح، المؤمن، المؤهل، الكفوء، الملتزم بخدمة وطنه، الواع بواجبات المواطنة و حقوقها، المتشبت بقيمه الدينية و الوطنية، المنفتح على ذاته و على الذات الكونية. الإصلاح المنشود، يسعى إلى جعل التعليم ركيزة أساسية في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهو يمثل في كل الحالات استثمارا بشريا ضروريا للانخراط في ركب الثورة العلمية والتكنولوجية، التي باتت تشترط التحاق الشعوب والدول بمسار النهضة الحضارية في عالم القرن الواحد و العشرين. لذلك، يرى كافة المربين المختصين، أن الإصلاح ، عليه أن يتجه لجعل قطاع التربية والتعليم، قطاعا استراتيجا في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهو ما يشترط إلى حد بعيد إمكانية انخراط المغرب في حركة الثورة العلمية والتقنية والتكنولوجية، هذا الانخراط الذي يشترط بدوره مواكبة مسيرة التطور و التقدم والازدهار خلال العقود المقبلة. من هذا المنطلق، أصبح رجال التربية والتعليم، والخبراء، والسياسيين المصلحين، يلحون على الإصلاح المنتج للتعليم الأساسي، يلحون على جعله تعليما منفتحا على محيط المتعلمين، متعاملا مع واقعهم بشكل جدلي، مؤثرا في واقعهم ومتأثرا بهذا الواقع، وهو ما يعني توفير فرص الاندماج بسهولة في النسيج الاقتصادي للبلاد، ليصبح المتعلم عضوا فعالا في التنمية الشاملة للبلاد… وهو ما يشترط كمرحلة أولى و أساسية عدة شروط، منها: * o إدخال التكنولوجيا الحديثة إلى مؤسسات التعليم الأساسي و ذلك بإحداث قاعة متخصصة على الأقل في كل مؤسسة، وربط المؤسسات بشبكة الأنترنيت وإحداث شبكة للاتصال بين المؤسسات. * o تعميم المكتبات على المؤسسات المدرسية وإغنائها بالمراجع الحديثة وتفعيل دورها داخل المنظومة التربوية. * o وضع برامج التكوين المستمر الذي يعتبر من أهم الرافعات التي تعتمد عليها التربية من أجل تحسين أداء المدرسين وأطر الإدارة التربوية. والأطر المسؤولة بكل من الإدارة المركزية والإدارة الخارجية. * o و ضع إصلاح المناهج على ضوء توجيهات اللجنة الخاصة بإصلاح التربية والتكوين، و على ضوء تقويم المناهج الحالية ، ووضع آليات العمل الخاصة بهذا المجال. * o وضع تقويم وتأطير المؤسسات التعليمية الذي يرمي من جهة إلى وضع سياسة ناجعة لتقويم التلاميذ والمؤسسات ومن جهة أخرى إلى تفعيل آليات التأطير التربوي والإداري للمؤسسات التعليمية. * o وضع برامج الدعم لفائدة التلاميذ المنتمين إلى الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود، ولتلاميذ الوسط القروي. ويتمثل هذا الدعم في توزيع الأدوات والكتب المدرسية وتوزيع المواد والوجبات الغذائية ومنح الداخليات. * o صياغة أهداف واضحة ومحددة ودقيقة لكل سلك من أسلاك التعليم، انطلاقا من ما قبل المدرسي و حتى الجامعي. * o التخفيف من المقررات وإعادة صياغتها وفق طموحات المدرسة الوطنية. * o العمل بمبدأ التناوب لخلق جسور بين التعليم الأساسي، والتعليم الثانوي، ومراكز التكوين. * o تمكين المتعلم بالتعليم الأساسي، من اللغات الحية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية، ومن القراءة/ الحساب/ طرائق التفكير/ وسائل العمل. * o إعادة النظر في مواد التربية الوطنية، وتعميمها على سائر التخصصات و سائر المستويات. * o العمل بمبدأ التوجيه المعقلن. بذلك نخلص إلى أن نظام التعليم الأساسي المغربي، في المرحلة الراهنة مقرون بإصلاحات جدرية، تتجاوز الإصلاحات الهيكلية إلى إصلاح مناهج الكتاب المدرسي والإدارة المدرسية وقضايا التعميم والمجانية، إلى تحسين الكفاية الداخلية و الخارجية للنظام التعليمي، وإلى الربط ما بين التربية والتعليم، واعتبارهما جزء لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الشاملة، التي تنبني على أسس نابعة من التحديات العلمية التي تواجه المغرب في محيطه العالمي. وعلى واقع المجتمع المغربي وطبيعة طموحاته الحضارية والثقافية، التي تسعى إلى تركيز موقعه على خارطة العالم الحديث بتجاذباته العلمية والحضارية. وان طرح مسألة التعليم الأساسي (كنموذج) على هذا المستوى يرتبط في اعتقادنا بطرح أكبر وأشمل، يتعلق بمسألة التخلف و التقدم، في عصر تحولت فيه الثقافة والمعرفة إلى صناعة واستثمار، وإلى إصلاح استراتيجي لأحكام السيطرة على التحديات القائمة. لذلك، نرى أن قضية إصلاح التعليم في مغرب اليوم، يجب أن تبدأ من تفكيك الأزمات المترابطة حول اسلاكه، انطلاقا من سلكي التعليم الأولى ( ما قبل المدرسي) والتعليم الأساسي، وإعادة تركيبها وفق شروطها العلمية أولا… ووفق طموحات المغرب الحضارية/ الاجتماعية/ الثقافية/الاقتصادية، ثانيا وأخيرا… وتلك مسألة تتعلق بالإرادة السياسية قبل كل شيء.