من الطاهر الطويل وعبداللطيف الوراري «القصيدة المغربية في حداد»، بهذه العبارة الحزينة اختار عدد من الشعراء المغاربة توديع زميلهم محمد الميموني، الذي انتقل إلى رحمة الله صباح أمس الخميس في مدينة تطوان عن 81 سنة، مخلفا وراءه مجموعة من الدواوين والدراسات النقدية. وأصدر اتحاد كتاب المغرب بلاغا نعى فيه أحد أعضائه القدامى، مشيرا إلى أن محمد الميموني يعدّ من رواد الشعر المغربي والعربي الحديث، وأنه ولد عام 1936 في مدينة شفشاون، حيث حفظ القرآن الكريم، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية، وتخرج في كلية الآداب في الرباط. وعمل أستاذا في مدن الدارالبيضاء وطنجة وتطوان. بدأ الميموني تجربته الشعرية عام 1958 حيث نشر قصيدة في مجلة «الشراع» في شفشاون، وباشر الكتابة في الصحف الوطنية منذ عام 1963، إذ نشر أولى قصائده في جريدة «العَلم»، ترجم عن اللغة الإسبانية قصائد للشاعر لوركا، فضلا عن العديد من الدراسات النقدية. كما أصدر عددا من الدواوين الشعرية، منها: «آخر أعوام العقم (1974)، الحلم في زمن الوهم (1992)، طريق النهر (1995)، شجر خفي الظل (1999)». وأصدرت وزارة الثقافة سلسلة أعماله الشعرية الكاملة عام 2002، وقد ضمت هذه الطبعة دواوين جديدة هي: «مقام العشاق (1997-1999)، أمهات الأسماء (1997)، محبرة الأشياء (1998)، ما ألمحه وأنساه (2000)، متاهات التأويل (2001)». فيما أصدر الشاعر الراحل بعد ذلك أعمالا أخرى، شعرية وسيرذاتية. وكان ديوانه الأول «آخر أعوام العقم» (1974) من المجاميع الشعرية الأولى في متن الشعر الحديث، وأبرز ما كان يميزه هو الوعي الحادّ والمبكِّر بالعالم الذي يكتبه الأنا الشعري بدون أن تسقط في شراك الأيديولوجيا الصارخة التي كانت متفشِّية وقتئذٍ، لدواعٍ ساسية وسوسيوثقافية، في كتابات أبناء جيله من الروّاد. عدا أنه يمكن أن نلمح في الديوان انفتاحه على تقنيّاتٍ جديدة في الكتابة الشعرية، من بينها استخدام الرمز، والمونتاج والحوار والتبئير؛ ولولا هذه التقنيات لكانت برزت نبرة الاحتجاج والخطابة على شعره. يسوق محمد الميموني نصوص الديوان في شكل محكيّاتٍ تطفح بالذات التي لم تسلم رؤيتها الحادة من ضغط زمنيّتها، كما نكتشف ذلك ابتداءً من القصيدة الافتتاحية «حكاية من جزيرة الدخان»، حيث الشاعر يشعر بتصدُّعه، وينمُّ عن تخاريمه بقدر ما ينوء بهمّ الإنسان في مواجهة السلطة والمسخ حيناً، وتنتصر للشهادة والاستشهاد بالجسد والكلمة من أجل استمرار الحياة حيناً آخر، وإنْ لاح مشوباً بمسحة شفيفةٍ من اليأس واللاجدوى، وأخرى كثيفة كما في القصيدة التي يختم بها المجموعة، الموسومة ب»توقيع بالأسود على الصفحة الأخيرة». إنّ بناء القصيدة بين مسرحتها وتبئيرها وتمثيلها أليغوريّاً في الحكاية والرمز والتاريخ الجمعي، يجعل الصوت الشعري لدى محمد الميموني بمنأى عن أن يقع أسير الأيديولوجيا وخطابها الضاغط والمباشر، كما حصل لمجايلين له تأثّروا ببرنامج الحزب وأدبياته الواقعية والاشتراكية التي كانت تُكرِّس في الأدب تبعية الثقافي للسياسي. لكن الديوان، مع ذلك، كان يتنفّس زمنه وشرطه التاريخي، فنصوصه التي تمتدُّ لعقْدٍ من الزمن (1963- 1974) تُقدِّم لنا، من خلال طرائق بنائها، خليطاً من الرومانسي والرمزي، الشعري والسردي، الفردي والجمعي، بقدر ما يمتزج فيها العمودي بالتفعيلي، والغنائي بالدرامي- البوليفوني. لقد كان الأمر، في الحقيقة، بحثاً عن المختلف والمحلوم به في الشِّعر وعبره، وداخل التجربة التي يشقّ أخاديدها الشاعر نفسه. هكذا نعثر في ديوان «آخر أعوام العقم» على ما يمكن أن نسميه ب«استئناف الوعد»، وعد اللغة ومعنى الذات. هذا الوعد الذي لم يطل، نعثر عليه في ديوانه الثاني المعنون ب»الحلم في زمن الوهم» (1992)، لكن ليس العمل كلّه، وإنّما في نصوص المتوالية الأولى التي تحمل عنوان الديوان نفسه، وفي بعض قصائد المتوالية الثالثة، فيما نصوص المتوالية الوسطى، أي «قصائد سائبة»، تنتمي مرجعيّاً وجماليّاً إلى تجربة «آخر أعوام العقم»؛ كأنّما الأمر، هنا، يعكس اصطراع الوعي الكتابي عند الشاعر إذ يقف بين زمنين، وبين مقترحين جماليّين، وبين شكلين من بناء الذات وتنظيمها خطابها، إلا أنّ القصائد الجديدة تُمثِّل، في ما يبدو، بداية تشكُّل التجربة الخاصة بشعر محمد الميموني، ففيها نعثر على وعيٍ جماليٍّ جديد ليس داخل تجربة الشاعر نفسه، بل داخل تجربة الشعر المغربي الحديث والمعاصر برمّته. إن التذرُّع بالحلم، أو اتخاذ الحلم كذريعة، يُمثِّل صلب هذا الوعي الجمالي وعصبه المتوتِّر، فهو يُفكِّك مسلَّمات لغة الأيديولوجيا التي كانت تحتمي بها أنا الشاعر، ويعيد بناءها وفق منطق اللعب اللغوي والكنائي الذي يتسلّى مع النسق بقدر ما يُفجِّره من الداخل. حفز الذات على الحلم يشكِّل بالنسبة إليها مشروع تخطٍّ أو تجاوز لزمن الوهم الذي تعالت فيه الحُجُب والأدخنة، بقدر ما يُشكِّل استعادةً للبعيد والمحلوم به والهاجع في لاوعي الطفل الذي كانه الشاعر، إذ تتمُّ عموديّاً، ومن الصميم. إنّ ثيمة الماء في الديوان، مثله مثل الضوء؛ هو وَخْزٌ لوعي الأنا الحاضر، هنا والآن. إنّه تساؤُلٌ عن الغياب وفيه، إذ تسعى الذات إلى الملتمع من بعيد، والمتفلّت منها باستمرار، فيزداد ظمؤُها إليه في المابين، حيث «المسافة بينهما غابة من حديد» كما في نصّ «ذاكرة الماء». وعبر رموز الطبيعة الحية والمتقلّبة (الريح، البحر، النجوم، الليل، الخريف..)، وتمثُّلات القناع التاريخي والديني (سفينة نوح، قصة يوسف، السندباد، حي بن يقظان)، يعمل أنا الشاعر على تكثيف هذا الوعي الحادّ والمصطرع داخل تجربة الحدود أو، بعبارة الشاعر نفسه، داخل «المتاهة التي تبدئ في كُلّ منعطفٍ وتُعيد»، بين وعي الأنا بتصدُّعها واغترابها في زمنها، وأن تغيب في «حضرة الحلم»، أو في «ضفّة الحلم» حيث «الغريبُ المسافرُ يأوي إلى حرم البحر كلّ مساء». عبر الحلم واتخاذه ذريعةً في الكتابة، بوصفه كشفاً وانكشافاً للغة، ثُمّ تجاوزاً لوعي الأنا بالحاضر، يتجلى لنا تصوُّر الشاعر للقصيدة، القصيدة- الحلم، القصيدة التي لا تنتهي إذ هي على الدوام في «رحلة كشف»، مُبْحرةً في «مسلّة الكلمات»، وباعثةً لأشواق الأنا وإشراقاته. لقد شكّل ديوان «الحلم في زمن الوهم» علامةً فارقةً، أو برزخاً بين مرحلتين حاسمتين: أ مرحلة التأثُّر الأيديولوجي من غير استغراق ولا تشبُّع؛ ب مرحلة اصطراع الوعي الجمالي للتجربة بين مقترحين؛ ج المرحلة الإشراقية حيث ترتفع أنا الشاعر بأشواقها وأحلامها وتجاربها، داخل متاهة التأويل والكشف والانخطاف، إلى مرتبة «اليوتوبيا». يوتوبيا الأنا. وهذه المرحلة هي الأعمق والأصفى التي استقرّ عليها الحلم ونوّع عليها كتابيّاً، وحدّدت المسار الذي ستشقُّه تجربة القصيدة عند محمد الميموني كما نكتشفه ابتداءً من ديوان «طريق النهر» (1995)، إذ نحا الشاعر بالتجربة إلى مستوى الأسطورة الشخصية، ثم تأكد ذلك أكثر في دواوينه المتأخرة؛ مثل: «ما ألمحه وأنساه» (2000) و«موشحات حزن متفائل» (2008)، وانتهاء ب«رسائل الأبيض المتمرد» (2013). منذ «آخر أعوام العقم»، نجد مفهوم الالتزام عند الشاعر حاضرًا بثقله، وذلك بسبب الحقبة التاريخية الحرجة التي عاشها وأبناء جيله في عقد السبعينيات وما تلا ذلك من تداعيات حادّة. ورغم أنه اعتكف على كتابة الذات في الدواوين التالية، فهو لم يتخلَّ عن الالتزام إذن، بل توسع مفهومه له باعتباره يسع الالتزام بقضايا الإنسان وهمومه حيث ما كان. يقول: «التفت بقوة إلى قضية صراع الإنسان في العالم كما في المغرب، من أجل حرية لا تقف عند حد الحرية السياسية، وإنما تمتد إلى النضال لاسترداد امتلاك الذات المادية (الجسد) والحرية المطلقة: اجتماعية وعقائدية وإبداعية». كما أصدر «بيت الشعر في المغرب» بلاغ نعي أفاد فيه أنه تلقى بحزن بالغ خبر وفاة الشاعر محمد الميموني، عضو البيت وأحد رواد الحداثة الشعرية في المغرب. وجاء في البلاغ أيضا: استطاع الفقيد على مدى عقود، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، أن يلج عوالم الكتابة الشعرية، بما توفر لديه من ثقافة عربية أصيلة، وكذا من خلال احتكاكه بالشعر المكتوب بالإسبانية، الذي تأثر به وبشعرائه مثل: خوان رامون خيمينث ولوركا وبورخيس وغارسيا ماركس وأوكتافيو باث ونيرودا. وعلاوة على منجزه الشعري الباذخ الذي بصم ذاكرة الشعر المغربي، انخرط محمد الميموني سنة 1965 برفقة ثلة من شعراء مدينة الشاون في تأسيس مهرجان الشعر المغربي في هذه المدينة، الذي يعتبر، إلى اليوم، أحد أعرق المهرجانات الشعرية في المغرب. وساهم الفقيد في عملية التحول التي شهدتها القصيدة المغربية وانتقالها، في أواسط الستينيات من القرن المنصرم، من أجواء التقليدية إلى أجواء تجديدية حديثة، وظل، رحمة الله عليه، منذ ذلك التاريخ يطور قصيدته ويعبر بها الأجيال والحساسيات الشعرية منفتحا على راهنه الثقافي والشعري والسياسي، مشكلا نموذجا للشاعر المنخرط في قضايا وطنه وبلده. وورد في بلاغ نعي «دار الشعر في مراكش»: «رحيل الشاعر المغربي محمد الميموني أحد إشراقات القصيدة المغربية تودعنا اليوم». وكتب الشاعر والقاص أحمد بنميمون تدوينة جاء فيها: شقيقي الشاعر المغربي محمد الميموني في ذمة الله. آخر كلامه لي: «إذا متّ فانعَنِي بما أنا أهلٌ له». كما توالت التدوينات في الصفحات الافتراضية لعدد من الشعراء المغاربة، حيث كتب حسن نجمي ما يلي: «المغرب الأدبي والشعري يفقد هذا الصباح الشاعر محمد الميموني سليل مدينة الشاون وأحد قادة الاتحاد الاشتراكي في شمال المغرب. عزاؤنا إلى زوجته الكريمة وشقيقه الشاعر أحمد بنميمون وأبنائه وأصدقائه ومحبيه. والعزاء موصول إلى زميلاته وزملائه الشاعرات والشعراء المغاربة. فهذا أحد مؤسسي القصيدة المغربية المعاصرة يترجل تاركا تراثا شعريا إبداعيا منشورا ومخطوطا. كما سنظل نذكر له الدور المشع في تاريخنا الثقافي والتربوي كأحد رجالات التربية والتكوين في المغرب. وأيضا، مسؤولياته السياسية والنقابية كمناضل فذ في جبهة اليسار المغربي». وقال جمال المساوي: «الصباح للتو أصبح حزينا. مات الشاعرُ. أحد أعمدة الشعر المغربي. أبٌ من آبائنا. الذين نحاول أن نرث عنهم إصرارهم على اقتراف الشعر حتى النهاية». وخط ياسين عدنان العبارات التالية: «شاعر شفشاونوتطوان. الأندلسي بالفطرة، الغرناطي الهوى، عاشق لوركا ومترجمه. الرائد الذي أخلص للقصيدة منذ خمسينيات القرن الماضي. ظل دوما يطارد السراب، والسراب يتجدد، وهو لا يفقد الأمل في الشعر وفي القصيدة، رغم «أعوام العقم» و»زمن الخيبات». مبكرًا جعلته حساسية الشاعر يعتزل العمل الحزبي لينعزل تمامًا داخل قصيدته. اليوم غادرنا الشاعر المغربي محمد الميموني. فهل المقام مقام بكاء؟ أبدًا. علينا فقط أن نقرأ الرجل. أن نعيد قراءته. سنكتشف فعلا أن نهره الشعري جرى بالكثير من الأسرار المضيئة.» وكتب مصطفى غلمان: «أحصيت كل الأرواح فلم تأبه لغاصب يسرق ثمار الحياة ويرحل مسرعا ..يا موت كن رحيما على قدر الحزن الذي يساق من فرط الجنائز وعتمات القبور ..حتى الشعراء يلوذون بك وقد سامتهم غرابينك سوء النذير .. ولم يبق من خطاياك سوى هاجس يعبث بالشك ويرمي بالفلاة أحابيل الحزن وغرق الذكريات». وجاء في تدوينة الزبير بن بوشتى: «يموت الشاعر ويخلد صوته فينا… الشاعر محمد الميموني يلتحق بالرفيق الأعلى، ويترك لنا لحظة صمت شفيف يستدعي الألم والحزن فينا… كان واحدا من أولئك المثقفين الذين يتحاشون ضجيج الظهور ويتوارى متخفيا بين ثنايا أشعاره يبتغي منها الصدق مع الذات والوجود… فلترقد روحك في سلام آمن شاعرنا الكبير». وكتب حسن الرموتي: «الشاعر المغربي محمد الميموني يرحل عنا… ورقة أخرى من جيل الشعراء المؤسسين للقصيدة المغربية يغادرنا… رحمة الله عليه». من نص رثاء النوارس: وجوه على الصخر صامتة وبقايا ثياب مُبلَّلة بالسّوَاد وبحرٌ يغادر مِلْحَه مُلْتبساً بالضَّباب زوارقُ تَغْرِقُ مُثْقَلةٌ بالزمان المُكَلَّس أتى زمن يا طريفُ وليس وراءك جيش على أهبة الفتح بل زَبَد وزوارقُ تائهة في الظَّلام