متسولون يبدعون في اختلاق قصص درامية تصاحبها كل المؤثرات الجانبية و آخرون يستغلون التطور التكنولوجي للتواصل و النصب على الضحايا بطرق مختلفة . هل التسول مهنة …؟! التسول ظاهرة سلبية قديمة قدم التاريخ , قد يلجأ من يجد نفسه في ضيق أو أزمة مادية للتسول بادئ الأمر و طلب المعونة و من ثم يتحول تدريجيا الى امتهان التسول و اتخاذه مصدر عيش و لما لا مصدرا لتحقيق أرباح مادية خيالية لا يمكن أن تخطر على بال … لقد مضى زمن كان فيه التسول مرتبطا بالشيخوخة و عدم القدرة على العمل, تسول كان يتم بطرق أبواب المنازل أو استجداء المارة بثياب رثة و متسخة لجلب التعاطف. التسول الآن تطور ليصبح تجارة مذرة للأرباح بالنصب على الضحايا عبر طرق عديدة و مختلفة ؛ قد تكون قصة خيالية مشبعة بالدراما التي تدمي القلب قبل العين , و قد تكون رسالة على الهاتف تطلب النجدة , كما يمكن أن تكون على شكل طلب ظاهره يخاطب القيم الاسلامية و باطنه استغلال تعاطف المغاربة مع كل ما لع علاقة بالدين الاسلامي و الانسانية… انتشار الظاهرة دون استثناء . ظاهرة التسول منتشرة بشكل خطير بجل المدن المغربية, ظاهرة تسيء الى المجتمع المغربي والى تعاليم الدين الاسلامي الحنيف , تدمر منظومة الأخلاق و القيم و تشجع على الاتكالية و الكسل و الخمول و تكريس مفهوم النصب و الاحتيال على مجهودات الآخرين كسبيل لتحقيق الكسب و الربح المادي السريع دون عناء أو تعب . لن نتناول في هذا التحقيق الذي بين أيديكم ما يمكن أن نسميه التسول التقليدي بالاعتماد على الجولان في الشوارع و أمام المساجد و داخل الأسواق لاستجداء المارة…فهاذ تم التطبيع معه داخل المجتمع على الرغم من سلبيته . سنتناول لجوء تجار التسول الى طرق جديدة تعتمد الذكاء على مستوى الخطاب الذي يدغدغ المشاعر بالكلام عن معاناة غير حقيقية يتم تمثيلها بطرق محبوكة و مصنوعة باتقان تام, أو حتى تعلم و اتقان بعض اللهجات الأجنبية لبلدان عربية تعيش أوضاع حرب , و من ثم طلب المساعدة عبر خطاب احترافي مليء بالعبارات المغلفة بالانسانية لاستمالة قلوب الناس, و دفعها للمساعدة بأكبر مبلغ مادي ممكن خاصة و المجتمع المغربي معروف بحسن الضيافة و الاستقبال . طرق حديثة في التسول تنطلي على الضحايا بسرعة … هناك العديد من الطرق الحديثة التي ابتكرها تجار التسول للعمل بها بمدن الشمال مثلا و أسواقها لجني مدخول مادي مهم, لا يمكن أن تخطر على بال أحد . خلال عطلة الصيف أو عطل نهاية الأسبوع تأتي بعض النساء المتقدمات في السن, فينتشرن بأسواق المدن الشمالية كل واحدة فيهن تدعي قصة معينة في طلب المساعدة , يقول أحد التجار؛ أن احداهن طلبت منه مرة أن يمدها بعشرة دراهم لا غير , بعد أن سردت عليه حكاية معاناتها مع ابنها العاق الذي تركها بمدينة الفنيدق بعد خلاف بسيط معها . يضيف المتحدث خاطبتني و الدموع تتهاطل من مقلتيها أنها تريد عشرة دراهم من أجل أن تهاتف ابنة لها تسكن بطنجة حتى تأتي اليها لتأخذها , لم أشك أبدا في أنها تحترف التسول بهذه الطريقة . اذ كيف أشك و السيدة يقارب عمرها الخمسينات و عليها علامات الوقار و الاحترام الكاملة , جسمها لم يكف عن الارتعاش و هي تحكي قصة معاناتها مع ابنها . ناولتها ثمن ركوب الطاكسي الى طنجة كاملا 30 درهم, دليتها على الطريق التي ستوصلها الى المحطة و استكملت بعدها أشغالي في التجارة . مرت تقريبا ساعتين فخرجت لأجلب بعض السلع من أحد التجار الذين يبيعون بالجملة بسوق آخر, فاذا بي أصدافها أمامي تحكي للتاجر نفس قصة عقوق ابنها بكل المؤثرات من بكاء و ارتعاش , لكنها هذه المرة تريد ثمن تذكرة العودة الى الرباط مدينتها الأصلية . أحست أن أمرها انكشف فاختارت التسلل و الاختفاء متظاهرة أنها لا تعرفني و لم يسبق لها أن شاهدتني أصلا . تخيل عدد المحلات التجارية بأسواق المدينة الذي يعد بالألاف, و المبلغ الذي يمكن أن تجنيه السيدة المتسولة في يوم واحد باتقانها تمثيل دور معاناتها مع ابنها العاق . انها تجارة سرية تعود بالأموال الطائلة على ممارسيها من كل الأصناف العمرية . طرق جديدة آخرى يلجئ اليها بعض المتسولين , و ذلك بتعلمهم و اتقانهم لبعض لهجات الدول العربية كاللهجة السورية مثلا, و من ثم ادعاء أنهم عائلات سورية فرت من لهيب الحرب و الدمار, تريد المساعدة من أجل توفير المأكل و المشرب و بعض الملابس , يجمعون الأموال و يعيدون بيع الملابس و الأفرشة التي يحصلون عليها من تضامن الناس و تعاطفهم . نساء أخريات يختفين تحت النقاب و يدعين أنهن أرامل يحتجن الى المساعدة , بمجرد ما تنتهي عملية التسول و الحصول على المال المطلوب يتجردن من نقابهن, و ينتقلن الى مدن و أسواق آخرى للقيام بنفس المهمة و الحديث عن نفس القصة . بعضهن تم كشف احتيالهن فانخفظ مدخولهن من التسول بشكل كبير. شباب متسول … الخطير في الطرق الجديدة للتسول هو أن من يمارسها أغلبهم من فئة الشباب الذي يعول عليه في بناء المستقبل الزاهر للوطن, بالعمل و الجدية و التفاني في طلب العلم و المعرفة . شاب من الدارالبيضاء رفض ذكر اسمه تحدث الينا عن قصته مع التسول الاحترافي الذي دخل دهاليس ممارسته عبر الصدفة فقط . يقول الشاب أنه كان من عشاق نادي لكرة القدم و كان يتبع فريقه المفضل في كل الجولات التي يقوم بها من أجل خوض مباريات في البطولة الوطنية . حدث مرة أن وجدت نفسي بمراكش يضيف المتحدث و قد انتهت المبارة التي خاضها الفريق الذي أشجعه دون أن أتوفر على المال من أجل العودة الى البيضاء , فكرت في التسول و ترددت كثيرا, قبل أن أقصد مجموعة من الرجال الواقفين بباب أحد المنازل و أحدثهم عن حاجتي للمال للانتقال الى منزلي و قد كان عمري أنذاك لا يتجاوز18 سنة . ناولني أحدهم مائة درهم كاملة ,و طلب مني عدم معاودة المغامرة مرة آخرى الا اذا كنت أتوفر على المال اللازم للرحلة . قصدت اتجاه المحطة من أجل العودة فاذا بفكرة تتبادر الى ذهني بتسول المزيد من المال ما دام ذلك ممكنا . المفاجئة أنني جمعت تلك الليلة مبلغ 450 درهم أو أكثر, عدلت عن فكرة الرجوع في نفس اليوم, فأشتريت ما أشتهي من الأكل و نمت بأحد الفنادق الشعبية بمراكش . في اليوم الموالي زاد شغفي بتجريب مغامرة آخرى في التسول الذي أغراني بمدخوله , توالت الأيام فوجدت نفسي داخل دوامة المتسولين الذي يصعب علي الآن الخروج منها أو الاقلاع عنها . " أنا مبلي آ خويا صافي , ما يمكنش نقطع". هنا في الشمال كما ترى يمكنني أن أمارس هذه المهنة من أجل كسب محترم ,على الرغم من أنني لست راض عن نفسي فيها , لا يمكنني أن أعمل بأجر زهيد لا يسمن و لا يغني من جوع , ما يعرضه علي بعد المشغلين قد لا يتطلب مني في ميدان التسول أكثر من زبون واحد ولد الناس على حد تعبيرالشاب المتسول . التسول باستعمال أقراص الهلوسة …. عن طريق الصدفة فقط حضرت انكشاف عملية تسول محترفة لشاب بالحافلة العمومية التي تربط الفنيدقبتطوان . صعد الشاب ذو الخامس و العشرين من عمره الى الحافلة و بعد انطلاقها وقف ليحكي معاناته , قال أنه أتى من مدينة ميدلت البعيدة من أجل العمل لكن المشغل لم يلتزم معه بالموعد المحدد و تركه متشردا في الشارع . سيدة فقط رقت لحالي و ناولتني هذه الملابس الجديدة التي أرتديها , تركت أمي وحيدة بين الجبال و الثلوج و هي تنتظر الآن مساعدتي بفارغ الصبر . أرجوكم أن تساعدوني من أجل أمي التي علمتني الصبر و طلب الرزق الحلال من غير اللجوء الى بعض ممارسات شباب اليوم الخارجة عن القانون لتحصيل المال . في هذه الأثناء شرع الشاب في البكاء بصوت عالي , ليشرع ركاب الحافلة خاصة من النساء, في مده بمساعدات مالية مهمة . جمع المال و نزل من الحافلة بمدينة المضيق قبل الوصول الى تطوان . استقل طاكسي أوصلته الى تطوان ليقف عند أحد موقف الحافلات و يركب نفس الحافلة التي نزل منها دون أن يدري , وقف ليحكي قصة معاناته لكن بتغيير شامل للفصول و الأحداث ليدعي هذه المرة أنه من مكناس ,و كان مهاجرا سريا باسبانيا فأعادته السلطات الى بلاده دون سابق انذار . ذهل الركاب لما سمعوه من الشاب خاصة و أن بعضهم منحه مبلغ مالي مهم قبل ذلك كمساعدة . عندما شرع في البكاء خاطبته بعض النسوة بالكف عن ذلك, لأنه قبل قليل فعل ذلك و انطلت حيلته عليهن . لم يفعل شيئا سوى أنه أطلق ضحكة عالية و هو يردد " عاودت الطوبيس " انتشرت فوضى داخل الحافلة بين من يطلب من الشاب ارجاع المساعدة التي منحه اياها, و بين من يستنكر كيف تدنت الأخلاق و القيم داخل المجتمع لتصل حد التلاعب بمشاعر الناس . الشاب أصر الينا بعد ذلك أنه يستعمل أقراص الهلوسة من أجل اتقان أدوار التسول التي يقوم بها , أما بخصوص بكائه فقال " القرقوبي يبكيك و يضحكك و دبر بيه على مصريف " . ظهرت حافلة عمومية آخرى فقصدها يجري لركوبها وادعاء معاناة آخرى ربما . لنتخيل مجموع مدخول الشاب من كل حافلات المدينة خلال يوم فقط . و انتقاله بين مدن الشمال لممارسة تسول احترافي .. جريمة استعمال الأطفال في التسول . هناك العديد من المتسولين ممن يلجؤون الى استعمال أطفالهم في التسول و محاولة التأثير بهم على الناس ,أو دفعهم مباشرة لممارسة التسول في استغلال بشع لبراءة الطفولة و ضرورة حمايتها . أطفال صغار تجد بعضهم بأبواب المساجد يرددون كلمات و بعض الأدعية يتبين من خلال اعادتها أنهم يحفظونها , لجلب تعاطف الناس و تعاونهم معهم بينما تنتظرهن نساء بعيدا, لتحصيل الدراهم التي يجود بها البعض على الأطفال المستغلين . هذه الممارسات السلبية بالاضافة الى آخرى تتعلق بعرض الأبناء بالشارع العام و الجلوس بهم على حافة الطريق من أجل التسول , تعتبر خرق سافر لحقوق الطفل الذي من حقه أن يتربى أحسن تربية بعيدا عن تلقينه أدبيات مهنة التسول المهين الذي يخلق منه شخصية لا تقدر نفسها في المستقبل داخل المجتمع و ربما كانت ناقمة عليه بسبب ذلك . التسول ظاهرة سلبية بكل المقاييس تنخر المجتمع في صمت لذلك على كل المسؤولين التفكير في وضع حد لهذه الظاهرة التي انتقلت الى الشباب بطرق جديدة و مبتكرة أقرب الى الاحتيال منها الى التسول . لا يمكن أبدا تخيل مجتمع سليم يستشرف المستقبل و هو يعول على شباب يبدع في سرد قصص معاناته لكسب تعاطف الناس و جلب المال , عوض الابداع في أساليب العمل المثمر وفق القوانين و الضوابط الأخلاقية الضرورية لكل نجاح … الفيسبوك للتسول … أن ترى شخصا يمشي في الطرقات و الأسواق متسولا ليس شيئا غريبا, لكن أن تجد شبابا يستعملون الفيسبوك من أجل التسول فذاك يمكن تسميته "جديد الساحة". يتذمر رواد الفيسبوك من العديد من الرسائل التي تصلهم و تطلب في الغالب تعبئة جوال بمبررات واهية قد تنطلي على البعض ممن لم يمر بالتجربة أو سبق و سمع عنها . فيما يلي نورد نموذجا لذلك ؛ أخي لقد خرجت الوالدة الى السوق و تأخرت كثيرا و هي مريضة بالسكر و أنا معاق لا أقدر على السير …أريد أن أطمئن عليها و لكني لا أتوفر على تعبئة جوال من فضلك أرسل الي عشرة دراهم فقط لأتصل بها و أطمئن على صحتها … ان التسول ظاهرة خطيرة و تطوره ليصل حد اللعب على وتر الثقة و انسانية المغاربة يهدد قيمة القيم و يزرع بذور الانحطاط الأخلاقي ,بدل زرع مبادئ الثقة و المسؤولية و التعاون و التضامن …سبب نجاح كل المجتمعات المتقدمة ووعي مواطنيها بتصرفاتهم ومدى تأثيرها على المجتمع سواء بالسلب أو الايجاب..