اعتدنا أن نصطف صباح مساء في طابور طويل فوق إحدى التلال القريبة من القرية، نتطلع بعيون لامعة إلى الأفق، نترقب على أحر من الجمر ظهور شبحه منسلا بين سنابل القمح الخضراء، وهو يمتطي حماره البني، وعلى متنه حقيبته السوداء الممتلئة بالأوراق الملونة… رجال ونساء، شيوخ وأطفال ينتظرون وصوله، يقضمون الدقائق والساعات بصمت.. كان التل مزدحما عن آخره فلا بقعة شاغرة على طوله، وسكون رهيب يعم جنباته، ما عدا نعيق غربان تحوم حول أشجار البلوط، ونسور تهيم في الفضاء بزعيقها الذي يشبه صوت طائرات حربية تتأهب لقصف القرية… ..تمر الدقائق وتنقضي الساعات، ولا أثر له ولا لحماره، ترتفع درجة الحرارة فترسل قيضها على الجباه العارية والرؤوس المنكسة كالأعلام، يتسرب اليأس إلينا الواحد تلو الآخر، يعلو وجوهنا البئيسة والشاحب لونها تذمر وامتعاض شديدين، يحس الأطفال بلهيب الشمس يلفح أجسادهم الفتية، فلا يقدرون على الصمود طويلا تحت وطأته، فينطلقون كقطيع الأغنام مهرولين إلى ظل شجرة البلوط المنتصبة في أقصى يمين التل.. أظن أن قدرنا هو الانتظار يوميا تحت حرارة الشمس الحارقة، يقول شيخ طاعن في السن، وبريق عينيه يحكي عن حالة اليأس الشديدة التي آل إليها ترقبنا الطويل… أخاف أن يضيع عمرنا هباءً ونحن نصطف كل يوم فوق هذا التل، أردفت امرأة وهي تحاول تهدئة طفلها الرضيع بقطعة ثوب مبللة بماء ممزوج بالسكر.. كانت كلماتهم تخترق وجداني كأنها سكاكين صغيرة، أحس بألم يعصف به كما تعصف الرياح بالهشيم..أسترجع بِأَسىً شريط الأحداث، وكيف أصبحت قريتنا رهينة للانتظار والترقب.. ..كان ذلك في ربيع العام الماضي،أي مرَّ عام وبضعة أيام، حين زار قريتنا يمتطي حمارا بنيا، وفوق ظهره حقيبة سوداء تتوسطها أوراق ملونة بكل ألوان الطيف..كان يجلس تحت شجرة التين الواقعة شمال القرية على مقربة من ينبوع ماء صغير، حينما أقبل عليه شيوخ القرية وكبار السن، كان منظره غريبا، يرتدي بذلة أنيقة كتلك التي يرتديها الرجال الذين يظهرون على شاشة التلفاز، ينتعل حذاء أسودا وقد علق به غبار القرية. بادره الشيوخ بالتحية، فردها وفمه يفتر عن ابتسامة عريضة، ثم سأله كبير القرية عن هويته ومن يكون ومن أين حضر…. شرع يجيب عن أسئلة كبير الشيوخ بلكنة عجيبة… حضر سكان القرية جميعهم إلى حيث يجلس، وتحلقوا حوله وهم ينصتون لكلامه المزون وقدرته الخارقة في إيصال المعنى… فهمنا من كلامه أنه رجل يحب الخير، يسعى بين القرى النائية والمعزولة، يحقق الأماني والأحلام، ويهدم البؤس و يقتلع الكآبة من جذورها.. أصابنا نوع من الارتباك والشك في البداية ولم نصدق كلامه ولم نتبين حقيقة مراميه ، قبل أن تتبدد شكوكنا ويزول ارتباكنا ونحن نراه يخرج من حقيبته السوداء أوراقا ملونة وشرع يكتب على ظهرها أحلام الواحد منا تلو الآخر… انتهى من كتابة أحلام الجميع، وراح يجمع الحلي والجواهر، التي جمعت له كقرابين تساعد على تحقيق الأحلام بسرعة كما قال لنا، في حقيبة أكبر قليلا من حقيبته الأخرى، وهو يطمئننا بأن أحلامنا ستتحقق في غضون ستة أيام على أبعد تقدير وغادر ملوحا بكلتا يديه… يحمل على متن حماره الجواهر والحلي..وعلى متنه أحلامنا المزينة بكل ألوان الطيف…