كأس الكونفدرالية.. نهضة بركان يمطر شباك نادي قسنطينة الجزائري برباعية ويقترب من بلوغ النهائي    مغاربة داعمون للقضية الفلسطينية يحتجون أمام ميناء "طنجة المتوسط"    ابن تمسمان الأستاذ سعيد بنتاجر، يقارب الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في معرض الكتاب بالرباط    ترامب يعيد هيكلة الخارجية الأمريكية    "نداء القنيطرة" يدعو لإصلاح الإعلام    خمس لاعبين مغاربة ضمن التشكيلة المثالية لكأس إفريقيا للفتيان    تفاصيل حريق المسبح البلدي بالناظور    الدرك يطيح بأحد كبار مروجي الخمور باقليم الدريوش    أفاية: قراءات اختزالية تستهدف "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي    فتح بحث قضائي لتحديد ظروف وفاة طفلين في حضانة غير مرخصة بالدار البيضاء    الربيع الأمازيغي يُوحّد الشعارات ويُقسّم الساحات.. احتجاجات بالرباط ومراكش تندد بتهميش اللغة والهوية    لقاء إقليمي بالحسيمة يسلط الضوء على آفاق الاستثمار في إطار قانون المالية 2025    الامارات تحتضن مهرجانا يحتفي بالقفطان المغربي "عبر الزمن" بحضور مصممين دوليين    أسلحة بيضاء في شجار جماعي بالقصر الكبير.. الأمن يحقق ويلاحق المشتبه فيهم    برلماني يسائل وزير الفلاحة حول توتر العلاقة بين أعضاء من الغرفة الفلاحية والمديرية الإقليمية بطنجة    مستشار ترامب: الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء لا لبس فيه    السعدي: الحكومة ملتزمة بتعزيز البنية التحتية التكوينية المخصصة للصناعة التقليدية    القوات المسلحة تُكوّن ضباطًا قطريين    مقاولون يقاضون "التيكتوكر" جيراندو بالمغرب وكندا بتهم التشهير والابتزاز    المغرب يتصدر صادرات الفواكه والخضروات عالميًا: ريادة زراعية تنبع من الابتكار والاستدامة    "موازين" يواصل جذب نجوم العالم    رشق بالحجارة داخل مدرسة .. مدير ثانوية في العناية المركزة بعد هجوم مباغت بطنجة    "من سومر إلى لوزان: ريشة فائق العبودي تُكمل الحكاية"    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في فعاليات معرض "جيتكس إفريقيا"    القفطان يجمع السعدي وأزولاي بالصويرة    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني لأقل من 17 سنة إثر تتويجه باللقب القاري    الفنان الريفي عبد السلام أمجوظ يتألق في مسرحية سكرات    عبد العزيز حنون يدعم البحث في اللسانيات الأمازيغية بأطروحة حول التمني بأمازيغية الريف    تفاصيل اجتماع نقابات الصحة مع مدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته    بعد القرار الأمريكي المفاجئ .. هل يخسر المغرب بوابته إلى السوق العالمية؟    "الكاف" يختار المغربي عبد الله وزان أفضل لاعب في البطولة القارية للناشئين    الأرصاد الجوية تتوقع نزول زخات مطرية متفرقة اليوم الأحد    بنكيران: الأمة بكل حكامها تمر من مرحلة العار الكبير ولا يمكن السكوت على استقبال سفن السلاح    غزة تُباد.. استشهاد 29 فلسطينيا منذ فجر الأحد    الاتحاد الوطني للشغل يدعو إلى تعبئة شاملة في فاتح ماي    الآلاف يتظاهرون ضد ترامب في الولايات المتحدة: لا يوجد مَلك في أمريكا.. لنُقاوِم الطغيان    " هناك بريق أمل".. رواية جديدة للدكتورة نزهة بنسليمان    ندوة علمية تناقش الحكامة القضائية    الكوكب يسعى لتحصين صدارته أمام الدشيرة والمنافسة تشتعل على بطاقة الصعود الثانية    الأساتذة المبرزون يحتجون الخميس المقبل    لقاء يناقش دور المجلس الأعلى للحسابات في تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة    دراسة تدعو إلى اعتماد استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن السيبراني في المغرب    مقتل 56 شخصا في وسط نيجيريا    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    "الجزيرة" حين يتحويل الإعلام إلى سلاح جيوسياسي لإختراق سيادة الدول    دورة برشلونة لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل للمباراة النهائية    برشلونة يضع المدافع المغربي إدريس أيت الشيخ تحت المجهر … !    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا نعيش في الجبل يا جدي؟ - مقال متجدد
نشر في أزيلال أون لاين يوم 26 - 01 - 2011


لماذا نعيش في الجبل يا جدي ؟
تحت شجرة البلوط 'جد وحفيد جالسان 'بعيدان عن ضوضاء المدينة .
يرسم الحفيد على التراب خطوطا باهتة منعرجة ' أما العجوز ينظر إلى السهول المنبسطة أمامه 'واضعا محياه يبن يديه'متأملا قدره الذي وضعه كوتد لا يتزحزح صامد ا في هذا الجبل في لباس وقور ' ولحية بيضاء تبرز أن صاحبها عاش مرحلتي الاستعمار و الاستقلال 'فجأة ينهال عليه الصبي بسؤال قاس ' مزق نشوة الجلوس في قمة الجبل:
- جدي ' لماذا نسكن الجبل ؟
تنهد العجوز 'وتنحى جانبا كأنه يبحث عن شيء ثمين فقده .
- آه 'يا بني ' لن تفهم ذلك ' وليس سهلا أن تستوعبه!
- سأحاول الفهم والاستيعاب 'إن قصصت لي الأسباب؟
شمر الشيخ جلبابه 'وابتلع ريقه 'ثم استقام في قعدته :
- نحن الامازيغ' الأحرار ' نعشق العيش فوق الجبال 'الم يعلموك في المدرسة : سكان المغرب الأولون هم :...
- البربر يا جدي .
- كلا يا بني !الامازيغ 'هم سكان المغرب الأولون ' وليس البربر .
- وما الفرق بينهما ؟يا جدي ؟
-اسأل أستاذك عن ذلك؟
تعود الحيرة والارتباك إلى مخيلة الطفل :
- أستاذي يعيش هو أيضا في الجبل ' يفكر دائما في الانتقال إلى السهل والحضارة والمدنية...
يتدخل العجوز من جديد ' وعلامات الدهشة والحيرة تعلو محيا الغلام :
- كنا إبان الاستعمار ' نحارب النصارى بنية الإسلام ونعتبر كل من يتقرب إليهم خائنا للدين والوطن .
- سبحان الله يا جدي !!!سمعت في الأثير: 59 مهاجرا مغربيا اغلبهم من "ادرار"ازيلال يخاطرون بأرواحهم حبا في معانقة النصارى .
- تبا لهم وهم مسلمون ؟؟ آه لو بقي سيدي حماد احنصال لأضاف قتلهم لنصارى "امرصيض"و "افورار".
- استيقظ يا جدي !' إن الشباب في جبلنا مل الوعود الكاذبة والنضال الفارغ ' يريد خبزا ناصع اللون 'ولباسا يساير العصر ' وسيارة البرلماني 'ومعرفة الرجال 'وعدم العيش في الجبال' لان العيش في الجبال فكرة خاصة فقط بالشيوخ والعجزة والمتقاعدين ' الذين ليس لهم أية تسلية سوي "الكارطا"وجمع العاطلين على شكل حلقات للاستماع للبطولات والحروب الاستعمارية الماضية....
- صحيح يا بني ' لو كنا نعرف أن مصيرنا – نحن الجبليين- سيصل إلى ما نحن عليه الآن ' لعانقتا النصارى ولطلبنا منهم أن يعلموننا كيف نحارب أميتنا الامازيغية ' ولما صعدنا إلى الجبل . كلمح البصر ' عادت الذاكرة –الكاميرا الخفية – بالشيخ إلى أيام المقاومة وجيش التحرير ' حين كان يافعا ' تغلي دماؤه بحب الوطن'وأوج كراهية المستعمر ' كان في عز شبابه ' يقطع المسافات مشيا على الأقدام إلى فا س او الدار البيضاء ' ليبلغ المناضلين بآخر أخبار أهل الجبل ... يهيمن الصمت على الجبل نفسه ' كأنه يشاطر الشيخ بطولته وشهامته يعود الغلام إلى الواقع المر ' ليسال العجوز :
- جدي ! ما بك ؟ . يستيقظ الشيخ من نشوة الماضي البعيد .
- يا بني ! والله إننا كنا ندافع عن وطنيتنا بالغالي والنفيس ' وليست لنا أية انتهازية في ذلك ؟
- وما الذي أحزنك اليوم ؟
- لا احد يعترف لنا بماضينا ومقاومتنا ؟و...
- الله يعرف ويرى' ونحن الصغار أيضا نجسد مقاومتكم قي ألعابنا في المراعي الجبلية المجاورة .
- لكن رعاة قريتنا اليوم يهاجرون إلى اكادير بحثا عن العمل . تذكر الغلام بعض رعاة قريته " اخلف وميمون و..."الذين لم يعودوا منذ سنتين .
- صحيح ما تقول يا جدي العزيز ' تغيرت الحياة ' ولا احد يحب الرعي والبقاء في القرية .
- أتذكر مقاوما في أيام الاستعمار ' كان يفتخر بنا نحن ساكنة "ازيلال" ' ويهتف في وجوهنا بأعلى صوت " المقاومة ' المقاومة " وحين نخرج من منزله ' يقول لأبنائه " الثقافة ' الثقافة " .
- وما مصير أبنائه اليوم يا جدي ؟ . تنهد الجد ' واهتز قفصه الصدري ' حتى كاد أن يفارق الحياة .
- بل ما مصيركم انتم أبناء ازيلال ؟
- يا جدي ' الحمد لله ' نرعى الغنم ' ونسير في الثلج مسافات طويلة من اجل الوصول إلى المدرسة ' لكي نتعلم اللغة العربية وقواعدها الجميلة ' اسمع يا جدي : الجار والمجرور ' والضمير ...
- يا بني !!! لو لم نكن مجرورين ' ولو كانت لنا – في مرحلة الاستعمار – أفكار اليوم 'لنصبنا الخيام في السهول ' و لقلنا للعالم : نحن أولى بهذا السهل ' لأننا تاريخيا نعتبر سكانه الأصليون .
بدأت الشمس تميل إلى الغروب ' ترسل أشعتها الذهبية لتصطدم بمنظر القرية الخلابة ' في أسفل السفح' لترسم لوحة فنان ' باهظة الثمن ' وليس هذا الفنان ' تشكيليا مشهورا ' انه الخالق العظيم لهذا الكون الشاسع الرائع...حاول العجوز الوقوف على رجليه النحيلتين ' وهرع الغلام مسرعا لمساعد ته ' وفعلا وقف الشيخ وانتصب كقوس من الفولاذ .كلما اقتربا من منازل القرية ' والظلام يلفح خيالهما بلون رمادي داكن يدل على البؤس وشظف العيش ...
دخل الغلام المنزل الحقير ' متبوعا بخطوات جده الهرم . أما القرية فقد غاصت في ظلام دامس ' ونباح كلابها ' ونهيق حميرها ' وأضحت كسفينة نوح عليه السلام .
في هذا الكوخ الحقير' الذي يشبه كهف أهل الكهف 'كان حدو والد الغلام ' جالسا في صدر الغرفة الوحيدة ' المستطيلة الشكل ' وأمامه "صينية نحاسية " مليئة بكؤوس شاحبة اللون ' بجواره زوجته ايطو موشومة اليدين والذقن ' وعلامات الجمال الامازيغي - البعيد عن شتى أصناف التبرج والألوان – بارزة على وجهها.
ورغم فقرهما ' فهما يعيشان في سعادة وهناء ' متزوجان منذ أكثر من ثلاثة عقود 'لم يحدث قط خصام بينهما طيلة هذه المدة . شاركته القرح والفرح ' لا يعرفان المدونة ولا الطلاق بجميع أصنافه .شاركا في المسيرة الخضراء 'حبا في لم شتات الوطن ' حصلا خلالها على وسامين 'معلقان الآن بجانب يومية عتيقة قرب مذياع خاص للأخبار والأغاني الامازيغية .
ويلج العجوز والغلام البيت الحقير 'ليشاركا الزوج وزوجته الحوار.
- تشربان الشاي 'وكأنكما في قصر ماسنيسا او يوبآ الثاني ؟
- ومن يعرف تاريخهما اليوم يا بني ؟ انه اعتراف مؤلم من الأب حدو لابنه .
- أتتذكر مستعمرا فرنسيا كان يحدثنا بمثل هذا التاريخ . وهي عبارة عن ماض منسي ' يتفوه بها الشيخ .
- يا جدي ' إن التاريخ المدون في الكتب ' ليس سوي تاريخ الطبقات الحاكمة ' أما تاريخ الطبقات المحكومة والفقيرة ' لا يوجد إلا في القصص والحكايات الشعبية و...
- فقصة " حرمجوض " مثلا أحسن بكثير من قصة " جحا " . وهو رأي منسجم مع خيال الزوجة ايطو .
- والله يا أبي ' لو كانت الدراسة باللغة الامازيغية ' لكنت الأول في القسم ' لكني لا اعرف معني كثير من الكلمات و الجمل باللغة العربية .
- ا ن أباك " حدو " ' يسافر كثيرا إلى بني ملال ' يعرف التحدث بالعربية .
يرفع حدو رأسه ' مفتخرا بهذه الميزة ' ثم تجيب ايطو باستهزاء :
- أي عربية يتقن ' كاد أن يسجنه القاضي في محكمة بني ملال ' لان عربيته ممتزجة بالامازيغية ' كان يرد المذكر مؤنثا ' والمؤنث مذكرا ' وهذا ما اغضب القاضي ' لان حدو رده امراة . انفجر البيت المتواضع ضحكا وقهقهة .
قال الغلام علي ' وهو يمسح دموع نشوة الضحك :
- لن أصاحبه إلى القسم ' حتى لا يرد الأستاذ أستاذة . وتضيف ايطو وهي مستلقية على ظهرها من كثرة الضحك :
- يا حدو ؟ تكلم بالامازيغية ' أتشعر بالمهانة حين تتحدث بها ' إن السوسيين – اكادير ونواحيها – لا يتحدثون في الدار البيضاء إلا بتشلحيت .وما لك أنت لا تتحدث بالامازيغية ؟ أتخاف أن يستهزؤوا منك ؟ .
تدخل بنت حدو ' أخت علي ' حاملة بين يديها ' سطلا من حليب النعاج الموجودة في الزريبة المجاورة تاركة باب الكوخ مفتوحا 'وازداد نباح الكلاب ' إذانا بأن القرية فارغة من المارة والمتسكعين في أزقتها المظلمة .
يخاطب العجوز زنبة ' وقد اتجهت إلى زاوية مظلمة ' يعتبرها الجميع "مطبخ الأسرة".
- احضري يا زنبة حجرة " التيمم " لاني لست على وضوء .
- أية حجرة تريد يا جدي ؟ الصغيرة أم الكبيرة ؟
- النقية والتي لا نستعملها في تكسير قالب السكر يا بنيتي !!!
تعود الشابة زنبة من الزاوية المظلمة ' حاملة بين يديها حجرة ملساء من كثرة الاستعمال للتعبد ' نظرا لقلة الماء الطهور الخاص للشرب والوضوء ' يتسلم الشيخ الحجرة بلهفة ' ثم يشرع في التيمم ليقف بصعوبة للصلاة .
في الزاوية المظلمة بآثار دخان الحطب المنقول على ظهر حمار الأسرة النحيل 'تطهي ايطو العشاء البسيط المصنوع من بعض ما تبقي من خضر السوق الأسبوعي 'بدون لحم ولا فاكهة .المهم يثقلون بطونهم ' بأي شيء ' ويتسامرون ' ثم ينامون استعدادا للغد المقبل .
كان الشيخ يصلي صلاة العشاء ' ويلحن في القراءة ' لكن إيمانه قوي بالله ' ويركع ويسجد بصعوبة ' غير أن حفيده علي ' يراجع دروس الغد ' لا عون له ولا مرشد .
وبينما الأب حدو يخيط سروالا عتيقا مستعملا ' اشتراه الأسبوع الماضي من سوق الملابس المستعملة " الجوطية "وهو في غاية من الفرح. تخرج زنبة الى الزريبة مضيئة سبيلها بفانوس ' أكل عليه الدهر وشرب ' لربط الخرفان بعيدة عن النعاج .وعندما وضعت ايطو العشاء جاهزا في طاجين كالح كأنه اخرج من جهنم .
أنهى الكل ما كان يقوم به من عمل ' ما خلا واحدا ' انه حدو ' يقلب السروال ذات اليمين وذات الشمال ' لعله يصلحه ' لكنه أخيط من قبل وفصل غلى جسم إفرنجي سمين ' لا يشبه تماما جسم وهيئة الأب حدو.
يعود سواد الليل ليهيمن على أرجاء الكوخ الحقير' وتسمع بين الفينة والأخرى' شهقة مفاجئة'أو أنين نائم '
وبات المنظر كأنه نهاية فصل من فصول مسرحية درامية .
تستيقظ ايطو الأولى من النوم كعاداتها ' لتستنشق نسيم الصباح القروي الصحي ' وتجمع الحطب من الزريبة الملتصقة ببيتها ' وتشعل النار في الزاوية المظلمة . وتشرع في إعداد وجبة الفطور .
وعند طلوع الشمس يكون الجميع أنهى من تناول زيت الزيتون وخبز الشعير وشرب بعض فنجان الشاي.
يخرج علي الابن ' يحمل على كتفيه النحيلتين الكتب والدفاتر واللوازم المدرسية ; وهو يتمايل يمينا ويسارا
حسب المكان الذي يضع فيه خطواته. يمشي ويداه ترتعدان من قسوة الطبيعة الجبلية ' الشيء الذي يجعله ينفخ في أنامله رغبة في الحصول على الدفء.
أما الجد ' ينزوي في ركن قرب الباب ' ويفترش حصيرا عتيقا من الدوم ' راجيا حرارة الشمس المنبثقة من الشرق. يتجه حدو ببغله الأبيض نحو السوق الأسبوعي ' راغبا في بيع شاة هرمة ' ومتمنيا الإياب ببعض المواد الأساسية : السكر ' الشاي ' زيت المائدة ...
تفتح زنبة باب الزريبة ' تندفع الشياه والخرفان بسرعة ' ويمتزج الثغاء ونباح كلاب الحراسة ' كأننا أمام مشهد من مشاهد أفلام رعاة البقر الأمريكية .
وتبقى ايطو وحدها في البيت ' تقوم بالأشغال المنزلية ' وتستمع للاغاني الامازيغية الحزينة المعبرة عن العواطف المنهزمة . تشغل في نسج زربية أصيلة ' فيها رموز حروف "تيفيناغ" المنسية.
يصل حدو إلى باب السوق 'ينزل من فوق ظهر بغله ' يجر الشاة الهرمة 'بعد أن أدى واجبات صك البيع .
يدخل بين الفلاحين 'يجلس بينهم قابضا الشاة بيد من حديد ' منتظرا المشترين للبهيمة . يقوم بتفاوض مع احدهم ' وأخيرا يستطيع بيع شاته. اضطر حدو كباقي الباعة والمشترين من سكان الجبل اللجوء إلى مقهى مجاور للسوق ' لينزوي على كرسي خشبي خشن طويل ' بالقرب منه احد جيرانه من "ايت باسو " :
- لحو – يعني الحسين – كيف حالك ؟
- أهلا حدو – متعجبا – رأيتك في رحبة البهائم تبيع شاة .
- صحيح ' الآن أستطيع شراء بعض ضروريات الأسرة . تكاثر الضجيج في الزاوية الأخرى من المقهى وجميع زبنائها ' يشرئبون بأعناقهم إلى شاشة تلفاز عتيق فوق أعينهم. تعجب حدو من الضجيج المفاجئ 'وسال :
- ماذا وقع يا لحو ؟ .وقبل الإجابة المقنعة ' فكر في المساعدات التضامنية التي توزع قي قريته كل شهر رمضان المبارك. التفت إليه جاره 'وطلب منه الاقتراب إلى المشاهدين إلى التلفاز ' وفي انتظار ترجمة الأخبار ' علت محياه علامة الاستغراب ' عند رؤيته أحداث الشاشة : اصطدام بين فريقين من الناس ' وهم يتراشقون بالحجارة ' والجرحى يتساقطون ' ورجال الأمن يوجهون خراطيم من الماء القوي إلى صفوف المصلين المتراصين والمحتجين من اجل إسقاط نظام الرئيس المصري .
اختلط الأمر على "حدو" ' لأنه لا يعرف الموقع الجغرافي المصري ' وتساءل :
- من فضلك يا لحو : هل مصر توجد قرب الرباط .
- لا يا حدو ' إنها قريبة من الحج . ويقصد لحو بالحج المملكة العربية السعودية .
- الحمد لله إن هذا "الصداع" بعيد عن المغرب .
- إنهم يفكرون إن ينقلوه إلى جميع الدول العربية .
- إن ملكنا محمد السادس ' يعمل بجد ليل نهار ' من اجل التنمية البشرية و...
- صحيح يا حدو ما تقول ' ولكن الشباب يريد العمل ' والفساد والرشوة منتشرة.
- نطلب من الله أن يعين ملكنا ' ويخزي المفسدين في وطننا .
- المهم يا جاري ' إن النادل يحمل إلينا ' وجبة غذائية ' فاستعد لنأكل الطعام .
- وبعد الطعام والشرب ' إن شاء الله ' نعود إلى أسرنا .
-
ونظرا لكثرة الضجيج داخل المقهى ' اخذ الامازيغيان ' يتناولان طعامهما في صمت رهيب ' وكل واحد منهما يسبح في عالم مغلق خاص به . لا يعرفان أي شيء عن التطورات والأحداث السياسية العالمية .
يخرج الرجلان من المقهى بعد أن سدد احدهما مصاريف الوجبة ' ولما تقاسما هذه المصاريف ' اتفقا على أن يجتمعا في المسجد لأداء صلاة العصر ' ومن ثمة على دابة كل واحد منهما ' يعودان إلى قريتهما .
في وسط السوق' كان حدو ينتقل من بائع إلى آخر 'باحثا عن مستلزمات أسرته ' ولما أذن المؤذن لصلاة العصر ' تذكر الصلاة وموعد جاره لحىو .
بعد الوضوء ' وجد حدو نفسه بين المصلين ' يركع حين يركعون ' وقد يسجد متأخرا حين يسجدون أيضا وخاصة عندما يطيل الإمام في الركعات ' والسبب في ذلك ' كونه أمي لا يعرف متى تنتهي السورة أو الآية التي يصلي بها الإمام نفسه .
يخرج حدو من المسجد ' حاملا بين أنامله حذاء مطاطيا ' أكل عليه الدهر وشرب . يمتطي بغله الأبيض ' متجها صوب الطريق المعتاد إلى قريته ' ليجد لحو جاره ' ينتظره قرب شجرة ضخمة ' وهو كذلك فوق ظهر حماره الصبور .
- أهلا لحو ' ألست مستعدا للرجوع إلى قريتك وأبنائك ؟
- كيف لا أكون مستعدا ' وصغارنا ينتظروننا !!
- بصراحة ' لماذا لا يفكر الحكام في شعوبهم ؟ يقولون إن حسني مبارك ' له أموال كثيرة ' وشعبه يعيش في الفقر والفساد والرشوة ...
- والغريب في الأمر ' يقولون إنه اليوم من أغنى الناس في العالم !
- بالله عليك ماذا يفعلون بكل هذه الأموال الطائلة ؟
- إنها ليست أموالهم ' هي أموال الشعب ' يسرقونها ' ولا يحاسبهم احد .
- إن الله يمهل ولا يهمل ' المال "وسخ" الدنيا .
- هؤلاء الحكام متسخين أمام الشعب ' وأمام الله يوم الحساب .
- يا حدو جميع الناس اليوم أصبحوا واعين ' يريدون محاسبة المكلفين بالمال العام .
- صحيح يا جاري ' الحاكم يتمتع بمال الآخرين كما يشاء ' والفقراء يحاربون الجوع والغلاء والحياة القاسية.
- واستمر الحوار العفوي بين الامازغيين ' وهما يتمايلان فوق دوابهما ' كأنهما بطلين من أبطال مسرحية درامية تجسد الصراع الطبقي العربي الحالي . وكلما اقتربا من " أكواخهم " اقتربت الشمس من المغيب .
لكن الجميل في هذا الدنو من القرية ' نباح الكلاب المتواصل ' وثغاء الشياه الراكدة إلى صغارها بعد غياب يوم عسير ...
محمد همشة.
( يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.