إلى أين يوصل هذا الطريق؟ إلى أين ينتهي؟ ينتهي يا بني إلى البحر. ردت عليه الجدة التي كانت تكنس المُراح برزمة من أعواد الديس اليابسة الصفراء. يسأل عن هذه السيارات التي يراها من سفح الجبل بحجم النملة: أين كانت و إلى أين تتجه؟ كانت في المدينة الكبيرة البعيدة يا بني، وأصحابها يعودون إلى ديارهم. ترد عليه الجدة الياقوت التي تحنو عليه أكثر من اللازم وتحفّه بدلال منقطع النظير ؛ تمنحه خير ما تدخره في كوخها من فاكهة، بل حتى أن بيضات دجاجاتها تشويها له على طاجين من الطين، تسعد بمشاهدته يلتهمها بتلذذ، يقولون أن الحب لفلذة أبناء الأبناء أكثر من فلذة الكبد؛ وإنه لقرة عينها وسويداء قلبها. كيف يمكن لهذه العجوز أن تعيش في هذه البقعة النائية التي تكاد تخلو من البشر وحيدة إلا من كلابها التي تحرسها ومن حمارها وبعض شويهاتها التي تركها لها زوجها المتوفى من زمن، والتي لطالما كفتها شر السؤال، ليس عجيبا تعلّمها نكش الأرض وتسوية الخطوط بمهارة فائقة واكتفائها من الخضر لكل فصل، وغرسها أشجار الفاكهة من زيتون مختلف ألوانه ؛ لقد جعلت من قطة أرض جبلية قاحلة مساحة خضراء يستريح لها البصر. يتهكم الناس النازحون إلى المدينة تاركين هذه الأرض التي يعتبرونها نوعا من العذاب ويصفونها بالجحيم الدنيوي واللظى اللعين، كانوا يتضاحكون ويتغامزون خفية ويتفننون في النميمة فلا حديث يشغلهم غير الجدة الياقوت التي فقدت عقلها في تبديد صحتها في أرض الكومينال التي نستها الدولة والبشر. لا شك قد نسوا صورة هذه العجوز اليابسة القوام المعوّجة الظهر كقوس وهم الآن في المدينة التي يتكدّس فيها البشر ويأملون في الحصول على سكنات تشبه العلب حيث لا ترى غرفها الشمس و الهواء. تكاد الدشرة تخلو من سكانها يوما بعد يوم يتنقّل أبنائها إلى العاصمة و إلى مداشر وقرى قريبة من المدينة على نحو يكون فيها بعض مرافق الحياة بخاصة الكهرباء؛ باع غالبيتهم بقراتهم وأغنامهم وفرحوا بحياة لا ثغاء و لا خوار فيها. الجدة الياقوت لا تملك ما تبيعه ليمكنّها من شراء بيتا محترما ؛ حتى و لو كان بمقدورها ذلك فلن تفرّط في هذه الذكريات فهي كل حياتها وتتمنى الموت على مغادرة المكان الذي يذكرها بأجمل ما عاشته في حياتها، إنها تتنقل يوميا إلى المقبرة البعيدة مئات الأمتار عن بيتها المبني بالحجر الصوان والطين من زمن، المقبرة المحاطة بسياج والذي يمنع دخول الحيوانات و الكلاب و الأغنام التي ترعى بحرية ودون حِمى. هناك في المقبرة يرقد في ثراها أعزّاء على قلبها، ثلاثة قبور متجاورة، تزورها كل يوم، ترش الماء على ترابها، الماء الذي تجلبه من الساقية التي يقولون أن " القمر هبط في ليلة حزينة واستوي على غدير قريب منها و تمثّل هناك في صورة بشري لفتاة طردها أهل القرية بتهمة جرم لم ترتكبه؛ قالوا أنها أحبّت رجلا غريبا كان يمر على القرية فوقع في حبها وطلبها من أبيها لكنه رفضه بداعي القبيلة لا تصاهر الغرباء فغالبيتهم من الجن أو لصوصا طردتهم العدالة فساحوا في الأرض باحثين عن وطن، الرجل الغريب أصرّ على حبه و تمسّك بالفتاة التي بادلته نفس الشعور والحب، لكن وقعت الخطيئة بقتلهم هذا الغريب الذي لفظ آخر أنفاسه ورأسه في صدر حبيبته التي فقدت عقلها من وقتها ولم تعد تبرح الساقية التي كانا يلتقيان فيها، فحدث الأمر الخارق الذي يفوق قدرة البشر على فهمه وتأويله أن غاب القمر من السماء ونزل إلى ذاك الغدير حيث جذب بضيائه الفتاة وأخذها معه وتحللا ّفي الماء، قالوا ما كان القمر إلا ذاك الغريب المخلص في وفائه ومن ذلك الوقت تحوّل الغدير إلى رمز للوفاء يتبرّكون بمائه الذي يسقون به قبور من فقدوهم." العجوز الياقوت تؤمن بالحكاية كمثيلاتها من العجائز وتلقنها لحفيدها، تسقي القبور التي لم تكن غير قبور زوجها و أبنها الوحيد وأم حفيدها. أما زوجها الحفصي فقد توفى من زمن بعيد بمرض حلّ به واستطال أمده ولم يشفى منه إلى أن توفّّاه الله وتركها امرأة صغيرة في عز الزهور بين أهالي القرية الذين يأكلون جسدها بنظراتهم و يشتهونها في أنفسهم ولولا خوفهم من أعراف عائلاتهم وشيوخهم التي تمنعهم من ذلك لكانت زوجة أحدهم، كلهم تمناها لنفسه ولكنها لم تتمنى يوما غير زوجها الذي عارضت العائلة زواجه منها فأخذها غصبا عنهم ورمى برأيهم في مزبلة اللامبالاة ؛ خرج عن قانون العائلة المجرّم لكل عاصي لأمر شيخ القرية ؛ كان الدافع قويا أن ينتقم منه شيخ القرية الذي لم يكن غير رجل جشع طلب يدها من أبيها و رغب في أن يضمها لقطيع زوجاته، كان سنها لا يتعدى السادسة عشر و هو في عمر جدها، قدمٌٌ في الدنيا وأخرى على القبر. كان شيخ القرية يعرف أن الذي يسميه الحفصي باللعين يتربص بالقلب الذي كوّاه، دائما يمر بالقرب من صور الكوخ الحجري للياقوت مطلا على دارها بدعوة مناداة أخيها وتارة بحمل بعضا من المحصول الذي يرسله شيخ القرية، لم يكن يعرف أن شيخ القرية كان يساوم أهلها في ابنتهم الجميلة ذات الضفيرتين الطويلتين والوجه القمحي، الطفولي الملائكي المشتهى، كانت إرادة الله تمنح الحفصي السبب في التواصل معها، إرادة الله التي قهرت إرادة الطمع في النفوس الخبيثة المحاربة للحب والراغبة في إرضاء الجسد الجشع الذي يخون ولا يتوب إلا بالمرض أو الموت. هكذا طردته العائلة شر طردة كما يطرد الصالحون، لقد تزوجها بآيات الله وبشاهدين من عائلته حضرا خفية.
رضيا بقدرهما، وقدرهما أن يعيشا على قمة الجبل داخل كوخ سقفه من القش والحلفاء؛ حكم شيخ القرية المعيّن من الاحتلال على عائلتهما أن لا تزوره ولا يزورها ومن يفعلها منهم يلقى عقابا و آثاما فلا يمنحه رضاه بعدها أبدا، رضاه المتمثل في هبات رياء من القمح والشعير وزيت الزيتون. زوجها كان رجلا، تحمل تبعات اختياره فعاش معها سنينهما الجميلة برغم الفقر الذي غرس أنيابه فيهما، كانت راضية أشد الرضا وكان هو سعيد أشد السعادة إلى أن حلّ به قدر الله. لم تزره العائلة كما أمر بذلك شيخ القرية الطاغي حتى والديهما لم يجرءا على فعل ذلك، وكبرت القسوة والحقد و الكراهية في النفوس. برغم ذهابها لتستلطفهما و تخبرهما بالمرض الذي أقعد زوجها الحفصي حبيس الكوخ. لم يتفجر نبع الحنان في قلوبهم ومن الأب إلى الأخ إلى أبناء العمومة، حتى أنها قصدت دار أبيها وأوصد الباب في وجهها، استقبلت بالبصاق على وجهها لأنها تسببت في عقوبات لأسرتها ولو قبلت بالشيخ لرفعت المعاناة عنهم جميعا، ويا للإنسان الأناني الذي يريد أن يحقق سعادته على حساب أحاسيس حتى أكثر المقربين إليه؛ رجعت خائبة الرجاء إلا من الله الذي كان يكبر في قلبها كلما نصّبوا أنفسهم أربابا وزبانية على القلوب والنوايا؛ ومات الحفصي الذي أحبته و أحبها و ترك لها ابنا لا يتعدى الثلاث سنوات، مات وحيدا في حضورها وفي حضور دمعها الذي كان يتلألأ كجواهر الزمرد، وهذا الطفل الذي لا زال لا يعقل ما معنى البكاء و لكنه يلقي بجسده الطري على جثة أبيه الميت لاهيا كما كان يفعل له والده كل مساء حين يأوي إلى الفراش. هذا الطفل ذاته الذي كبر من صدقات بعض الناس الرحماء الذين لم ينقطع الخير من أفئدتهم و جعلهم الله مفاتيح الخير يتصدقون عليهما خفية، لقد أرادها شيخ القرية أن تستسلم له، طلب الزواج منها مرة ثانية، أرسل لها مع أحد أعوانه، رفضته وسترفضه ولو كان الباقي على الأرض، أبت أن تسلّم روحها لغير زوجها الحفصي، سلمتها له وهو في الحياة و تسلمها له وهو بين يد الله. أرادها شيخ القرية أن تهلك و يهلك معها ولدها الذي كان يلقّبه بثمرة الخطيئة ويسميها العاهرة. كبر الابن الوسيم الذي أخذ كل صفات الرجولة وكان اسمه المزالي، صار يعيل أمه، كان يكبر أمام ناظرها، هذا ما بقى لها من الدنيا، كل الدنيا لا تساويه بل حتى الدنيا لا تساوي شعرة من مرفقه كما تقول لنفسها دائما. الرجل الجميل فتنت به صبايا القرية جميعهن، كان يعرض عنهن جميعا دون استثناء وبخاصة بنات شيخ القرية الذي وافته المنية بعد ذلك، ومع هذا فأبنائه لا زالوا يكيلون له ولأمه الضغينة؛ كان يتجاهلهم وكانوا يخافون سطوته و قوته ويحسبون ألف حساب لتهور قد يرتكبوه. رزانته وسحر كلامه الذي خلب عقول كل أهل القرية حتى لأن الجميع أقسم بأن الجن تعلّمه وتعينه في عمله، لقد رأوا كيف يحرك المحراث الذي لا يستطيع الثور تحريكه، ولكم حلّ من مشاكل استعصت على العقول والأذهان، ولكم ساعد السكان في بعض أعمالهم من بناية للأكواخ وتكسير للحجر بغرض البناء وما إلى ذلك مما هو متعلق بحياة القرويين؛ لقد صارت سيرته على كل لسان في القرية و أعجب به الرجال كما النساء، بل إن بعضهم اقترح أن يصير بمنزلة الشيخ ويقربوه منهم لينتفعوا بذكائه وفطنته وما كان الذين اقترحوا هذا غير أعيان وملأ القرية؛ الاقتراح بالطبع لم يعجب فئة من الناس كانت تضمر له العداء، هم كثيرون ومن بينهم عائلة شيخ القرية المتوفى من زمن، لقد راجت الشائعات أن جل بناته يعشقن المزالي وهو يعرض عنهن ما جعلهن ضحك القرية، بل إن إحداهن مرضت و كادت تموت لأجله. هو في الحقيقة لم يمنح قلبه لأي امرأة كانت سوى أمه، وسيحرم قلبه كل نساء قريته، هروبا من شر آبائهم، لقد علم بالذي حدث لوالديه فيما بعد على لسان أهل الخير أصحاب القصد الشريف والصلاح الذين أعانوا أمه سنينا خُفية. لكن أبى القدر إلا أن يعيد فواجعه و مواجعه. قال له الشيخ إبراهيم : "لم يكن سنّها يومها يتعدى الثلاثة و العشرين سنة و لها ابن في جمال البدر، إلا أن العائلتين تبرأتا منهما و اعتبروا ولدهما ثمرة خطيئة، كل سكان القرية يتغامزون إذا ما مرت الياقوت عليهم وابنها الوسيم..." وقال له الشيخ الجيلالي: مع هذا لم يعدموا حسن أخلاقه وابتسامته التي لا تفارقه أبدا فكانت ردا وشفاء للقلوب المريضة والنمّامة، كان له قلب مثل قلبك يا ولدي. كان رجلا شهما مثلك يا لمزالي وتزوج أمك في الحلال.
تمر الأيام ويقع الشاب في الحب من فتاة اسمها جميلة، كانت فتاة فقيرة يتيمة تربّت في دار خالها، تقربت منه وتوددته فظفرت به لمّا قابلها وهي راجعة من الساقية، قالت نساء القرية أن القمر منحها البركة، القمر الذي هبط وترك ظله في السماء وسكن في الغدير القريب، لا شك أن حكاية القمر والهلال تتجدد في هذا المكان الساحر. جميلة نفسها الفتاة التي أسرت قلب أحد أبناء كبار القرية الأثرياء ميسوري الحال ولقد أرادها خالصة لنفسه، لمّا أبت حاول مراودتها عن نفسها ولم يفلح في ذلك، هربت حين وصلت دار خالها سقطت مغشيا عليها بين يديه، لما أفاقت على ضربات خفيفات من كفه حكت عن الواقعة كما وقعت ولم يستطع أحد فعل شيء و الوقوف أمام هذا العاتي ؛ باحت لحبيبها بالذي حدث معها فتقدم لخطبتها إلجاما لألسنة السوء، رضي خالها بالرجل الشريف الذي أتى البيوت من أبوابها. كادوا للمزالي المكيدة وقتلوه، تركوا زوجته جميلة و أمه وحيدتان، تلحقه جميلة زوجته في أثناء الولادة؛ وهذا الولد الذي يزور المقبرة مع جدته ثمرة هذا الحب والوفاء. تحكي له الجدة الياقوت الحكاية عن جده وأبيه وهو يستمع بانتباه لا نظير له قبل مغادرته المقبرة التي يزورها معها كل يوم، كان صغيرا وقتها. لما بدأ يكبر بعثت به إلى المدينة ليتعلم، باعت شويهاتها وكل ما تملك لأجل أن يتعلم، علّه يفلت من هؤلاء الزبانية ودائرة جحيمهم؛ لم يراها بعد ذلك لأنها ماتت حزنا على فراقه. أدخل دار الأيتام، كان ذكيا فطنا مثل أبيه، ألحقوه من بعدها المدرسة العسكرية... الآن الآن الآن الآن رجل ببزة عسكرية ونياشين يقف عند شهود القبور الأربعة مصلّيا في نفسه وكثير من الجند يحرسون المكان وقال أحد حراسه المقربين: سيدي الجنرال إنه وقت المغادرة. سمعه الجند الذين بقوا واجمين من جملته وهو يرنو ببصره إلى سفح الجبل حيث كان يظهر طريق خالي إلا من عربات وشاحنات عسكرية: إلى أين يوصل هذا الطريق ؟ إلى أين ينتهي يا جدتي الياقوت؟ ابتسم بحنان وعطف من كل قلبه للجنود الذين يحفوّنه ويطلق عليهم اسم أبنائي الصالحين.