الليلة التاسعة: الرميكية أحسست الليلة بسغب. وأنا أهبط درج الفندق صادفت في الباب مروان. دعوته للعشاء معي. قال إنه يعرف مطعما يقع في باريو دي سانت كروز إسمه " طراطوريا سان ماركو"، وهو عبارة عن دار عربية. كانت سيارة الأجرة الكبيرة البيضاء ذات الخطوط الزرقاء الرقيقة واقفة في الطريق أمام باب الفندق. دلفنا إليها أنا ومروان ، وحددنا للسائق وجهتنا. نزلنا من السيارة وتمشينا قليلا بين الدروب والأزقة، الحركة لاتنتهي في إشبيلية كما لو أن هؤلاء القوم لا ينامون، وصلنا إلى المطعم، دخلنا، استقبلنا النادل باحترام، صعدنا الدرج، جلسنا على مائدة مجاورة للمطبخ الذي لا يظهر منه إلا النادلون والنادلات. كان المطعم شيقا، يتجمع به عدد من الإسبان ولا وجود لأي مغربي أو عربي، رغم أن الدار عربية، لكن مسير المطعم إسباني… مازالت روائح العرب مبثوثة في جدران هذه الدار وجنباتها رغم تغير الزمن والتعديلات المعمارية التي أدخلت عليها. كان لون المطعم برتقاليا ساخنا. جاء النادل، أدركت من ملامحه أنه مغربي، نحن الثلاثة مغاربة في هذا المطعم، قلت له: "ما إسمك ومن أي مدينة أنت؟ قال: "من مدينة سوق الأربعاء، أمضيت سبع سنوات في العمل داخل هذا المطعم، إنه يذكرني بأجدادي، وفي نفس الوقت آخذ أتعاب عرقي، وأعمل بهمة. كما ترى الطلبات وتلبيات رغبات الزبائن لاتنتهي". جعلني كلامه أتذكر ناتاليا، و أجواء غرفتها المخصصة للمجامعات المتكررة، واستقبالها لوجوه من جنسيات مختلفة، وعبور الجميع جسدها. كان جسد ناتاليا معبرا، أو كوبري. كلما تذكرت ذلك إلا وأحسست بالأتراح تغزو تفكيري، وأكاد أصرخ في جوف الليل: " أوقفوا هذا الفجور يا أولا د الكلب…"… ويعود صدى صوتي إلى صدري كأن شيئا لم يكن. قال النادل المغربي: " ماذا ستأكلان؟"، اخترت أنا الريكامونطي، فيما طلب مروان " ذيل الثور". كنت قد تذوقت هذا الذيل اللذيذ في مطعم " سابينا كارطوخا" الواقع بشارع شارل داروين، كان مذاقه لذيذا للغاية يجعلك تأكل أصابعك من فرط مرقه الشهي ولحمه المستطاب. راح النادل، ثم عاد وفي يده أقداحا من البيرة الباردة. وبلا أي تعليق بدأنا توا في الأكل بالشوكة والسكين. أف.. لقد أرهقني الأكل بهذه الأدوات، متى أستعمل يدي مباشرة بلا وسائط؟ لقد تعودت في المغرب أن آكل براحتي وأغمس في الأكل كما يقول أشقاؤنا المصريين، أما هنا فأي حركة بسيطة باستعمال اليد يمكن أن تقلق رواد المطعم الذين قد يتأففون من منظر كهذا وينظرون إلي نظرة جلفة، بل منهم من سيعتبرني "مورو" أسود الرأس غير متحضر. انتهى مروان من أكل ذيل الثور، أشعل سيجارة شقراء، ثم قال: - هل تعرف ماذا كان هذا المطعم من قبل؟ - ماذا؟… هل تخبأ عني شيئا لا أعرفه؟ - حماما عربيا. - حقا. - هل تراني أمزح… - لا. ليس ذلك… - كان حماما عربيا في القرن الثاني عشر. - وماذا كان إسمه؟ - لا أدري. - هل يوجد ذكر له في كتب التاريخ؟ - بالتأكيد. - هنا كان أجدادنا يستحمون. - يا عيني. .ياليلي.. - وحتى النساء.. - وش كنت معاهم.. - دعنا من ذلك. قلت لي إنك تعرف قصة الرميكية - بالفعل، قرأت ليلة البارحة عنها في جريدة عراقية، لكنني أو د أن أسمع منك هذه القصة، لأنني أعرف أن لك اطلاع جيد على تاريخ العرب في الأندلس، وخاصة في إشبيلية حيث نوجد الآن. - سأحكي ما أعرفه. - لم أطلب منك ياعزيزي شيئا أكبر. - على بركة الله. قال مروان: - " كان صوتها ساحرا مثل جمالها. شاعرة بالفطرة. ملقبة بالرميكية نسبة إلى سيدها رميك، صادفها ملك إشبيلية في ذلك الزمان أبوالقاسم بن عباد فأعجب بها ثم حررها من سطوة رميك وتزوجها. ابتدأت قصة حب المعتمد لاعتماد في نهر الوادي الكبير : تحدى الأمير صديقه الشاعر ابن عمار في مطاردة شعرية أن يأتي بالبيت الثاني ليكمل به البيت الأول الذي يقول فيه: نسج الريح على الماء زرد خان الشعر ابن عمار، وإذا بصوت الرميكية يطلع من العدم، لتقول: أي درع لقتال لوجمد كان حسنها باهرا ساحرا ولسانها فصيحا فأحبها المعتمد رغم أنها ليست سوى خادمة وسمى نفسه باسم قريب من إسمها هو المعتمد. وظل طوال عمره متيما بالرميكية حتى وفاته، وحتى لما ماتت ظل يرتقب أجله ليدفن إلى جانبها بقرية أغمات بمراكش". توقف مروان عن الحكي ثانية، رشف رشفة من قدح البيرة الباردة، ثم استكمل الحديث قائلا: - " إنها قصة مأساوية لا يمكن سردها في لحظات، تتحدث عن حياة ملك صعد إلى القمة ثم هوى إلى الأسفل، أكلت قلبه المذلة والفاقة والعوز وتعرض للأسر لمدة أربع سنوات وكان يعيش على مايكسبه أهله من أعمال الغزل". مازلت أتذكر أنني عندما سافرت إلى مراكش السنة الماضية زرت قبر المعتمد في أغمات، الذي لم يعد يذكره في إشبيلية إلا القليلون، لكن أثره كملك شاعر وفارس وكريم باق في ذاكرة إشبيلية، وعلى ثرى أغمان الذائعة الصيت في العالم العربي التي انتهى فيها الملك الأسير الشبيه للخيول التي تجر المقطورات في دروب إشبيلية، والذي نفاه فيها يوسف ابن تاشفين. قال مروان، وقد غلبه النعاس: - زرت ذات يوم أغمات. كانت صديقتي هدى قد دعتني لمراكش لحضور مؤتمر صحفي، فزرت قبر الملك المعتمد وإلى جانبه كان يرقد جثمان حبيبته وزوجته الرميكية". راقتني قصة هذا الملك الشاعر و حبه للرميكية، وتصورت أنني وقعت في حب ناتاليا منذ الوهلة الأولى، وتحديدا عند ولوجي غرفتها، تخيلت نفسي ألثم بشفتي اللذين ستأكلهما الديدان أصبع قدمها الرقيق الأغر وأقول لها بإحساس صادق: - أحبك… تضحك ناتاليا، وترد قائلة: - تحبني أنا…. - نعم… تشعل ضوءا أحمرا داخل الغرفة لتعيش لحظات رومانسية، لم تعشها مع أي أحد آخر. هل حقيقة أحببت ناتاليا… أم أنني كنت أرغب في تحرير رقبتها من سيف الذئب بيدرو؟ لا أدري. كل ما تذكرته الآن هو كلام أريج عن بيدرو، لكني لم أكن أضع ثقتي فيها..لأنه من البله أن يضع المرء ثقته في عاهرة. كنت أدرك أن شيئا غير عادي يقع في النادي الليلي… وقلت لنفسي: " لابد أن تكون أريج واحدة من شبكة بيدرو وسلطها علي لجلب أخبار عني له، ولهذا بدأت أحتاط من التكلم كثيرا مع أريج التي لا تتكلم عن نفسها كثيرا وتعرف عن الآخرين أكثر مما تعرفه عن نفسها. من هي أريج؟ وكيف جيء بها إلى النادي؟ هل هي جاسوسة أم عاهرة أم الاثنان معا؟ لا أحد يعرف الجواب سوى بيدرو وترايان الصياد الماكر.