الليلة السادسة: العابر طيف نوفل كالعابر لا أنساه في كل مكان… في الجزيرة الخضراء، قرطبة، غرناطة، إشبيلية وغراثاليما. كانت ماكينة الأرباح شغله الشاغل. لا يحب أن يشاهده أحد، إلا رفاقه القريبين منه، يراود ماكينة الأرباح عن نفسها عسى أن تمنحه النقود التي تنزل من فرجها كالشلالات. وقد اكتشفت ذلك في مقهى وحانة بقرطبة. كان يقول لي: - لا تدع أحدا يراني ألعب. - إلعب مادام هذا قرارك. - إنه قدري… - يمكنك أن تلعب… لن يزعجك أحد. - إني أعرف أنهم يهزؤون بي. لكن هذا شغلي… ولا أحب أن يتدخل أحد فيه. أنا حر. - نعم، أنت حر يانوفل. - سأربح…سأربح… - لاريب في ذلك.. فأنت عنيد.. ولن تهزمك هذه الآلة الخرقاء اللعينة. - لاتتكلم عنها هكذا. هي عندي بمثابة عاهرة. - ماذا تقول أيها…. - إنها تأكل نقودي، لكنها تمتعني قليلا.. - اعترفت أخيرا بملء ثغرك أنك تخسر إذن… - أنا اعترفت… - نطقتها بلسانك الآن.. - ماذا… كيف ذلك؟ - لا. بالعكس..أنا دائما أربح وهذه الماكينة حبيبتي. تركت نوفل يلعب مع ماكينته أو يراودها عن نفسها، كما يحلو له أن يقول أحيانا، عسى أن تمنحه نقودا، وذهبت ناحية الكونطوار. طلبت زجاجة بيرة باردة، أحضرها البارمان حالا فأفرغتها في جوفي دفعة واحدة. خرجت من الحانة. بقي نوفل وحيدا مع ماكينة الأرباح، همه الوحيد في هذه الحياة. لاشيء يشغله بتاتا سواها. أعرف نوفل منذ زمن بعيد وقت كان يزاول مهنة الصحافة، لكنه لم يستمر فيها طويلا بعدما لم يتمكن من إنقاذ صحيفته التي توقفت عن الصدور بدافع عوز مادي. التحق بديوان أحد المسؤولين ومكث به أعواما ثم لما وصل مسؤول جديد إلى الكرسي نادى نوفل وجعله كاتبا خاصا له. في الجزيرة الخضراء كان يفعل نفس الشيء. لم يترك حانة توجد فيها الماكينة إلا واخترقها. وكذلك الشأن في إشبيلية. قال: - " كدت أفقد عقلي من فرط الشرب واللعب. ظللت في الحانة القريبة بخطوات قليلة من الفندق الكبير. كان يحيى موجودا بجانبي، وأنا ألعب حتى كدت أقع على قفاي من التعب"….. غادر نوفل الحانة مباشرة إلى النادي الليلي حيث جامع ثلاث بنات ليل، الواحدة بعد الأخرى، عابرا البرازيل والدومنيكان وأوكرانيا في ليلة واحدة. ولما حاول أن يصعد إلى الغرفة مع بنت ليل روسية منعه بيدرو بصلابة وقوة وهو ينظر إلى تقاسيم وجهه بنظرة جلفة وجامدة. لما حكى لي نوفل قصته هاته في حانة ريستينكا، تذكرت العاهرة الروسية أريج التي صادفتها في النادي الليلي الإشبيلي. كنت قد نزلت من غرفة ناتاليا. قعدت في بؤرة الستريبتيز. كانت أريج بالغة الحسن، بيضاء كالسراج، مشهية. كانت ترغب في، وفي نقودي في آن، لكنني قلت لها بابتسام: - ألا تعرفين يا عزيزتي أنني كنت رفقة ناتاليا. لم تنبس بالكلام. افترت عن ابتسامة ساحرة. فكرت، وقالت بإسبانية رقيقة هامسة: - أسطا مانيانا. - ربما…ممكن… - كنت راغبة في أن أمتعك الليلة…لكن… - اسمعي ياعزيزتي أريج قد أدلك على صديقي نوفل ضاجع ليلة البارحة ثلاث عاهرات. - أمر مستحيل. - العهدة على الراوي… - ماذا قلت…. - لاشيء أريج. كنت أكلم نفسي. - أنظري إليه إنه يلعب … الماكينة لحست عقله.. - آه..ذلك الولد الشقي الذي ينسدل شعره الرطب المائل إلى اللون البني على جبهته. - نعم. هو ذاك. - على فكرة إسمك جميل. - لاشيء فيه من أريج الورد - بالعكس، أنت كالوردة في هذا النادي. - وردة سحقتها أقدام لاحصر لها. - لايهم. - لم أفهم… - قد يأتي يوم يسحق فيه بيدرو وترايان ويفسح لك المجال للفرار. - هل هذا ممكن؟ - أفكر في الأمر… - عندما تقرر شيئا أخبرني. - لا تقلقي.. لكل مقام مقال. افترت أريج عن ابتسامة ساحرة. نهضت. ثم راحت إلى جانب زميلاتها المتربعات على الكراسي كما لو كن يعزفن داخل اوركسترا. خرجت من النادي وأنا أفكر في نوفل، وكيف ستنتهي قصته مع الماكينة اللعينة، وتذكرت أيام غراثاليما. كانت أياما رائقة، ساحرة، ومليئة بالمفاجآت والأشياء المضحكة… ظل نوفل يهيم على وجهه في دروب غراثاليما وأزقتها وشوارعها، بل وحتى في مناطقها الجبلية المشجرة البعيدة نوعا ما بحثا عن ماكينة الأرباح، سيدته وحبيبته، وفي حاصل الأمر اهتدى إلى حانة وجد بها الماكينة، وشرع مباشرة في اللعب.. بعد برهة، ربح…أواه…ربح. وما أن بدأت جيوبه تمتلئ بالنقود حتى طمع في المزيد من الربح، ولم يؤدي به طمعه سوى إلى الغرق في يم الخسارة. انتحب نوفل. حظه عاثر…. تعس…. منحوس. لم يتمالك نفسه وخبط الماكينة اللعينة ببطن حذائه كأنه يخبط الزمن الذي حطمه كقطعة ثلج. أحسست ببرودة وبالشفقة على هذا العابر، كلنا عابرون هناك. كانت غراثاليما بلدة بهية. جبالها سامقة. أشجارها فاتنة كنسائها الأندلسيات الخالبات. تحافظ هذه الكائنات على عوائدها، تاريخها، وطقوسها. أحببت حقا عمدة البلدة " ماريا" مازالت في ريعان الشباب. مثقفة، ذكية وشبقية كأريج تماما. كانت " ماريا" لطيفة معنا أنا ونوفل. كانت تعرف نوفل حيث زارت طنجة. تعرف عليها نوفل هناك في لقاء سياسي. كانت " ماريا" تحرص أشد الحرص على أن نقضي أياما طلية وجميلة في غراثاليما البلدة الساحرة، النظيفة. ولا أدري لماذا ساعتها تذكرت البارمان خافيير الذي كان نوفل يلعب في حانته. يحتسي شراب الويسكي بإفراط. كان يسألني بسذاجة: - هل حقا نوفل عمدة طنجة؟ كنت أجيبه: - نعم………………….. ويغلبني الضحك، فأتظاهر بالجدية في الكلام حتى لا أترك انطباعا لدى خافيير بأنني أسخر منه. كان خافيير بدينا. له وجه أرنب. كان خدوما كحمار. لكنه كان في نفس الوقت طيبا. وليس عنصريا. آه.. لو انكشفت قصة نوفل. لم أتمالك الضحك وأنا أفكر في ما قاله لي خافيير. حبست الضحك…. ولم أقدر… لم أقدر أن أقاوم..خرجت إلى الهواء فتفجرت ضحكة جعلتني أتقوس مثل أحدب. ولم أتوقف عن الضحك إلا بعد ما سالت الدموع من عيني. مسحت دموعي بمنديل كلينكس أبيض. لم تنكشف قصة نوفل حتى اللحظة، فكان خافيير يعامله معاملة زبائنه الكبار، ويلبي كل طلباته، بينما نوفل يجسد دوره بإتقان كما لوكان ممثلا حقيقيا. دور العمدة. ما جعل خافيير يثق فيه أكثر فأكثر. كنت أضحك في قرارة نفسي حين أتذكر هذه القصة التي عشت أحداثها بشكل حقيقي كما أتذكر اليوم الذي أفلس فيه نوفل وأمست جيوبه فارغة كجرار مكسورة بعد أن شفطتها الماكينة الخرقاء اللعينة بنت الكلب. لم يبق له من عمل سوى أن يعود إلى مسقط رأسه. ساعده خافيير في ركوب سيارة أجرة كبيرة، وهو يفتح له باب السيارة بأدب بالغ واحترام مشهود. نقلته السيارة من غراثاليما إلى الجزيرة الخضراء، ومن هناك ارتمى داخل باخرة. هاهو في تطوان، يهيم على وجهه…. لا يرغب سوى في ولوج بيته. كان مكروبا، ومهموما. تساءلت: - كيف أمكن له أن يغادر غراثاليما ويعود إلى مسقط رأسه وهو مفلس؟ لا أدري حتى اللحظة كيف تدبر النقود للعودة سالما إلى تطوان. نوفل وحده الذي يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال. لكنني أعرف أن نوفل كتوم، ولا يحب أن يحكي تفاصيل عن حياته لكل واحد. بقي سره معه. فهو مثل بيدرو رب النادي الليلي الإشبيلي الذي يعرف كل جزء فيه. ولكن من هو بيدور…أو الذئب بيدرو؟