الليلة الخامسة: الجزيرة الساحرة الجزيرة الساحرة مدينة مشيدة فوق الماء. لم يحدثني يحيى كثيرا عنها. فقط لمح إلى أنه تناول الأكل في مطعم شاسع كالكهف، وإلى مراكب قراصنة عتيقة، ويم أخضر رائق، وألعاب ترفيهية مائية وهوائية، وقاعة سينمائية ساحرة. كان كلامه مؤثرا. جعلني أحلم بزيارتها. بيد أن سؤالا عريضا كان يطن في رأسي كصوت ذبابة مزعجة: كيف يمكن لي أن أتحدث عن شيء رأيته في المنام، ولم أراه. شيء مبثوث في الحلم، لكنه موجود في الواقع، أي واقع؟ فكل واحد يبني في أحلامه جزيرته الساحرة. حلمت فعلا بالجزيرة الساحرة منذ سنوات لأجد نفسي في يمها. جزيرة مترعة بالحوريات، بالملائكة، ببنات الليل مثل ناتاليا وإيليا، وبشياطين مثل ترايان وبيدرو. رأيتني واقفا عند الباب الكبيرة الضخمة المفتوحة على الهواء. باب الجزيرة الساحرة. لم يتسنى لي ولوجها بسهولة. كان لابد لي أن أتحلى بالصبر. أول شيء لفت انتباهي هو الأفواج الممتدة، الكائنات الواقفة تنتظر وصول الدور لقطع التذكرة. أحسست أني واقف على صراط مستقيم. مللت من الانتظار. وتخيلت نفسي جالسا على كرسي مزعج في عيادة طبيب أسنان أنتظر الإعلان عن رقمي لأدخل عنده ليرحمني من ضرسي الذي كان يؤلمني أشد الألم. لم يأتي دوري بعد. شباك تذاكر بعيد، وقلبي يدق بسرعة كما لوكان يريد أن ينبثق من فمي. من حسن الحظ أن حرارة شمس أكتوبر لم تكن مفرطة. كان الطقس معتدلا. ولم تكن الشمس تغيب عن ناظري. إلى جانبي، كان فتى وفتاة يجلسان على الرصيف. ملامحهما مرعبة، مشوهة كما يحدث في أفلام الرعب. وغير بعيد عنهما عجوز شمطاء تتكئ على عكاز تخفي رجلها اليمنى كمالوكانت فعلا مبتورة، ورجل رقيق المظهر يرتدي قناع هيكل عظمي، يرعب الأطفال والنسوة اللاتي يضحكن ويقفزن خائفات من هذا المرعب النزق. بقيت هكذا أتأمل لمدة غير يسيرة هذا العالم الغريب الذي ذكرني بكواليس المسرح. إلا أنني سرعان ماعدت إلى رشدي. كانت الكائنات تتبخر وتدخل إلى الجزيرة. وصلت إلى الشباك قطعت التذكرة وانسللت بهدوء بين الجموع. ها أنا بين الأشجار الباسقات، اقتربت من المطعم الكهفي. لاروائح للأكل في هذا المطعم- الكهف. هاهنا أيضا لم أسلم من الأفواج. الامتداد، يلاحقني كظلي أينما حللت وارتحلت. أذكر أيام الدراسة. كنت طفلا. كل صباح كان لابد لي من الخضوع أنا ورفاقي لنظام الصف وتحية العلم، ومن غير فوضى، لابد من التوجه إلى حجرة الدرس بأدب بالغ كأن فوق رؤوسنا الطير. أمران كرهتهما في حياتي. سماع جرس الدخول إلى الحجرة الدراسية، ومدرس الرياضيات السادي. كان هذا المدرس، الذي لم أعد أذكر اسمه المركب مثل نفسيته، يتلذذ بتعذيب التلاميذ، وويل لمن يخطأ، ولو ارتكب خطأ بسيطا، لن يرحمه أبدا، رغم الاستعطاف، كان يضربه بمطرقة، كان يخبئها في خزانة الحجرة، على يده اليمنى معكوسة لإحداث الألم الفظيع، وحالما ينتهي من الضرب يستريح كما لوكان قد انتهى من مضاجعة زوجته بانحراف. لم أكره أحدا في حياتي مثله. كان كالثعلب. هو وترايان توأمان. لايرحم أحدا. ذات مرة، في حصة الصباح، طلب من إلياس أن يحل مسألة رياضية على السبورة السوداء، صعب عليه ذلك، عندئذ وجد إلياس نفسه ملقى تحت الخزانة المدرسية الصفراء المغبرة بعد ركلة تلقاها بقوة على مؤخرته. كنت أسال نفسي: " لماذا يفعل كل هذا….؟ ". بعدما كبرت قال لي والدي الذي أفنى عمره في دواليب التربية والتعليم، كان مدرسا وحارسا عاما ثم مديرا، أن مدرس الرياضيات كان يعاني من مشكلات مع زوجته التي كانت تعامله بقساوة، بل وفي مرات عديدة كانت تضربه وتبهدله ككلب، فلم يكن من أمره إلا أن يعوض عن ضعفه بخبط وضرب التلاميذ. الحق أقول لكم أن والدي كتب شكاية به في بادئ الأمر إلى المسؤولين الكبار، بيد أن شكايته بقيت حبيسة أدراج مكاتبهم. أكل الجزيرة الساحرة بارد. طعمه كطعم قبلة عجوز شمطاء. لا شهية فيها. ليس كقبلة ناتاليا الشهية، اللذيذة، الساحرة حقا. هاهنا يفرض عليك الاختيار بين السمك المقلي أو قطع ضئيلة من الدجاج. و طبق سلاطة مترع بالطماطم والبصل و الخس الأخضر. ومشروبا كحوليا أو غيره. لم يكن بإمكاني اختيار شيء آخر. وبما أنني أموت في السمك اخترت السمك المقلي. كل شيء محسوب بدقة. أحسست بالقهر. وتخيلت أفواج السجناء في صف منبسط، كل واحد ينتظر الوصول بأقصى سرعة إلى وجبته الغذائية ومعدته تتلوى من السغب. طعام قذر تعافه الكلاب. ها المغرفة والصحن العفن. المغرفة التي تذكر السجين بقضيب السجان أو بقارورة التعذيب. قلت لنفسي: الجزيرة الساحرة سجن كبير. لكنها سجن مائي. لم أهتم كثيرا بالألعاب الترفيهية المائية والهوائية. لها أصحابها. ولا بقاعة السينما الساحرة، مع أني أعشق السينما حد الجنون، وكنت دائما أتمنى أن أكون مخرجا سينمائيا، أو بصدق تام، كنت أحلم أن أكون مخرجا سينمائيا على شاكلة يوسف شاهين الذي أحببته وأحببت كل أفلامه. وقد أحسست بنفسي محبورا جدا كعصفور عندما التقيته وجها لوجه في مهرجان تطوان السينمائي، ف"جو" كان يحب تطوان وأصدقاء السينما، وشجعهم، وكان يعشق المغرب إلى حد لايوصف. راقني جدا مركب القراصنة. ذكرني بأفلام القراصنة. ولا أدري لماذا عندما ولجته فكرت في ترايان مرتديا ثياب قرصان يهم بخطف ناتاليا كما لوكان يخطف مركبا في قلب البحر. ناتاليا الحسناء. كانت دموع ناتاليا تغرق بؤر المركب. كانت دموعا حقيقية. لا دموع التماسيح. في هذه الأثناء قررت أن أغادر مركب الجزيرة الساحرة. كان يحيى قد غادرها قبلي. ولم يكلمني إلا بعد التقائي به في الفندق الكبير. قال إنه زار الجزيرة الساحرة. كانت بالنسبة إليه كهفا مفتوحا على الأفق. كان يخيل إليه أنه عائد من الحرب وكثير من الفولاذ في وجهه، فيما أنا كنت أحس أنني أحمل هذه المدينة المائية على ظهري ولم أنتبه إلى أنها سقطت عنه، ورغم أنني حاولت الإمساك بحبالها الفارعة، فإن ذلك كان مستحيلا مثلما لم أقدر دوما أن أمسك بروح ناتاليا الهاربة بعيدا كالسراب. ولم أنتبه قط أنني كنت أحلم إلا عند سقوطي من ظهر السرير. نهضت مذعورا. أحسست بآلام. عندئذ، أشعلت سيجارا كنت قد اشتريته من مطعم " الزيت"، كانت لدي رغبة قوية في التدخين، لكنني سرعان ما فكرت في إطفاء السيجار، خصوصا أنني لم أتناول وجبة فطوري بعد. رحت صوب الحمام. بللت شعري الأسود ووجهي بماء دافئ. تأملت نفسي في المرآة العريضة الواسعة الكاشفة، فكان وجهي شاحبا مثل وجه نوفل الذي ابتلعت ماكينة الأرباح كل نقوده في غراثاليما. وعاد إلى مسقط رأسه عاريا كما ولدته أمه بعدما توج من طرف رفاقه الممسوخين " عمدة" لطنجة التي تهرأت رايتها وبهتت ألوانها اليوم. وتناوب على كرسيها القردة والثعالب والذئاب والضباع السائبة التي قادت المدينة إلى الموت.