يشكل النسيج الجمعوي أحد الأركان الأساسية ضمن جهود حركة المجتمع المدني، حيث أصبح معولا عليه حاضرا ومستقبلا من أجل المساهمة في قيادة المسيرة التنموية، وذلك جنبا لجنب مع جهود الدولة وباقي القطاعات الخاصة الأخرى، خصوصا وأن النسيج الجمعوي أصبح قوة اقتراحية فعالة ومنظمة تسهم في تفعيل التنمية الشاملة والمستدامة وفي العمل على تحقيق التنمية البشرية، هذه القوة يؤكدها حضوره الكمي الذي أصبح يتجاوز نسبة 50 ألف جمعية تغطي جل التراب الوطني، كما أنه يؤطر أكثر من مليون منخرط، ويلامس أكثر من ثلث ساكنة البلاد سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فضلا عن توزيعه الجغرافي في جل مناطق المغرب وفي مختلف المدن والقرى والمداشر، والتصاقه اليومي بحاجيات الساكنة. إن هذه الأهمية المتزايدة للنسيج الجمعوي تعززت بفعل جملة من العوامل الخارجية والداخلية التي أصبحت تبوئ الجمعيات مكانة متميزة في التنمية المحلية والوطنية وفي صنع السياسات والقرارات العمومية، والتي فرضت الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية، خصوصا مع ظهور أزمة الديمقراطية في بعدها التمثيلي، وما وازاه من استبعاد المواطن طيلة الفترات التي تفصل بين الانتخابات، وتحوله إلى ورقة انتخابية فحسب، فتعالت بذلك الأصوات الداعية إلى تجاوز اختلالات هذه الديمقراطية التمثيلية. فماذا نقصد بالديمقراطية التشاركية ؟ وما هي مبررات وسياقات ظهورها ؟ وما موقع الفاعل الجمعوي فيها ؟ وما مضمونها وحدود فاعليتها ؟ وما هي العوائق الذاتية والموضوعية التي تحد من فاعليتها ؟ وأخيرا، هل تؤسس الديمقراطية التشاركية فعليا لدور فاعل للفاعل الجمعوي في التنمية المحلية وفي وضع وصياغة القرارات المحلية والوطنية ؟ 1 مفهوم ومبررات الحديث عن الديمقراطية التشاركية: الديمقراطية التشاركية هي شكل من أشكال التدبير المشترك للشأن العام المحلي يتأسس على تقوية مشاركة السكان في اتخاذ القرار السياسي، وهي تشير إلى نموذج سياسي "بديل" يستهدف زيادة انخراط ومشاركة المواطنين في النقاش العمومي وفي اتخاذ القرار السياسي، أي عندما يتم استدعاء الأفراد للقيام باستشارات كبرى تهم مشاريع محلية أو قرارات عمومية تعنيهم بشكل مباشر، وذلك لإشراكهم في اتخاذ القرارات مع التحمل الجماعي للمسؤوليات المترتبة على ذلك، وتستهدف الديمقراطية التشاركية دمقرطة الديمقراطية التمثيلية التي ظهرت جليا بعض عيوبها، وتعزيز دور المواطن الذي لا ينبغي أن يبقى دوره منحصرا فحسب في الحق في التصويت أو الترشح والولوج إلى المجالس المنتجة محليا ووطنيا، بل يمتد ليشمل الحق في الإخبار والاستشارة وفي التتبع والتقييم، أي أن تتحول حقوق المواطن من حقوق موسمية تبدأ مع كل استحقاق انتخابي وتنتهي بانتهائه، إلى حقوق دائمة ومستمرة ومباشرة تمارس بشكل يومي وعن قرب، وهي بهذا المعنى تتميز عن الديمقراطية التمثيلية التي تمارس عبر واسطة المنتخبين الذين قد يتخلون عن دور الاقتراب من المواطن وإشراكه في صنع وإنتاج القرار، والتخلي عنه بمجرد انتهاء الاستحقاق الانتخابي، فإذا كان طابع الديمقراطية التشاركية هو استمرار في الزمن، فإن الديمقراطية التمثيلية ظرفية ومنحصرة في فترة زمنية محددة. كما أن خاصية التمثيلية لا تعني بالضرورة وجود ديمقراطية حقيقية، لأن الانتخابات النزيهة والحرة ليست فقط هي الضامن للديمقراطية، بل إنها يمكن أحيانا أن تجهز عليها وأن تكون مبررا للحد من دينامية المواطن ومشاركته الفعلية، فتتحول بذلك إلى ديكتاتورية ظرفية خصوصا مع تحول فئة مهمة من السياسيين إلى محترفين للسياسة مع ما يعنيه ذلك من مراكمة للولايات الانتخابية ومراكمة لكل أشكال التحايل السياسي وقطع أي تواصل ميداني مع المواطنين. 2 السياق العام لظهور الديمقراطية التشاركية: يرى العديد من الباحثين أن التحولات التي عرفتها عملية إنتاج القرار ليست إلا جزءا من التحولات الشاملة العميقة والسريعة التي يعرفها المجتمع العالمي بقيادة المجتمعات المتقدمة. فالحاجة إلى التغيير وبروز متغيرات ومطالب اجتماعية جديدة جعلت من إعادة صياغة النظام الاقتصادي والسياسي أحد الأولويات الكبرى في بلدان العالم، وتبعا لذلك التشكيك في دور المؤسسات و مكانة الدولة ومسؤوليتها في هذا الرهان. لم تكن ولادة الديمقراطية التشاركية إذن منعزلة عن الفلسفة الجديدة في تدبير الفعل العمومي والميل إلى إعطاء "البعد المحلي" مكانة أساسية في هذا التدبير، فإذا كانت السياسات العمومية قد ارتكزت منذ الحرب العالمية الثانية على فكرة التدخل الضروري للدولة، فإن الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية قد فرضت الانتقال من حكم مركزي تسيطر فيه الدولة إلى حكم قائم على تعدد واختلاف الفاعلين واعتبار "البعد المحلي" محطة استراتيجية في إعادة هيكلة الفعل والسياسات العمومية. غير أن هذا القول لا يعني مع ذلك الغياب التام للدولة، بل يوحي إلى نموذج مرغوب فيه يمكن تسميته بالدولة التعاقدية أو الدولة التركيبية، فهي دولة غير مبنية على الإقصاء والإكراه، بل على التفاوض والإنصات… إنها وفق هذا المنظور هي من يحرص على الحل التركيبي بين مختلف وجهات النظر والمصالح، فالدولة التي كانت بمثابة الممول الرئيسي للخدمات، أصبح دورها يقتصر على المساعدة لضمان الالتقاء والاتصال والمساعدة على حل النزاعات ووضع الشركاء على نفس الطاولة، ورفع الحواجز القانونية والمالية والسهر على المفاوضات أكثر من أخذ القرارات أو فرض وجهة نظرها. وهكذا سعت الدولة إلى التنازل عن بعض اختصاصاتها التي اعتبرتها وقفا عليها في وقت سابق لصالح فاعلين محليين، من جماعات محلية ومجتمع مدني وقطاع خاص… وإشراكهم في صنع الأهداف العامة وصنع القرارات في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، وتشكيل نسق للفعل المحلي يتميز بديمقراطية المشاركة. فضلا عن هذا، فإن الديمقراطية التشاركية ساهمت كما أسلفنا سابقا في مراجعة مفهوم السياسة، لما له من ارتباط وطيد بمراجعة مفهوم السياسات العمومية وتدبير الشأن العام وانعكاسات ذلك على التدبير الاقتصادي وعلى مفهوم التنمية ذاتها، الأمر الذي يتمظهر جليا من خلال سيطرة العطالة والعزوف على الحقل السياسي وانخفاض نسبة المشاركة السياسية، بحيث لا تكون الديمقراطية سوى طقسا ضروريا للحاكمين، وتتحول إلى آلية تشتغل لذاتها في غنى عن المواطنين، وتخدم مصلحة فئة معزولة وجد محدودة على حساب الفئات الاجتماعية الاخرى، مع ما يجلب ذلك من إقصاء اجتماعي وضعف انخراط في التنمية المحلية والوطنية، إذ لا تنمية محلية دون اشتراك فعلي للمواطن في صنع القرار، وهو المدخل الحقيقي لبناء ديمقراطية راشدة. الديمقراطية التشاركية إذن ليست سوى إنتاجا مباشرا لعدم قدرة السياسات العمومية على تحقيق عدالة اجتماعية والتخليص من فوارقها والتصدي لتأثيراتها السلبية، ورغبة في تحويل الرغبات والآمال نحو المناطق المحلية، وإعادة هيكلة للفعل العمومي وإشراك مختلف الفاعلين في اقتسام فاتورة الأزمة الناتجة عن السياسات النيوليبرالية المتبعة. 3 تجليات الديمقراطية التشاركية في القوانين المغربية: سنحاول في هذا المحور التطرق إلى مظاهر الديمقراطية التشاركية في المغرب، وسنركز أساسا على وثيقتين أساسيتين: الميثاق الجماعي باعتباره الوثيقة الأولى التي أسست لها، ثم دستور 2011: أ الديمقراطية التشاركية في الميثاق الجماعي: إذا كانت مشاركة المجتمع المدني (الجمعيات، السكان، الوداديات…) في تدبير الشأن المحلي هي أساس الديمقراطية التشاركية، فإن الميثاق الجماعي ل 2003 هو أول قانون أشار إلى دور المجتمع المدني "الجمعيات" في المساهمة في التنمية، حيث تنص المادة 36 منه على ضرورة وضع مخطط للتنمية المحلية من طرف الجماعات المحلية تشرك فيه المجتمع المدني بشكل إجباري كفاعل محلي في إعداد المخططات، إذ جاء في المادة السالفة الذكر: "يحدد المخطط الجماعي للتنمية الأعمال التنموية المقرر إنجازها بتراب الجماعة لمدة ست سنوات، في أفق تنمية مستدامة وفق منهج تشاركي يأخذ بعين الاعتبار على الخصوص مقاربة النوع". كما جاء في المادة 36 نفسها التي تحدد اختصاصات المجالس الجماعية الذاتية المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية ما يلي: "يقرر المجلس الجماعي إبرام كل اتفاقية للتعاون أو الشراكة من أجل إنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويحدد شروط القيام بالأعمال التي تنجزها الجماعة بتعاون أو شراكة مع الإدارات العمومية والجماعات المحلية والهيئات العمومية أو الخاصة والفاعلين الاجتماعيين". أما المادة 41 المتعلقة باختصاصات المجلس المرتبطة بالتجهيزات والأعمال الاجتماعية والثقافية، فقد نصت على أن المجلس "يبرم شراكة مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي والإنساني". وتنص المادة 14 المتمحورة حول لجان المجلس على إحداث لجنة استشارية تدعى لجنة المساواة وتكافؤ الفرص، تتكون من شخصيات تنتمي إلى جمعيات محلية وفعاليات من المجتمع المدني يقترحها رئيس المجلس الجماعي، وتبدي اللجنة رأيها كلما دعت الضرورة بطلب من المجلس أو الرئيس في القضايا المتعلقة بالمساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع الاجتماعي، ويمكن لأعضاء اللجنة تقديم اقتراحات تدخل في مجالات اختصاصاتها. وفي مجال التعمير وإعداد التراب، جاء في المادة 38 أن من اختصاصات المجلس الجماعي: "تشجيع إحداث التعاونيات السكنية وجمعيات الأحياء". وفي مجال التجهيز والأعمال الاجتماعية والثقافية: يتخذ المجلس الجماعي أو يساهم في اتخاذ كل الأعمال الضرورية لإنعاش الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية ولهذه الغاية: يشجع ويساند المنظمات والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي والثقافي والرياضي. يقوم بكل عمل محلي من شأنه تعبئة المواطن قصد تنمية الوعي الجماعي من أجل المصلحة المحلية العامة، وتنظيم مشاركته في تحسين ظروف العيش، والحفاظ على البيئة وإنعاش التضامن وتنمية الحركة الجمعوية، وفي هذا الإطار يتكفل باتخاذ كل الأعمال من أجل التحسيس والتواصل والإعلام وتنمية المشاركة مع الجمعيات القروية. يبرم شراكة مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي والإنساني. وفي مجال التعاون والشراكة جاء في المادة 42: "يقوم المجلس الجماعي بجميع أعمال التعاون والشراكة التي من شأنها أن تنعش التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعة، وذلك مع الإدارة والشخصيات المعنوية الأخرى الخاضعة للقانون العام، والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين الخواص، أو مع كل جماعة أو منظمة أجنبية". يتضح من مواد الميثاق الجماعي أن الجمعيات أصبحت شريكا أساسيا في التنمية المحلية وأحد الركائز المهمة لإنجاحها، وقد جاءت جملة من المبادرات على مستوى أعلى من الدولة تدعو إلى ضرورة إشراك الجمعيات في تدبير الشأن المحلي. فقد أصدر الوزير الأول، ولأول مرة، مذكرة مؤرخة في 27 يونيو 2003 تدعو إلى إشراك الجمعيات في تدبير الشأن المحلي، كما جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعلن عنها ملك البلاد في 18 ماي 2005 لتعطي الحركة الجمعوية مكانة متميزة في التنمية البشرية، ولتحدد لها وظائف جديدة في إنجاح المشاريع التنموية للمبادرة انطلاقا من الاقتراح إلى التنفيذ والمتابعة والتقييم… (يتبع…)