ألقى علم النفس الاجتماعي أضواء جديدة على الإنسان، وجعل علماءه يهتمون بالاجتماع البشري ويدرسون عوامل قوته وضعفه وأسباب تهافته وانتكاسه، ويحددون القوانين التي تحكم تطور الجماعة والتي تؤثر على العلاقات بين أفرادها، وبين حكامها ومحكوميها، ورؤسائها ومرؤوسيها... فهل تعكس الفورات التي شهدتها بعض الدول العربية وعي الفرد العربي؟ وهل تمثل هذه الانتفاضات صحوة الأمة وإحساسها بسوء العلاقات الإنسية في أوساطنا الشرقية؟ أ إنفجر بهاته التحركات ما في الأنفس من غرائز حيوانية (قتل- ذبح- اغتصاب- اختطاف- تمثيل بالجثث...)؟ وهل قامت هذه الانقلابات بغية الحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي والهوية الثقافية؟ وهل رسمت حدودا لتطوير المجتمع والارتقاء بأفراده؟ باستقراء عميق للأحداث وبوقفة متأنية لمجرياتها، ندرك أن ما حدث لم يكن "فورة" لأن من مواصفات الفورات التغيير الشامل ونسف الأوضاع القائمة وإحلال أنظمة جديدة على أنقاضها واعتماد ديموقراطية شرعية في تدبير أمورها. إن ما حدث كان مجرد "انتفاضة" أشعلت فتيلها ضغوط تاريخية وأزمات اجتماعية وانفلاتات أخلاقية وبطالة خانقة وفساد سياسي عارم... إن ما جرى كان بدون تخطيط مسبق ودون تنسيق يضمن تحقيق أغراض مشتركة وإقلاع حضاري، إن ما حدث كان كارثة تاريخية ووصمة عار في جبين الحضارة الإسلامية قادت إلى توقف المد الروحي في دفقة التقدم. إن ما حدث ويحدث - سوريا- انهيار أخلاقي وبزوغ لأخلاق الغاب... قيل بعد أحداث تونس في دجنبر2010 ومصر في يناير 2011 وليبيا في فبراير 2011 واليمن وسوريا في مارس2011، إن الأمة ستولد من رحم المعاناة، وأن الشعوب ستلحق بالركب الكوني وأن الشباب المسلم سيحقق أحلامه في العيش الكريم. إلا أنا رأينا فرحة الجماهير- بذبح رؤساء وسجن آخرين وإبعاد أو بالأحرى فرار البعض الآخر- انقلبت إلى ترحات متتالية بفعل بقاء الجهاز الدكتاتوري الأخطبوطي على ما هو عليه. فهل يمكن القول بأن هذه الطفرات قد خطفت بتدخلات خارجية وتحالفات داخلية لإنعاش الفساد ولإنقاذ المفسدين؟ أيمكن اعتبار الأحادية التي طبعت هذه الانتفاضات- تونس- وفرضت على الاجتماع البشري تقديم تضحيات كبرى ومحظورة (الانتحار) مقابل تحرير الذات من شبح الدكتاتورية هو السبب المباشر في تحريف هذه التحركات عن مسارها؟ بما أننا أمام أجهزة بها الكثير من الأفراد، ولكل فرد أهدافه المختلفة وضغوطه الخاصة وإكراهاته القوية، فقد لاحظنا غياب عقول تستخذم هذه القوى المختلفة بطريقة منظمة تراعي تحقيق مرامي مرسومة بدقة متناهية. لاحظنا ضياع الكثير من الإمكانات وتبعثر الكثير من الجهود وموت الملايين من البشر في غياب التوجيه السليم والنظرة الشاملة والتحليل العلمي الدقيق للمقدمات والنهايات، والكفاءة العالية في تدبير الأزمات... أرى أن ما أهمله المنتفضون هو التصدي للدكتاتورية المصغرة، الفاعلة والسائدة بين الجماعات، فقبل الإطاحة بالدكتاتور كان ينبغي استئصال الدكتاتورية من الذهنية العربية، من الفكر الشرقي، من الأسر المسلمة، من المؤسسات الناشئة والعملاقة، هاته التي باتت تراهن على"الحصان الأقوى". إن تنحي "الزعماء" عن مناصبهم وتولي آخرين لن يصنع الأمن النفسي ولا الأمن الغذائي، لن يقيم العدالة الاجتماعية ولا الاستقرار السياسي، لن يكفل النمو الاقتصادي ولا التطور التكنولوجي، إذ يلزم أن يئد العرب المسلمون الدكتاتورية بدواخلهم، وبذلك سنكون واثقين من النهايات التي تبنى عادة على بدايات تنسج مطالبها بوضوح وتسطر برنامجا موحدا تعمل على تحقيقه بتفان. لا يسعني إلا أن أقول في الختام إن الآثار النفسية للدكتاتوريات التي ترجمتها هاته الطفرات ساهمت بشكل كبير في توقف وثبة الروح، وإذا ما توقفت وثبة الروح وتعالت الغرائز واختل العقل فلا أمل في نهضة هذه الأمة الجريحة... كتبت هذه الأسطر، على اعتبار أنها انتفاضات عفوية لأبين خطر الدكتاتورية المتجذرة في الفكر والذات الشرقيين، أما إذا كانت هذه الخريطة الجيوستراتيجية نتيجة للمخطط الذي رسمه الإستعمار الجديد لعالمنا العربي الإسلامي للحفاظ على مصالحه ولضمان تفوقه، فيمكن متابعة خلفيات هذا الموضوع في كتابات خبراء في المجال...