عصفت بالأمة العربية منذ مطلع الخمسينيات من القرن الفارط رياح الجنون الهستيري الديكتاتوري الستاليني. وعلف عصابة الحكام الديكتاتوريين العرب الأربعة (جمال عبد الناصر، حافظ الأسد، معمر القذافي وصدام حسين) من نفس معلف المرض النفسي والهوس الإيديولوجي الذي علف منه ستالين لخلق "إنسان عربي جديد". والقاسم المشترك بين هؤلاء الأربعة وهبلهم ستالين أنهم لم ينهوا حتى دراستهم الابتدائية ولم يقرؤوا مؤلفا واحدا في حياتهم. وتبنى كهنة المعبد الستاليني شذوذه وسطروا بأسلوبه الفوضوي الذي دارت رحاه بقوة واستدارت الموت والمكائد والفضائح السياسية والعاطفة الثورية والقمع الوحشي الشرس وذهب ضحيته مئات الآلاف. ونصّب أنفسهم قادة هؤلاء الأقزام الأربعة، ذوي الثقافة المحدودة أو المنعدمة وفقدان الإحساس بالخير والشر، والمتعطشين للدماء، وفرضوا على شعوبهم الصمت أو المقصلة، وقاموا للتو بإراقة حمامات الدم واغتصبوا شرف الأمة العربية بقسوة ووحشية أعمالهم الإجرامية من تصفيات جسدية وتعسف واعتقال وعذاب السجون وانتهاكات إنسانية فظيعة. ورسمت الانقلابات العسكرية الهمجية لكل من المعلم جمال عبد الناصر وحافظ الأسد (ومن بعده ابنه بشار الأسد) ومعمر القذافي وصدام حسين نوعية النظام الفردي العسكري الاستبدادي وسياسة القائد الفرد الفاشية. وافرز هؤلاء الأربعة الدمويون أعتى الديكتاتوريات في مصاف الاستبداد لعقود متتالية في العصر الحديث، وخلقوا زعامات سياسية واهية وغبية تتجاهل التاريخ الذي يخبرنا أن إرادة الشعوب قوة لا تقهر. وانشغلوا بإشعال الفتن وتسببوا في الكوارث على المستويات الوطنية و القومية. وشملت حملة أنظمة كبار الطغاة الأربعة في تاريخ الأمة العربية طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية التي حكمت مصر وسوريا وليبيا والعراق، وسيكولوجية الفرد النازية وميولها الانفعالي إلى جرائم الإبادات الجماعية. وطبيعة هذه العلاقة تمثلت في ترويض الشعوب العربية بترهيبها وقتلها وتدمير بيئة كل الحقوق المدنية والسياسية والحزبية والنقابية وحتى التربوية في سبيل مآرب شخصية لامتلاك الشعب نفسه لصالح المعلم والقائد والزعيم والصنم الذي لا يوجد أي شيء خارج إرادته كحاكم مطلق لمشروعه الواحد الأوحد. وأسست عصابة الأربعة "حزب البعث العربي الاشتراكي" ليختزل كل الرموز والمسميات في ذاته وجوهره، وطغت ديكتاتورية هذا الحزب على الجميع، فأصبح "حزب البعث العربي الاشتراكي" هو مصر وسوريا وليبيا والعراق. وسعى جمال عبد الناصر وحافظ الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين، إلى ترميم ذواتهم، على مر الزمن، للتخلص من ماضيهم الأسود حتى يتم تأهيلهم، بشتى الطرق، كرموز للثورة والحرية والمساواة والنضال. وسرعان ما انكشفت حيلهم مع بدأ حملة تمركز الثروة والسلطة في أيدي فئة قليلة مع تصفية مئات الآلاف من المعارضين التي شملت الشيوعيين والإخوان المسلمين، وطالت حملتهم الأكاديميين من المفكرين والسياسيين الليبراليين المستقلين وحتى الأدباء والمبدعين، ونفي الذين خرجوا بأفكارهم عن المنظومة التي اختارتها عصابة الأربعة ليسير عليها الجميع ويلتزم بها الكافة، حيث لم تكن عصابة الأربعة ترضى بالاختلاف في الرأي أو التوجهات، ولم تكن لتسمح أن يرتفع صوت آخر فوق صوتها. وتوسعت عصابة الأربعة في البطش بمعارضيها، وتماديها في التنكيل بهم، بل حرمت على الجميع ليس فقط حرية الحركة بل حتى حرية التفكير وحرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحق التجمع. وأسرفت في قمع الجميع، بما فيها الأقليات الدينية الغير المسلمة، وأعلنت العداء على الكل من أجل المحافظة على "الثورة" و"مكاسبها الاشتراكية"، التي صارت سمة العصر وسمة الحكم. ولإطالة أمد عهود هؤلاء المرتزقة، حكموا بقبضة حديدية على مواطني بلدانهم وأحاطوهم بسياج حديدي تمثل في محاكم التفتيش النازية لمحاسبة كل الشعب على كل كبيرة وصغيرة وبدون محاكمات أو إدانة لفرض عهد العبودية بتكميم كل الأفواه وفرض السمع والطاعة ومباركة الحكم وطغاته. ديكتاتورية الإقصاء تفوق جمال عبد الناصر، معلم ومرشد البعثيين الاشتراكيين اللاحقين، على قطاع الطرق والمجرمين في كونه أول من استعمل نظرية "القوى المعادية لحركة القومية العربية" ليحول دولة مصر إلى خراب بزرع الرعب والموت والدمار بوحشية مفرطة. فأول ما قام به هو صرف كميات هائلة من ثروة مصر على بناء المعتقلات وأكبر السجون (السجن الحربي) للاعتقال والتعذيب الوحشي وتصفية الحسابات مع "أعداء الثورة"، كما صرف احتياطي الدولة على أجهزة الأمن والقمع واعتمد على أجهزة المخابرات والجواسيس والشرطة والأمن المركزي وقوات الحرس الجمهوري لمصادرة حرية وكرامة وحقوق المصريين، فعبد الطريق لكل من أبي جهل معمر القذافي الذي شيد، أول ما شيد في ليبيا، سجن بوسليم (قتل فيه القذافي في يوم واحد ما يزيد على 1200 سجين) وجز فيه بكل من لم يتفق مع نظامه البدائي القبلي العشائري. ولحق به "بول بوت" العرب حافظ الأسد الذي تفنن في ذبح شعبه (قرابة مائة ألف شخص) وترحيل الأعراق ونفي الطبقة المثقفة خارج سوريا (أما ابنه بشار فقد أدى القسم في الكنيست الإسرائيلي بحرق سوريا عن بكرة أبيها قبل الانسحاب منها). وجاء دور "هولاكو" العراق صدام حسين، الذي امتهن السرقة في مطلع شبابه مع مجموعة من قطاع الطرق، مثله مثل ستالين، ليصبح في وقت لاحق مجرما دمويا يبحث عن علاج لمرضه النفسي فحول كل العراق إلى تنور حرق فيه كل العقول النيرة، بعدها عرّض العراق إلى حرب طاحنة مع إيران. وتكللت هذه الحالة النفسية المتشردة بإهداء العراق على طابق من سبائك ذهب إلى الاحتلال العسكري الأمريكي. ولم تستوعب هذه الزمرة الإرهابية الفرق بين قتل فرد أو قرية أو مدينة بأكملها بالمواد السامة (فلوجة أيام صدام، وحماة على عهد حافظ الأسد أو تدمير سوريا بأكملها على يد بشار) دون أن يردعها رادع ديني أو أخلاقي أو حتى عرف مجتمعي. وأهم إنجازات عصابة الأربعة فرض قانون الطوارئ (لازال مفعوله ساريا إلى اليوم في سوريا) وتوسيع مساحات السجون السرية والعلنية لكي تعاني فيها شعوب تلك الدول العربية في صمت لعقود وتتعرض لكل أصناف العذاب والفقر والبطالة وكبت الحريات قبل قتلها، متذرعين بحالة الحرب مع إسرائيل ومعتمدين على مقولة الخلفية التاريخية المزيفة للتآمر الاستعماري لصيانة "حركة الثورة العربية المعاصرة"، مروجين بحكمهم العسكري لإيديولوجية القومية العربية العنصرية المتشددة التي تقصي الأقليات العرقية. فالأكراد -مثلا- الذين يشكلون نسبة 10 إلى 12 في المائة من سكان سوريا، يواجهون تمييزا لا مثيل له إلا في إسرائيل ودول الخليج العنصرية، فلا حق للأكراد السوريين في التملك ولو على شكل شراء شقة، ولا حق لهم في التأمين الصحي، والأسوأ من ذلك أنه نُزعت عنهم حقوق المواطنة بدون وجه حق، وبمعنى آخر فإنه لا حق لهم في الجنسية السورية. ثاني أهم انجاز هذه العصابة الإرهابية بعد "الاستقرار" السياسي جر المآسي على كل العرب بإشعال فتيل الحرب والهزائم العسكرية وقلب الحكم في اليمن والتدخل في شئون السودان ودول الخليج وفرض الظروف القاسية الناجمة عن ديكتاتورية حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي عمل على إرساء ثقافة الخوف وسياسة كمّ الأفواه بالقوة وأسّس لدعائم نظام تحكمه نزعة شمولية وديكتاتورية وفاشية عبر الانقلابات العسكرية لذبح الشعوب العربية بجهاز "أمنه" الخفي المتخصص في الجريمة والقمع والقتل والترهيب. فكان طالع كل الدول العربية على موعد أسود في الأفق منذ مجيء زمرة عصابة الأربعة التي صفت "الأعداء" بشتى صور الإرهاب وسفك الدماء والمؤامرات المزيفة، ونجحت في ترسيخ صورة الديكتاتور عبر الحكم العسكري. هذه هي حال هذا الحكم العسكري، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قام على البطش والإرهاب وسمي نفسه بالتقدمي والثوري ولا زال يدافع عنه بعض من مثقفينا لتبييض جرائم حقبة هذا الحزب. إنه حزب قائم على مبدأ الوراثة التي تعتبر الديكتاتورية الاستبدادية والتسلطية ونموذج الحزب الواحد والرئيس الأوحد عملة واحدة لأبرز الخواص السياسية لبناء "أمة من العبيد الصامتين" تعبد الأشخاص وتطيعهم بالثقة العمياء.