الأمن قبل السياسة، «المؤامرة» الخارجية على السيادة السورية.. تلك هي العناوين العريضة الخادعة لبشار الأسد، ديكتاتور سوريا الجبان، وهو يدك الأرض فوق رؤوس شعبه كما دكها أبوه من قبله على ساكنة حماة (30 إلى 40 ألف قتيل عام 1982). ولإبادة شعبه، الذي نادى بالحرية واستعادة حقوقه المشروعة على مدار الشهور الخمسة الماضية، تعامل معه بكل وحشية وقمََعَ تطلعاته التحررية والسلمية وقص القصص الخيالية التي لجأ إليها من قبله كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومن بعدهما معمر القذافي وعلي عبد الله صالح للعزف على أوتار مخاوف الرأي العام الدولي وللتعبئة المعنوية والنفسية وتعزيز وجود استنفار كبير في أعلى هرم السلطة السياسية والعسكرية لمواجهة «العصابات المسلحة» وإرهابيى «القاعدة» التي فضحتها ودمرتها ثورات الشعوب السلمية التونسية والمصرية. منابع سلاح الإرهاب الذي يلوح به بشار الأسد هي حزب البعث العربي الاشتراكي أو بالأحرى حزب «العبث» الذي عمل على إرساء ثقافة الخوف وسياسة كمّ الأفواه بالقوة وأسّس لدعائم نظام تحكمه نزعة شمولية وديكتاتورية وفاشية عبر الانقلابات العسكرية لذبح الشعوب العربية بجهاز «أمنه» الخفي المتخصص في الجريمة والقمع والقتل والترهيب. وحامل لواء هذه الانقلابات العسكرية هو جمال عبد الناصر الذي تولى السلطة 1954 واستمر فيها إلى وفاته سنة 1970، حوّل معها مصر إلى خراب وصفى أعداءه بشتى صور الإرهاب وسفك الدماء والمؤامرات المزيفة، ونجح في ترسيخ صورة الديكتاتور عبر الحكم العسكري، فكان طالع الدول العربية على موعد أسود في الأفق منذ مجيء عبد الناصر إلى يومنا هذا. وتفوق عبد الناصر، معلم ومرشد البعثيين اللاحقين، على قطاع الطرق والمجرمين في كونه أول من استعمل نظرية القوى المعادية لحركة القومية العربية ليحول دولة مصر إلى خراب بزرع الرعب والموت والدمار بوحشية مفرطة، فأول ما قام به هو صرف كميات هائلة من المال على بناء المعتقلات وأكبر السجون (السجن الحربي) للاعتقال والتعذيب الوحشي وتصفية الحسابات مع «أعداء الثورة»، كما صرف احتياطي الدولة على أجهزة الأمن والقمع واعتمد على أجهزة المخابرات والجواسيس والشرطة والأمن المركزي وقوات الحرس الجمهوري لمصادرة حرية وكرامة وحقوق المصريين، فعبّد الطريق لكل من أبي جهل معمر القذافي الذي شيد، أول ما شيد في ليبيا، سجن بوسليم (قتل فيه القذافي في يوم واحد ما يزيد على 1200 سجين) ووضع فيه كل من لم يتفق مع نظامه البدائي القبلي العشائري. ولحق به «بول بوت» العرب حافظ الأسد الذي تفنن في قتل شعبه (قرابة مائة ألف شخص) وترحيل الأعراق ونفي الطبقة المثقفة خارج سوريا. وجاء دور «هولاكو» العراق صدام حسين وتاريخه الدموي الذي حول كل العراق إلى سجن لتكتمل الحلقة. ولم تستوعب هذه الزمرة الإرهابية الفرق بين قتل فرد أو قرية أو مدينة بأكملها دون أن يردعها رادع ديني أو أخلاقي أو حتى عرف مجتمعي. وأهم إنجازات هذه الحزب هو جر المآسي على العرب وأقبية الظلم والظلام التي ستقترن باسمه لتبقى على صفحات التاريخ الأسود إلى نهاية التاريخ. هذه هي حال هذا الحكم العسكري، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قام على البطش والإرهاب ويسمي نفسه بالتقدمي والثوري. إنه حزب قائم على مبدأ الوراثة التي تعتبر الديكتاتورية الاستبدادية والتسلطية ونموذج الحزب الواحد والرئيس الأوحد عملة واحدة لأبرز الخواص السياسية لبناء «أمة من العبيد الصامتين» تعبُد الأشخاص وتطيعهم بالثقة العمياء. سقوط جدار الخوف والكذب عاشت سوريا في العقود الخمسة الأخيرة إعصارا سياسيا وظروفا قاسية ناجمة عن ديكتاتورية حزب البعث العربي الاشتراكي، فأول ما فرض هذا الحزب (مثله مثل عبد الناصر) منذ قدومه إلى الحكم عام 1963 قانون الطوارئ الذي لا يزال ساري المفعول حتى الآن، متذرعا بحالة الحرب مع إسرائيل ومعتمدا على مقولة الخلفية التاريخية المزيفة للتآمر الاستعماري لصيانة «حركة الثورة العربية المعاصرة»، فروج هذا الحكم العسكري لإيديولوجية القومية العربية العنصرية المتشددة التي أقصت الأقليات العرقية، فالأكراد -مثلا- الذين يشكلون نسبة 10 إلى 12 في المائة من سكان سوريا، يواجهون تمييزا لا مثيل له إلا في إسرائيل ودول الخليج العنصرية، فلا حق للأكراد السوريين في التملك ولو على شكل شراء شقة، ولا حق لهم في التأمين الصحي، والأسوأ من ذلك أنه نُزعت عنهم حقوق المواطنة بدون وجه حق، وبمعنى آخر فإنه لا حق لهم في الجنسية السورية. كما صادر هذا الحزب «التقدمي» كل الحريات الفكرية والسياسية لكل السوريين، وأقام محاكم التفتيش للتحقيق في نوايا وضمائر المواطنين، ووسع مساحات السجون السرية (سجن تدمر) والعلنية، وأسرف في قهر شعبه لمجرد أنه لا يشاركه الرأي. وكانت النتيجة معاناة الشعب السوري في صمت لعقود وتعرضه لكل أصناف العذاب والفقر والبطالة وكبت الحريات قبل قتله.. فساد قانون القوة وعلقت، بشكل فعال، معظم الضمانات الدستورية للحقوق والحريات وحصلت قوات «الأمن» على صلاحيات واسعة للاعتقال والاحتجاز والتعذيب. لكن في نهاية المطاف، كان هذا الحزب على موعد مع التاريخ ليكتب له نهايته بعدما ذبلت ورقة النظرة المتسترة بالاستعمار ونظام جماعة الإخوان، وبإلقاء اللوم هذه المرة على مجموعة مسلحة من «الإرهابيين». ولم يحاول النظام البعثي السوري الاستفادة من دروس التاريخ الخاطئة للبعثيين الذين لا يزالون يتباكون عند قبر صدام حسين، فتعرّف الشعب السوري على حجم الانتهاكات التي ترتكبها الدولة الفاشية في حقه واشتعلت روحه وقرر رفع منطق السيف وقانون الغاب عنه، فثار ضد طبيعة النظام العدواني لهدم بنائه الاستبدادي الناهب لأموال وثروات الوطن. فاللعبة القائلة بنظرية «التواطؤ» لم تعد تجدي في شيء، ولا خيار للشعب السوري إلا استعادة حريته وكرامته وحقوقه المنهوبة بإسقاط النظام البعثي.. إنها ثورة شعبية سلمية تشهد عليها شعارات لافتات المتظاهرين المتشابهة بشكل ملحوظ من مدينة درعا في أقصى الجنوب، إلى حماة في السهول الوسطى، إلى بلدة دير الزور الصحراوية وحتى في العاصمة دمشق، والهتافات هي نفسها: الشعب يريد إسقاط النظام. لكن بشار الأسد، مثله مثل حكم أبيه المستبد، على استعداد للتضحية بآلاف البشر من أجل تثبيت النظام البعثي الشمولي الديكتاتوري الفاشي، حيث نشر معدات عسكرية ثقيلة، من بينها الدبابات، بشكل مكثف، وأمر الجيش باقتحام المدن والقرى من أقصى شمال سوريا إلى أقصى جنوبها، وأمر شبيحته وعصابات القنص في مختلف المدن السورية بارتكاب المزيد من الجرائم والمجازر وبث الخوف والرعب في قلوب الآمنين (أزيد من 2000 قتيل و16 ألف سجين). ولم يخطر على بال هذا النظام الوحشي، الذي يدعي مع نفسه أنه نظام مقاوم ممانع ضد الكيان الصهيوني، أن يوجه حربته إلى نحور الأعداء عوض نحور شعبه ليتمكن من استرجاع الجولان المحتل على مدى أربعة عقود. أي صورة همجية هذه التي نشاهدها على الفضائيات وعلى مواقع الأنترنيت لمواطنين سوريين جردوا من ملابسهم الخارجية وعرضوا على الملأ في ملابسهم الداخلية لا أكثر، مقيدين بالحبال كقطعان الماشية؟ ألا تساوي هذه الفضائح فضائح سجني أبو غريب وغوانتانامو؟ ولم يسلم شعب سوريا ولا مآذن مساجده من وحشية جيش البعث العربي حتى في شهر رمضان المبارك، فصوب نيران آليته العسكرية الجهنمية لتخريب المساجد ووجهها إلى صدور مواطنيه الأبرياء لإردائهم قتلى، وطالت مجازره حتى الصبية الذين ذبحهم دون وازع ضمير.. إنها عقلية الحكم الفردي الديكتاتوري الذي يستخدم الجيش، جيش الشعب كما قالوا عنه، ليقتل الشعب بدلا من أن يحميه. لكن الشعب السوري الأبي يبرهن اليوم على استعداده لدفع ثمن الحرية والكرامة من أرواحه ودمائه لإسقاط نظام فظائع المقابر الجماعية والبطش البعثي الذي قتل وشرد مئات الآلاف من السوريين. ماجستير في الدراسات الدولية جامعة أوهايو-الولاياتالمتحدة الأمريكية