تسعى الأمم إلى توحيد مجتمعاتها بما أوتيت من قوة، وتحارب الثنائية على اعتبار أنها تعيق أحلامها ورؤاها التنموية، سيما وقد عرف العالم تحولا حاسما من هندسة المادة إلى هندسة المعرفة.. والفرق ملموس، فالمجتمع المبني على الإنتاج بالطريقة التي تطور بها في ق:19 ازدهر بفضل رأس المال والمواد الخام، أما اليوم فيعتمد مجتمع العلم في فورته على المعرفة والموارد البشرية..إلا ان العبور إلى هذا العالم يقتضي إستراتيجية دقيقة تكفل انخراطنا في الكونية المنشودة بدون كبوات.. فهل نملك من الكفاءة والقواعد ما يؤهلنا لإرساء البناء المعرفي ونقل السلطة من المال إلى المعلومة المنظمة بهدف الإقلاع بإنسان الألفية الثالثة ..؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يلزم تشخيص الوضع التاريخي ببلادنا. نظرة تشخيصية، يعيش المغرب منذ حصوله على الاستقلال ثنائية حادة على المستوى الإقتصادي، الإجتماعي، الثقافي والتربوي.. أ.المستوى الاقتصادي:إن التحول الذي عرفه مغرب الخمسينيات والستينيات ساهم في تعميق الهوة بين المدن والأرياف على مستوى البنيات التحتية، التجهيزات والهياكل الاقتصادية، وفي الحواضر نفسها تطرح ثنائية من نوع آخر يتعلق الأمر باعتماد مؤسسات عملاقة على الفكر واستغنائها عن اليد واستغناء أخرى عن الفكر واعتمادها على اليد. ب.المستوى الاجتماعي، أفرز الانشطار الاقتصادي ثنائية اجتماعية رهيبة(بدو/حضر، قطاعات عصرية، سكن أسواق، مدارس مؤهلة متاجر...)وأخرى تقليدية(أكواخ، دور صفيح، أبنية عشوائية..) ويستتبع هذا التقسيم الاجتماعي ثنائية على مستوى الفكر والسلوك وعلى مستوى النخب التي يفرزها الانشطار الثقافي. ج.المستوى الثقافي، يرى البعض أنه لا يمكن استنساخ الثقافات، ويرى آخرون أن ثقافتنا عرفت بفعل الإرسال عبر الأقمار الصناعية ووسائل الاتصال السمعية البصرية اختراقا أحل الإدراك محل الوعي، كانت الأدلوجات في السابق توجه هذا الأخير أو تصححه وصار الاختراق الثقافي اليوم يختطف الإدراك ويقزم الوعي ويغيب العقل ويقتل الأحلام والرؤى ويكرس الاستسلام ويخترق الرغبة في البحث عن البدائل وهنا يكمن خطره. ه. المستوى السياسي، نتج عن غياب الديمقراطية والعدل وتكافؤ الفرص تمزق ومعاناة وعنف تمارسه نخب تبحث عن الاغتناء باسم السياسة على فئات دنيا، فهل يكون للمدرسة يد في تكريس هذه الأوضاع؟ د.المستوى التربوي: إن أزمة التربية تكمن في وظيفة إعادة الإنتاج، فالتربية لها دور حاسم في إعادة إنتاج نفس النخب ونفس العقليات بطريقة تلقينية متجاوزة بدل المساعدة على تنمية قدرات المتعلمين ومواهبهم وتوجيهها الوجهة المطلوبة نحو الهدف المرسوم...يقول المنجرة، "..لو رسمتم منحنى يمثل تطوير إمكانياتنا في التعليم وما يدرس اليوم، ستلاحظون الخلل، رغم التطور الذي يعيشه العالم، نحن نعلم أساتذتنا التخلف والرجوع إلى قرون خلت..." ولنقف على بعض تجليات هذا الخلل آملين أن ينهض القطاع المسؤول الأول عن الأزمة الحضارية التي نحياها، ولنبدأ ب: 1- التعدد المدرسي يذهب المرحوم الجابري إلى أن الحديث عن المدرسة المغربية كمؤسسة تعليمية أو كنظام فكر هو حديث عن شيء غير كائن، ذلك أن المدارس التي تعمل على تكوين الأجيال ليست واحدة، بل هي ثلاثة أنواع من المدارس: المدرسة الثراتية، المدارس الأجنبية، المدارس الخاصة. تستقطب الأولى ما يربو عن 90 % من المتمدرسين، وبالنظر إلى زاوية الكيف نجد أنها تكرس النماذج الموجودة بطرق بائدة ومناهج عقيمة، وتقذف إلى المجتمع نخبا ثلاثة يلتحق بكل منها شرائح معينة منه. وتعرف النسب التي تمثلها المدارس الحكومية انخفاضا كبيرا على صعيد النخب التي ترتبط بها، نتيجة الهدر أو العطالة التي تنتظر الخريجين منهم. وهذا التعدد على صعيد المدرسة الواحدة يوحي باستمرار الصراع بين القديم والجديد وذلك أن الجديد لم يتولد عن القديم، وإنما غرس بالمغرب مع البنيات الاستعمارية زمن الحماية، وصار ينافس المدرسة الثراتية على مستوى البرامج والكتب والأطر المسؤولة عن العملية التعليمية / التعلمية، مما كان يعرض ولا يزال المتعلم إلى ضغط معرفي /تلقيني يدفعه إلى التعامل مع عالمين من المعرفة وتكون النتيجة انفصام شخصيته الثقافية. *نتيجة: تكرس المدرسة المغربية بأنواعها الثلاثة الانشطار في النظم التربوية السائدة، ومن تم الصراع الاجتماعي بين نخب لا تجمعها رؤى منسجمة وأهداف محددة تكفل التغيير وتسهل دخول عالم الحركة والإبداع. علينا إذن أن نجبر أنفسنا على التعلم المستمر والتكوين الدائم والبحث المسترسل هذا إلى جانب تنزيل مرجعية واحدة ينهل منها الجميع دون استعلاء أو استخفاف. 2- التعدد في إطار المرجعية الواحدة: إن وحدة المرجعية الفكرية العامة التي تضفي الخصوصية الحضارية العربية الإسلامية على النظام الثقافي ككل هي السبيل الأوحد للرقي بالمجتمع والنهوض به من مستنقع التخلف والتبعية يقول المرحوم الجابري:"إن ما يميز المدرسة العربية عن غيرها هو ما تتميز به المدرسة الفرنسية يقصد وحدة المرجعية الثقافية العامة.."نفهم من هذا أن الاشتراك في مرجعية ثقافية واحدة عامة هو ما يجعل المدرسة والنظام الثقافي ينتجان ويعيدان إنتاج نخبة مؤسسة على الحد الأدنى الضروري من القاعدة الثقافية. وخير دليل على ما نقول المدرسة الفرنسية فهي واحدة رغم تعدد أنواع التعليم بها، ذلك أن هناك حدا أدنى من الارتباط بمرجعية واحدة تمنح الفكر الفرنسي خصوصيته، فأي عضو في النخبة الفرنسية لا يمكن أن يفكر دون الانضمام و الارتباط بصورة من الصور بالديكارتية وامتداداتها. وينطبق الشيء نفسه على المدرسة الإنجليزية التي تتسم بنزعتها التجريبية/العملية والتي وجدت التعبير عنها في مفكرين صاروا مرجعية مؤسس لها أمثال، لوك، هيوم، وآدم سميث... ويصدق على المدرسة الألمانية ما يصدق على سابقتيها، إذ شيد مرجعيتها مفكرون وخبراء كبارا أمثال: كانت، هاردر، فخته، شلنج وهيجل. 3-التقويم الداخلي: إذا كان التعليم الحديث بالمغرب لم ينشأ بفعل تطور داخلي للمجتمع ومدارسه ليست تطورا ذاتيا للجامع والكتاب والقرويين، وإنما هو منقول عن الدول المعمرة ومكيف ليخدم النظام القائم بإدارته واقتصاده وتعليمه، فإنه وجد نفسه مع الإستقلال أمام دولة قائمة الذات في كل مناحي الحياة .وبات الفرنسيون يسهرون على تسيير الشأن الداخلي للدولة، وصار المطلب الوطني الاوحد هو"مغربة الدولة"ومن تم مغربة التعليم .واستمرت العملية إلى منتصف الخمسينيات... وأمام هذا الانشغال وجدت المدرسة الوطنية نفسها تحت ضغط مرجعيات متعددة مختلفة متدافعة ومتباينة تاريخيا وحضاريا.. تعالت صيحات بوحدتها، بيد أن تزامنها والدخول فيما عرف بإعادة الهيكلة-التي فرضها صندوق النقد الدولي-حال دون أية التفاتة.هذا ولما أشبعت حاجات الدولة من الأطر استجابت لإملاءات الصندوق بدل أن تفتح المجال لاستيعاب الخريجين في قطاعات أخرى. يقتضي التقويم الداخلي دراسة هذا الماضي بإكراهاته والانطلاق من مرجعية أم ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية والمذاهب الفكرية والدينية تصل الماضي بالحاضر في اتجاه المستقبل.وهذا لن يتأتى إلا بتبني إستراتيجية تقوم على: أولا، نقد وإعادة ترتيب وبناء ثراتنا الفكري والتربوي والثقافي بمختلف تياراته ومنازعه. ثانيا، التأصيل الثقافي لقيم الحداثة وأسس التحديث. إن أخطر نتائج غفلتنا عن ثراتنا التربوي أننا نشعر بأننا عالة على غيرنا في مجال التربية وعلم النفس لذا يلزم حصر نتاجنا الفكري بجمعه ونشره وكتابته بروح علمية نقدية وتحريره من الزمن السياسي الممزق، وذلك بتوحيده وإعادة ترتيب أجزائه والكشف في صيرورته عن مواطن التجديد ومكامن التطوير، وبناء تاريخيته بوضع السابق فيه واللاحق/القديم والحديث في موضعهما من التقدم التاريخي وإقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه. وباستقراء فكر القدماء نلاحظ أن أقربهم منا أولئك الذين سجلوا أعلى مراحل التقدم في الثقافة الإسلامية، ابن رشد في فهم العلاقة بين الفلسفة والدين، الشاطبي في تجديد أصول الفقه بناء على مقاصد الشرع، ابن خلدون في النظر إلى المجتمع والتاريخ. وبهذا النوع من إعادة بناء تاريخنا الثقافي نستطيع الرفع من ثراتنا بصورة تستجيب لحاجاتنا المعاصرة وتوقف زحف القيم السلبية وتحررنا من الارتباط بمرجيات غريبة عنا ودخيلة. فما هي السبل الإجرائية للإفادة من نظريات هؤلاء الأعلام في الانتقال بتعليمنا من تعليم الإنتاج إلى تعليم مجدد؟ 5- مرجعيات في الإبداع والتجديد: أ- ابن رشد ونظريته في العقل والنقل: إن نظرة ابن رشد إلى العلاقة بين الدين والفلسفة تماثل راهنا العلاقة بين الدين والعلم/الأخلاق والسياسة، بين ما هو ثابت وما هو متحول، فقد ذهب إلى أن للدين بناؤه ومقدماته ومنهاجه الخاص كما أن للفلسفة بناؤها ومقدماتها ومنهاجها الخاص وهما يلتقيان في الهدف العام المتمثل في حث الناس على "الفضيلة". ب- مشروع الشاطبي: بنى الشاطبي مشروعه على إعادة تأصيل أصول الفقه على مقاصد الشرع محررا إياه من قيود القياس الفقهي الذي يعتمد استثمار الألفاظ أكثر من اعتماده المصالح والمقاصد. لقد توصل إلى أن بناء الشريعة على القياس-قياس أصل على فرع-يجعل السابق أصلا للاحق، ويفرض على التفكير الفقهي الاتجاه إلى الوراء، فيقع في تناقض واصطدام مع الحاضر والمستقبل، أما بناء الشريعة على المقاصد فيتجه بالتفكير المجتهد دوما إلى الأمام، ويساعد على تطبيق الشريعة وأهدافها على مستجدات الحياة. ج- نظرية ابن خلدون، إن نظرة ابن خلدون إلى التاريخ هي أقرب ما تكون إلى عصرنا منها إلى الماضي، فعلم العمران الذي ابتكره يجمع بين التاريخ والأننتروبولوجيا، وهو الاتجاه السائد في المجال، فلم يعد التاريخ سجلا للأحداث والوقائع السياسية وحدها في تسلسلها وترابطها، ولم تعد الانتروبولوجيا مدونة للعادات والتطورات التي لا تاريخ لها ، بل إن الاتجاه السائد اليوم هو الجمع بين الاثنين، إعطاء التاريخ بعدا أنتروبولوجيا وإعطاء الانتروبولوجيا بعدا تاريخيا، وهذا اسمه عند ابن خلدون "علم العمران" وإذا أخذنا بنظريته فليس لأنها مستمدة من السبق الذي كان له في الميدان وإنما لأنها أكثر فاعلية وإجرائية فهي تكفل لنا الحركة والدينامية على صعيد الزمن السياسي والثبات والاستمرارية على صعيد الزمن الاجتماعي والثقافي، وتعمل على الإمساك بالزمنين معا، ولعل هذا ما نحتاجه للنهوض بالتعليم ومن تم التنمية التي تبدأ من التواصل المعرفي ومن وحدة المرجعية. *خلاصة: إن نظريات هؤلاء الأعلام تعد حلقة وصل بين ماضينا وحاضرنا، الحلقة التي تجعل ثراتنا كله- على اعتبار أنه قرآني النشأة حديثي المنبع -مرجعية لنا وبدونه لن تقوم لنا قائمة ويبقى ماضينا مقطوع الصلة بالحاضر..وغير صالح لأن يتأسس عليه المستقبل.. وأشير في الأخير إلى عملين يساعدان على دفع خطر الإنشطار عن نظامنا التربوي يتعلق الأمر بمشروع د.محمد الكتاني"منظومة القيم المرجعية في الإسلام"وهو عمل سعى فيه صاحبه إلى نظم عناصر نسق القيم في الإسلام بمنهاج وظيفي قابل للتعدية إلى برامجنا التربوية ونظمنا الثقافية .وهذا يبشر بظهور أعمال ستحل القيم الإسلامية في مجتمعنا المعاصر محل القيم الوافدة والتي تؤشر على انفصام شخصيات المتعلمين والمعلمين على حد سواء... ومشروع د.طه عبد الرحمان المتضمن في إصداره:"روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الإئتمانية"ورسالته الموجهة إلى المنتدى الفكري السادس المنظم بفاس في الأسبوع الأول من شهر مايو2012 ولخصت همومه التي تفيد في تجديد وإبداع فكري أصيل يؤسس لأنموذج معرفي بديل، أعرضها في النقط التالية: 1. أن يستعيد خطاب الأمة قوتين عقليتين أساسيتين فقدهما منذ أمد بعيد وهما: أ. القوة المفهومية التي تجعله يستقل بمعانيه وتصوراته. ب. القوة الإستدلالية التي تجعله يستقل بأدلته ونصوصه. 2. أن يدل الأمة على حقيقة الإبداع وكيف يمكن أن تأخذ من عقل الآخر مع الحفاظ على مقومات فطرتها. 3. أن يقدم أنموذجا يتمثل في الفلسفة الإسلامية تجعل الأصل في تجديد الأمة هو تجديد الإنسان، وتجعل الأصل في تجديد الإنسان هو تجديد الروح. هكذا نستطيع أن نساهم في الإخراج الحضاري لهذه الأمة باهتمامنا بالموارد البشرية، بحياتها الروحية التي تمد عقلها بكل قواه.. ........... * مصدر انشطر وهو نوع من التكاثر اللاتزاوجي المفضي إلى الإنقسام بشكل فوضوي يولد التصدع والتوتر، ويخلق التعدد ويكسر الصوت الواحد ويكشف عن اللاتوازن والإختلال ، وبهذا المعنى نوظف المصطلح في تناولنا لهذا الموضوع لا بمعناه الفيزيائي أو الكيميائي... *المراجع المعتمدة، -أضواء على مشكل التعليم ، د.محمد الجابري 73 -التعليم في المغرب العربي 89 الجابري. -حوارات في قضايا التعليم 84 الجابري -قيمة القيم د.المهدي المنجرة ، ص:210 . -مقدمة في التربية وعلم النفس، د.عبد الرحمن النقيب و د.صلاح مراد ود.محمد ناصر، منشورات منظمة المؤتمر الإسلامي الإسلامي- الإيسسكو 1987 -مقالات لمخلص جلبي(الصراع حول امتلاك المستقبل، جوجل آبل أمازون فيسبوك) -بعض الجرائد الإلكترونية...... -موجز أعمال دورة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان المنظمة بفاس في الأسبوع الأول من مايو 2012 .. يتبع...