قبل سنتين غادرنا هرم فكري مغربي كبير, رحل عنا الأستاذ محمد عابد الجابري, فالرجل علامة فكرية ملأت الدنيا وشغلت الناس في ساحة الفلسفة والفكر العربي المعاصر فصحت فيه عبارة أبو بكر العربي: " رجل كثر القول منه وفيه ", منه لأنه كان صاحب إنتاج غزير شمل عدة مجالات من الإبداع الفكري: من إشكالات الفلسفة إلى القضايا التربوية ومن أسئلة السياسة إلى المسألة الدينية مرورا بالتراث وقضايا الفكر العربي المعاصر, إنتاج عز نظيره في مقاربة إشكاليات التراث والحداثة في علاقتها بالواقع السياسي والثقافي في العالم العربي المعاصر , وقد بدل الراحل في هذا الإنتاج جهدا استثنائيا تمكن من خلاله إلى كشف منهج جديد في قراءة التراث وإلى أطروحة جديدة قادته إلى صياغة مشروعه الفكري الضخم: " نقد العقل العربي"، يقول الجابري موضحا أطروحته : " إن المشكل الذي نعاني منه ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة , بل المشكل هو بناء حداثة خاصة بنا انطلاقا من تجديد تراثنا من داخله , وقد رسمت معالم إستراتيجية أعتقد أنها كفيلة بتحقيق ذلك وفي إطارها أشتغل مند كتابي نحن والتراث ". إنه بقدر ما كثر القول من الأستاذ الجابري كثر القول فيه أيضا إلى درجة يصعب علينا , وربما عليه أيضا , مواكبة هذه القول والإحاطة به , فهو يتطلب لوحده عملا بيبليوغرافيا مستقلا قد يشمل مكتبة شبه قائمة بذاتها , منها كتب مستقلة أنجزها باحثون متخصصون, ومنها مقالات ودراسات متفرقة في الصحف والمجلات والدوريات, ومنها أيضا ندوات ومؤلفات جماعية وضعت خصيصا لقراءة أعماله, ومنها أخيرا مناقشات وسجالات لمفكرين معروفين, كل هذا الجدل حول الجابري ومشروعه يرجع،في نظرنا، إلى كونه جعل من أسئلة الحداثة والعقلانية والموقف من التراث أسئلة سياسية ملحة , لقد نقل الفلسفة إلى قلب السياسة مؤكدا على أن الإشكالات الفلسفية هي في العمق أسئلة سياسية, بل إن قدر الفلسفة, في نظره, هو أن تكون ضمير السياسة.هكذا نظر الجابري, وهكذا فكر وكتب, وهذا ماتعلمناه منه, تعلمنا أنه لا يمكن لحداثة على المستوى العربي أن تجد طريقها إلا بإنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة تشكل المرجعية الأم التي ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية فضلا عن المذاهب الدينية والفكرية , وهو أمر لن يتم إلا بتحقيق هدفين أساسيين : 1- الأول هو إعادة كتابة تاريخنا الثقافي ولن نتمكن من ذلك إلا ب : " تحريره من الزمن السياسي الممزق من خلال إعادة الوحدة له و ترتيب أجزاءه والكشف، في صيرورته, عن مواطن التجديد و التقدم, وبناء تاريخيته بوضع السابق فيه واللاحق والقديم والجديد في مكانهما من التطور التاريخي, ومن ثم إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه ". هذه العملية, أي ربط صلة وصل بين حاضرنا وبين أعلى مراحل التقدم في تراثنا, هي التي حاول الجابري القيام بها في مشروعه النقدي الضخم حول التراث العربي الإسلامي, حيث أبرز لنا الكيفية التي يمكن من خلالها الارتقاء بتراثنا, وجعله يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة ويشكل بالتالي حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا, الحلقة التي تجعل منه مرجعية لنا في الاتفاق والاختلاف, في الاقتباس والإبداع, وبدون هذه المرجعية يبقى التراث في الماضي مقطوع الصلة بالحاضر. 2- الهدف الثاني يتجلى في التأصيل" الثقافي" لقيم الحداثة, ويشرح لنا الجابري ذلك قائلا : " يجب أن نعمل على تبيئة وتأصيل قضايا الحاضر, قيم الحداثة وأسس التحديث, في ثقافتنا, وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا: وعينا الديني والأخلاقي, وعينا الثقافي العام" . لم يكتفي المرحوم بالتنظير لهذه المهمة, بل مارسها في عدة مؤلفات,لأنه يرى أن هذا النوع من التأصيل "الثقافي" سيساعدنا على تجاوز الانشطار والازدواجية التي تعيشها ثقافتنا ومجتمعاتنا, فقد يبدو للوهلة الأولى أن التطور الاقتصادي والاجتماعي سيلعب دورا هاما في التخفيف من حدة هذه الازدواجية, لكنها مع ذلك لها بعد ثقافي خاص في مجتمعنا العربي. وهو البعد الذي يمكن إدراكه إذا قمنا بمقارنة ثقل الثقافي عندنا، من عقيدة وشريعة ونظام فكر وتقاليد وعادات, وبين ثقله في مجتمعات أخرى كالمجتمعات الأوربية, يقول الجابري في هذا الصدد : "ليس صحيحا أن "الثقافي" عندنا مجرد عنصر في بنية فوقية تابعة للقاعدة المادية للمجتمع, بل الصحيح أن يقال إنه عنصر في بنية كلية يتبادل فيها "الفوقي" و "التحتي" المواقع أو يتداخلان بصورة تجعل من كل منهما فاعلا ومنفعلا في نفس الوقت, ثابتا و متغيرا في الآن نفسه. و هذا ما يزيد من استقلالية الثقافي, ويجعل التجديد فيه شرطا للتجديد في ميادين أخرى". إن محاولة التجديد هذه من خلال إنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة تحرر ماضينا الثقافي وتؤصل قضايا الحاضر هي المهمة التي نذر الجابري حياته الفكرية لها, حتى صار له في كل جامعة و بلد مريدون، كثرة هؤلاء تشي بقوة حضوره و تأثيره، و لا نبالغ إن قلنا أن فكره ساد على جيل بأكمله, وأن كلا من مثقفي الثمانينات والتسعينات كانت لهم، على الأقل، مرحلة جابرية, وأن الرجل غدا مند ذلك الحين سلطة فكرية و ثقافية راسخة, لهذه الأسباب وغيرها فرض حدث وفاته, قبل سنتين, صمتا على الفكر العربي المعاصر, صمت قاس و مربك في آن, لان رحيله ترك فراغا قاسيا لا يعوض, وقد بدا ذلك واضحا فيما جرى و يجري الآن في العالم العربي من أحداث جسام تساءل العقل العربي الذي كشف الجابري بنيته وآليات اشتغاله. ولا يفوتنا، في هذا الصدد، التذكير بحكمته لعلها تكون منارة لنا في قراءة الأحداث الجارية بالمنطقة العربية، يقول الجابري: " إن الإصلاح الذي تتطلبه الوضعية الراهنة في العالم العربي الإسلامي، وفي بلدان أخرى كثيرة, لن يكون له معنى على "صعيد السيادة" ومتطلبات حفظها, كما على صعيد دمقرطة السلطة ومتطلبات عدالتها, إلا إذا اقترن بإبعاد كل من دور "الخارج" الذي يعني بكل صراحة ووضوح "حفظ المصالح القومية الأمريكية في منطقتنا", ودور "الداخل" الذي يعني بالدرجة نفسها من الصراحة والوضوح: " حفظ المصالح الشخصية للفئة الحاكمة". (من كتاب: "في نقد الحاجة إلى الإصلاح"، ص. 234). ولا نملك في الأخير إلا أن نقول, من جديد, عزاؤنا واحد في هذا الفقيد الكبير.