عندما تكون بلاد ما تمر بظروف عصيبة، فإن القيم تصاب بنزلة برد. وبقدر ما يعيش المواطنون في المغرب بالملموس آثار الأزمة الاقتصادية يوميا، بقدر ما يتعايشون بشكل غريب مع الترقيع في المعاملات والرفع عموما من شأن الرداءة في الثقافة والفن وقبول الوصولية والانتهازية واعتبار الاستقامة مجرد غباء، ومع الاحتياط اللازم من التعميم، فإن هذا المرض تدفق ليصل إلى جل أطراف الجسد، فلا الأطباء أطباء، ولا المهندسون مهندسون، ولا المحامون محامون، ولا رجال التعليم معلمون، ولا المستوى العام مستوى، والأشد إيلاما أن الحديث لحد الآن لا ينصب إلا على عماد التنمية الاقتصادية وارتباطه بعماد الانتقال السياسي، أما أعطاب المجتمع الروحية إن جاز هذا التعبير فهي مؤجلة. أسباب نزول هذه المقدمة الطللية هي ما نعيشه في مجال الصحافة الذي نشتغل فيه، إننا نعترف أن أزمة الإعلام في المغرب ليست أزمة اقتصادية فقط تحولت عندما اشتدت إلى أزمة وجود، ولا هي أزمة أوضاع اجتماعية للصحافيين المهنيين فقط، ولكنها وللأسف أزمة قيم مهنية، وهذا من صنف الطبيعي المؤلم. طبيعي لأن أقرب الأشياء إلى كل الأشياء في أي تجمع بشري هو الصحافة التي تتأثر بمحيطها وتنزل مع نزوله وتصعد مع صعوده، ومؤلم لأن هذا التأثر الطبيعي له وجهان، واحد سالب وواحد من المفروض أنه موجب، بحيث تشكل الصحافة طليعة للارتقاء وقاطرة للجر إلى الأمام. وكان العديد من الزملاء من ذوي الهم المجتمعي، بعيدا عن التقوقع المهني الصرف، يعتقدون منذ عقود أن التئام الجسم الصحافي ورص صفوفه كفيل بأن يشيع صورة أحسن عن مهنة تحترف إعطاء الدروس يوميا، وتدعي تقويم الاعوجاجات وتراقب وتحاسب وتخبر وتجمع بين المنتوج الثقافي والخدمة المجتمعية وتنسى نفسها، وسرنا حتى هرمنا في زجاجة الحلم الأثير. ومما يؤسف له أنه بقدر ما ساهمت الصحافة الوطنية إجمالا في رسم العديد من معالم التاريخ المعاصر للمغرب من المعركة من أجل التحرير إلى المعركة من أجل الديموقراطية، وكانت منتدى لوقود محرك تاريخنا وأحيانا مبادرة لإفساح المجال لتحولات كانت تبدو بعيدة مجتمعيا وسياسيا، بقدر ما ظلت تجر وراءها أعطاب سنوات الرصاص الإعلامي من جهة، وبعض جينات التمييع التي زرعها مهندس الجمع بين الداخلية والإعلام إدريس البصري. وعندما أراد الحسن الثاني إطلاق صفحة ما قبل النهاية لحكمه، كان أول ما لجأ له هو الإعلام، ولكن كل التعثرات التي كان يعرفها المجال السياسي المغربي شديد التعقيد أثرت بشكل خطير على تطور الصحافة في بلادنا وعلى أخلاقياتها وعلى تحول نظرة المجتمع لهذه الصحافة، كما جاء التأثير أيضا من تقهقر التعليم وانحطاط الثقافة، وفشل السياسي في المغرب في جعل المواطن يؤمن بأن التغيير يأتي من إرادته، أي من السياسة. ولهذا بدأ الجمهور العازف عن السياسيين وعن المنتوج المحلي لتدبير الشؤون العامة لا ينتظر من صحافته سوى تكسير الطابوهات أو إشفاء الغليل أو التنفيس. ومرت مرحلة الطابوهات مع بداية العهد الجديد، وظلت البواقي التي أصبح فيها الصحافي المغربي -عكس باقي صحافيي العالم- مطالبا بقنبلة صحافية يوميا يفجرها في جريدته إذا أراد أن يبقى على قيد الأكشاك، ومن هنا بدأت الحلقة المفرغة تتسع، وانتعشت سوق الهواية وظهرت صحافة الرصيف، وأصبحت الصحافة مهنة من لا مهنة له، وحينها بدأ التفكير في التنظيم والتخليق في إطار المهنية، وهي شعارات جديدة حينها على صحافة مغربية عاشت كصحافة مناضلة ضد النظام. مرّت اليوم على الأقل في التطورات الأخيرة 13 سنة على فكرة تأسيس هيئة تنظيم ذاتي للمهنة يمكن أن تصحح المسار وتعالج ما يمكن معالجته، خصوصا عندما تغيرت المعطيات ما بين انبلاج الفكرة ووصولها اليوم إلى مشارف التحقق. لقد دخل فاعل جديد إلى الميدان هو الصحافة الإلكترونية، ودخلت معه آلاف الطاقات الجديدة من جهة والمشاكل الجديدة من جهة أخرى، ولكن الأهم هو أن الصحافي الإلكتروني أو الورقي لم يعد وحده ينتج الأخبار، بل في المغرب فقط أصبح عندنا 15 مليون مواطن صحافي مسجل في الفايسبوك، وتضخم المشكل ألف مرة في احتمالات التخليق والضبط المشروع في نفس الحين الذي تمت فيه دمقرطة هائلة للاتصال. أصبح الصحافي فاقداً لحصرية دوره المجتمعي السابق، وأصبحت للمواطن سلطة يحملها في جيبه عبارة عن هاتف متصل بالملايين، قادر على النقل المباشر بالصورة والصوت لما يشاء بلا رئيس تحرير ولا رئيس نشرة، في هذه الفترة العصيبة التي كان من المفروض أن ينتقل وعي الذين انخرطوا في ورش التنظيم الذاتي للمهنة إلى هذا المستوى الذي لم تعد فيه المواجهة بين صحافة جادة وصحافة غير جادة، بل أصبح الرهان هو المواجهة بين الأخبار الاحترافية والأخبار الزائفة، بين الدفاع عن بقاء مهنة تضمن التزويد بالأخبار المتحقق من صدقيتها وبين شبه الخبر الغارق في ملايين من الإشاعات في بيئة عامة موسومة بانحطاط ثقافي وقيمي، وجدنا هذا الوعي سجين ضمير مستتر تقديره الأنانيات جرت انتخابات المجلس الوطني للصحافة، وللأسف، أصبح الطريق للوصول إلى المجلس جزءا من الحال الذي يغني عن السؤال، وأصبحنا أمام صراعات وكولسات ومناورات بائدة زادت الهم سوادا وزادت ما تبقى من صحافة تشرذما، وبقيت الأغلبية الصامتة من المهنيين صامتة ولكن متحسرة وغير معنية أصلا بدواء قد يكون تلوث قبل أن يصل إلى الداء. كنا نبحث عن حكماء فأصبحنا نبحث عن مخرج لحفظ ماء الوجه. لا يمكن أن نقود حربا صغيرة من أجل حلم كبير. إنها أيام حزينة تعيشها صحافة تشرئب إلى أن تتعافى فإذا بها ترى الطبيب المفترض يشتغل بأدوات السبعينيات والثمانينيات لمعالجة قضايا العشرينيات والثلاثينيات ما بعد الألفين. لكل هذا، ولكثير مما لا يسعه هذا الحيز، تفهمت استقالة أستاذنا الكبير السي محمد البريني من المجلس وكنت من ضمن المبادرين مع زملائي الناشرين المنتخبين في المجلس الوطني للصحافة لتجميد مساهمتنا في إكمال مسلسل تشكيل هذا المجلس حتى يكون "جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة"، كما عبر عن ذلك بلاغ الفيدرالية المغربية لناشري الصحف ببلاغة. نريد مؤسسة قادرة على التاثير الإيجابي في القطاع الإعلامي، وأما المناصب فإننا زاهدون فيها، والله عليم بذات الصدور.