قد يكون هكذا تكلَّم ابن عربي أول كتاب فكري ينجزه المفكر المصري د. نصر حامد أبو زيد – باستثناء كتاب سيرته الذاتية – إثر خروجه من القاهرة بعد المواجهة المشهورة في المحاكم بينه وبين الإسلاميين بتهمة الردَّة، ومطالبتهم بالتفريق بينه وبين زوجته [د. ابتهال يونس]، وخروج أبو زيد من القاهرة إلى جامعة ليدن في هولندا بعدما ضاقت في وجهه سُبُلُ الاجتهاد. انتهى نصر حامد أبو زيد من وضع هذا الكتاب في يونيو 2001 بتكليف من دار "هردر" الألمانية، ضمن سلسلة عن أعلام الروحانية في الشرق والغرب (كتبه بالعربية، ثم تُرجِمَ إلى الألمانية).
منذ المقدمة يؤكد أبو زيد صعوبة الفصل، في خبرته الدينية، بين التجربة الروحية والأسس العقلانية للوصول إلى المعرفة في قطبي التراث الإسلامي. ويطرح المؤلِّف السؤال الجوهري: هل مازال ابن عربي قادرًا على مخاطبة قضايا عصرنا؟ ويلقى إجابته الأولى في ما دعا إليه ابن عربي، أي دين الحب الذي يتسع لكلِّ العقائد، وهو أصل العلاقة بين الحق والخلق. ولكن إزاء الصِّدام الحضاري والعلاقة الصعبة اليوم بين العالم العربي والغرب، ما العمل؟
يحاول أبو زيد في كتابه هكذا تكلَّم ابن عربي [...] استكشاف ما قاله ابن عربي عن الحضارات والثقافات والأديان، بكونه – وهنا مكمن الأهمية – بعضًا من الردِّ على العولمة التي تطرح نفسها اليوم، سياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، بوصفها "الدين الجديد للعالم"، بحسب المؤلِّف. وثمة، بالطبع، فئات واسعة متضرِّرة من قوانين هذا "الدين الجديد" الذي يسعى العديد من البشر إلى مقاومته. كيف؟ ليس بالأسلحة التقليدية للدين كنسق ونظام، بل بوصفه تجربة روحية ذاتية، هي أساس المعرفة الدينية، بحسب الصوفية. فمن خلال التجربة يحاول الصوفي التواصل مع مصدر المعرفة بدلاً من نصوص الشريعة. على هذا المنوال ينسج أبو زيد كتابه؛ ومدخلُه إلى عالم اليوم حضورُ فكر ابن عربي فيه، وتمثيلُه قمة نضج الفكر الإسلامي، إلى كونه همزة الوصل والتواصل بين التراثين العالمي والإسلامي، ومساهمتُه في إعادة تشكيل التراث الإنساني، والتأثير فيه، وقراءته، وبَلْوَرَة كثير من المفاهيم والتصورات، بلوغًا إلى تعاليمه الصوفية التي انتشرت نظريًّا وعمليًّا (تأثيره على الطريقتين الصوفيتين المولوية والشاذلية).
يشدِّد أبو زيد في طرحه على أن استحضار فكر ابن عربي اليوم هو:
1. مساهمة في ترسيخ قيم الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل؛
2. رصدٌ لتحرر العقل المسلم المعاصر من آثار المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية؛
3. إظهار صورة مختلفة، لغير المسلم، عن روحانية الإسلام ومفهوم الجهاد وما أصابه من تشوُّه.
يقع الكتاب في إهداء ومقدمة وتمهيد وستة فصول. ويعرِّف أبو زيد بالشيخ الأكبر من خلال ما يتخيَّره من المسار الخاص بحياته كانقلاب أو كتطور طبيعي في بناء الشخصية. ويمشي أبو زيد في إثر الشيخ من الجاهلية إلى طريق العرفان، ومن مرحلة الخير بلا علم إلى مرحلة الخير المؤسَّس على المعرفة، ومن الإيمان إلى العرفان. ويذكر أيضًا إرهاصات ترحُّله بين المغرب والأندلس وأسبابه.
وفي الفصل الثاني، "قيود المكان وضغوط الزمان"، تأخذه التجربة وقواعدها إلى أن الطريق إلى الحقيقة تتعدَّد بتعدُّد السالكين. هكذا تقول الصوفية؛ ويضيف ابن عربي أنها تتشكل وتتلوَّن مثل الماء والإناء. يحاول المؤلِّف الإحاطة بتجربة ابن عربي الروحية من جانبين: التاريخ والروح؛ ومن خلال هذه الجدلية يتم تطبيق نظرة ابن عربي إلى الوجود والمعرفة والإنسان.
وثمة في الكتاب فصل مخصص للقاء ابن رشد وابن عربي؛ وفيه يسأل أبو زيد: هل كان ابن رشد آخر خيط يربط ابن عربي بالأندلس؟ إذ لمَّا انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرر ابن عربي الرحيل بلا عودة. ولكن السؤال الأصعب هو: إذا كانت آمال ابن رشد تحققت في الغرب شمال المتوسط، فهل تحققت آمال ابن عربي في شرق العالم الإسلامي؟ وإلى أيِّ حد؟ وكيف وصلنا إلى هذا الدرك ولم نستلهمه؟ يذكر الكاتب اللقاءات بينهما وأبعادها ودلالاتها، ويحلِّلها تبعًا للمكان والزمان والإشارة والحُجُب. إلا أنه يتوقف، في تحليله فكر ابن عربي، عند نسقه الفكري لإزالة التعارضات الثنائية من الوجود والمعرفة والفكر، عبر إقامة وسائط تجمع وتوحِّد بين كلِّ الثنائيات. ويشرح مفهوم الحجاب لديه، الذي يمثِّل الوجود والظاهر، ويمثل حجابًا على الحقيقة. ويفتح الحديث عن التجربة الصوفية بين الكشف والسَّتْر في جدليَّة الوضوح والغموض. فمنشأ الوضوح والغموض يجد تفسيرَه الأساسي في طبيعة التجربة الصوفية – وجوهرُها انفتاح الأنا على المعنى الباطني للوجود كلِّه، باعتبار التجربة الصوفية موازية لتجربة الوحي. وتماثُل التجربتين يفضي إلى تماثُل الخطاب الصوفي، لناحية بنية لغته التعبيرية، مع الخطاب القرآني. ولذلك يميِّز المتصوفة بين الإشارة والعبارة: الإشارة مجرَّد إيحاء المعنى، من دون تعيين وتحديد؛ والعبارة تحديدٌ للمعنى يجعله مغلقًا نهائيًّا.
أما فكر ابن عربي فيراه أبو زيد صيرورة تبدأ ولا تنتهي: و"مَثَلُه في بنائه الدائري اللانهائي مَثَلُ التجلِّيات الإلهية التي لا أول لها ولا آخر" (ص 153). ويحيل على خطبة كتابه الفتوحات، لما تتضمَّنه من بنى ومحتوى:
1. تلخيص لأهم المحاور الكبرى في فلسفته؛ و
2. رؤيا في التشخيص الرمزي، وتجسيد المجرَّد، والجمع بين الحقائق؛ و
3. تلخيص الكتاب بلغة رمزية كاشفة وملغَّزة.
يعالج أبو زيد في الفصل الخامس قضية "نشأة الوجود ومراتب الموجودات"، مستخلِصًا أن هناك ثلاثة عناصر في تفسير نشأة الوجود: الأول هو مفهوم التجلِّي الأسمائي؛ والثاني هو التجلِّي في النَّفَس الإلهي؛ والثالث هو مفهوم النكاح. ويعتبر أن الوجود ينبع من بعدين وأساسين: الحب، من ناحية، والرحمة، من ناحية ثانية. والنَّفَس الإلهي هو البرزخ والوسيط الجامع الذي ينتظم الكون كلَّه. وبعرضه لمفهوم التجلَّي يرى أن هناك نمطين:
1. التجلِّي الوجودي للظهور في أعيان صور الممكنات؛ و
2. التجلِّي الإلهي المعرفي على قلوب العباد.
وشرطُ التجلِّي نهوضُ العبد بواجبه في الرحيل خارج العالم، والولوج إلى حضرة الحق، وارتفاع الحُجُب عن صورة العارف. وبرهانه هنا هو الحديث القدسي الذي يحتفي به المتصوفة: "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن."
أما في نظرة ابن عربي لتأويل القرآن – كلام الله في الوجود – فيتماثل تصوُّره للنصِّ الديني مع تصوراته الوجودية والمعرفية. فهو الوجود المتجلِّي من خلال اللغة. فالقرآن يمثِّل البرزخ بين الحقِّ والإنسان؛ والمعنى هو برزخ الكلمة الجامعة. يناقش أبو زيد في الفصل الأخير من كتابه موضوع "تأويل الشريعة: جدلية الظاهر والباطن". يؤسِّس ابن عربي لباطن الشريعة بكونه انعكاسًا لباطن الوجود. أما الوقوف عند الظاهر فيفضي إلى التعصُّب المبني على ادِّعاء امتلاك الحقيقة. ليس في العالم مرضٌ يحتاج إلى علاج، بل فيه تعصُّب يحتاج إلى التواضع، يقول الشيخ الأكبر. والتعصُّب يفضي إلى الإرهاب المعنوي والتاريخي. ويستشهد أبو زيد، في تفسيره رأي ابن عربي في الظاهر والباطن، بالتاريخ الشاهد على محاكمة الحلاج والسهروردي، كأنه يخاطبنا من القرن الثاني عشر والثالث عشر بلا حجاب، مصيبًا الحقيقة.
يسلِّط أبو زيد أضواء حديثة على فكر ابن عربي في مفهوم الشريعة، ويجد أن له ثلاثة أبعاد، شأن كلِّ مفردات فكره: البعد الأونطولوجي (الوجودي)؛ والبعد الإبستمولوجي (المعرفي)؛ والبعد الأنثروبولوجي (الإنساني). وإظهارًا لوعي ابن عربي وموقفه المتقدم يتناول أبو زيد مسألة خلافية، كجواز أن تكون المرأة إمامًا في الصلاة. ويرى ابن عربي أنه من الجائز أن تؤمَّ الرجالُ والنساءُ، معتبِرًا أن لا نصَّ يمنع، والرسول شَهِدَ لبعض النساء في الكمال. ولكنه، على مستوى الاعتبار، يوازي بين الرجل والعقل وبين المرأة والنفس موازاةً قد تشي بأن المرأة أدنى من الرجل. ورغم أهمية موقف ابن عربي في المسألة، إلا أنه لا يمكن توقُّع أن يخترق كلَّ المحرَّمات الاجتماعية في عصره وتاريخه وثقافته؛ بيد أنه موقف يُبنى عليه، وخاصة أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ما برح أحد مشكلات الثقافة الإسلامية المعاصرة، وفي درجات متفاوتة بين المجتمعات المتخلفة والمتقدمة.
وعلى هذا النحو يظل د. نصر حامد أبو زيد يبحث في فكر ابن عربي، ويدور في فلكه، ويجري في مداراته، ويطرح أفكاره، بسطًا وعرضًا وتحليلاً، ويطوف بنا في فكره العميق الأصيل المنفتح، ليزيدنا وعيًا ومفاجأة وتواصلاً، ويعود بنا إلى نقطة البداية في فكر ابن عربي الدائري المحيطي، ويكشف لنا في تأويله للشريعة، مثلاً، بعض جوانب التجربة وجوديًّا وعرفانيًّا.
في كتاب نصر حامد أبو زيد هكذا تكلَّم ابن عربي "وَقْعَنَة" و"عَصْرَنَة" لفكر ابن عربي وتواصلٌ مع الحاضر، من خلال رؤية الوجود كظاهر وباطن، والشريعة كظاهر وباطن، والإنسان كذلك. وحين يُعمَل بهذا الأمر تنكشف الحُجُب، وينبثق المعنى، وتنجلي الحقيقة. وعبر ذلك، يظهر المعنى، معنى الوجود والحياة، المعنى الإنساني الشمولي العام، معنى الدين الذي يشمل كلَّ البشر.
كَتَبَ نصر حامد أبو زيد هذا الكتاب بعقله وقلبه، مشغوفًا بالدفاع عن الفكر والإنسان والمعنى والحرية – وأبو زيد كابد مثل هذه المعاناة – في وجه التعصب والعنصرية. ويجعل من فكر ابن عربي مشروعًا فكريًّا حيويًّا وحاضرًا، من خلف الحُجُب والسنين، قادرًا على قول المعنى والباطن والجوهر، في ضوء المفاهيم الفكرية الحديثة.