كشفت التطورات الأخيرة المتصلة بمعبر الكركرات، بدء من محاولة غلقه من طرف أنصار البوليساريو، وانتهاء باستعادته، وإعادة فتحه بصفة نهائية، كممر للعبور الدولي على أيدي الجنود المغاربة، عن نوع من التغير في الموقف الموريتاني من النزاع الدائر حول الصحراء المغربية منذ سنة 1975، موقف سيكون له ما بعده، إذا ما أصبح موقفا ثابتا في سياسة نواكشوط، وإذا ما تم إدراجه، بتوافق بين البلدين، ضمن استراتيجية شاملة تتوخى تحقيق السلام والديمقراطية والتنمية المندمجة للشعبين المغربي والموريتاني، ومن ثم المساهمة بقوة وفعالية في تغيير وجه منطقة شمال-غربي إفريقيا برمتها نحو الأفضل. لقد ظل الموقف الموريتاني وعلى امتداد فترة تزيد عن نصف قرن، هي فترة توازي تقريبا عمر النزاع الدائر حول الصحراء المغربية، مطبوعا بالتدبدب والتردد، علما بأنه تم تصريف هذا الموقف تارة بمسمى "الحياد" (المجرد) وأخرى تحت شعار "الحياد الايجابي"، تبعا لما يمليه تقلب أحوال المنطقة، وبحسب ما تقتضيه المصالح الخاصة للحكام الذين تعاقبوا على رأس السلطة في بلاد شنقيط، وليس خاف على أحد أن هذا التردد والتدبدب كانا ناجمين بالأساس .. أما عن ضغط وابتزاز متواصل من النظام الجزائري، أو عن تخوف، مدسوس، من "أطماع" مزعومة للرباط في موريتانيا، بناء على سابقة مطالبتها بالأراضي الموريتانية كجزء من التراب الوطني المغربي غداة الاستقلال، وذلك برغم اعتراف المغرب رسميا ونهائيا سنة 1970 بالدولة الموريتانية الناشئة. أما اليوم فيبدو أن المزاج الموريتاني العام أخذ في التغير بفعل المستجدات التي شهدتها المنطقة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المكتسبات الدبلوماسية المؤثرة التي حققتها قضية الصحراء المغربية، وأيضا الأزمة الشاملة التي تمر منها الجزائر والتي تنبئ، مع كامل الأسف، بما لا يحمد عقباه بالنسبة لهذا البلد الجار، ومنها أيضا دسترة النظام الجزائري لمبدأ التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وذلك على خلفية إعلان رئيس أركان الجيش الجزائري الجنرال سعيد شنقريحة بلاده "الجزائر أقوى دولة في المنطقة"، وتهديده من ثم دول الجوار بالتصدي لمخاطر الإرهاب والتهريب الدولي للمخدرات "القادمين من أراضيها"، كما التصدي لعدو بلاده "الكلاسيكي" في إشارة للمغرب. كان النظام الجزائري قد توافق مع السلطات الموريتانية خلال حكم الرئيس السابق ولد عبد العزيز، على افتتاح معبر بري بين بلديهما سنة 2018 عند بلدة الشوم الموريتانية، بزعم تنمية الحركة التجارية، لكن سرعان ما فشل المشروع، بحكم أنه لا يتوفر على مقومات النجاح، وانكشفت النوايا الحقيقية لأصحابه، عندما أتبع حكام الجزائر تشغيل المعبر بإرسال جماعة من أنصار البوليساريو، مرة في أكتوبر 2019، وأخرى في أكتوبر 2020، في محاولتين فاشلتين لإلغاء معبر الكركرات، وإقامة جسم غريب للفصل نهائيا بين المغرب وموريتانيا .. فهل أدرك الموريتانيون حقا مرامي هذه المحاولات المتكررة للفصل بين البلدين، وهل لمسوا جدية خطورتها على مصالحهم ومصالح المغرب الاستراتيجية أم تراهم اكتفوا فقط بالوقوف عند تقدير خسائر التموين القادم من المغرب، الناجمة عن إغلاق المعبر خلال فترة سيطرة الانفصاليين عليه ؟؟. من الصعب الإجابة على هذا السؤال بصورة قطعية، لكن هناك ما يكفي من المؤشرات الدالة على أنهم قرأوا الرسالة واستوعبوا محتواها جيدا، يتجلى ذلك بالخصوص في تطويق الجيش الموريتاني المنطقة المحيطة بالمدخل الجنوبي للكركرات، مما سهل مهمة الجيش المغربي في تطهيره من أنصار البوليساريو، وأيضا في ردود فعل وسائل الإعلام الموريتانية التي اعتبر بعضد من محلليها، أن عرقلة الانفصاليين لحركة النقل والتنقل بين المغرب وموريتانيا، هي جزء من استراتيجية تروم تخريب أي إمكانية لتعزيز التعاون بين البلدين والحيلولة مستقبلا دون تنميتها على أساس من الاحترام والثقة المتبادلة. لقد جاءت عملية تحرير معبر الكركرات، التي جرت بحضور عناصر المينورسو وبتضامن وتفهم إقليمي ودولي واسع، لتلغي مفعول آخر ورقة بقيت في حوزة البوليساريو، واسمها المغلوط طبعا هو "الأراضي المحررة"، مع الإقرار بان هذه الورقة مكنت الجبهة الانفصالية من البقاء، إلى حين، داخل حلبة الصراع الدائر حول الصحراء المغربية منذ 1991 تاريخ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، لكن بعد إعلان الحركة الانفصالية انسحابها من هذا الاتفاق، تكون هي نفسها قد حكمت بأن ذلك الزمن ولى وذهب إلى غير رجعة وانها "اكتفت من الغنيمة بالإياب" .. إلى مخيمات تندوف، ولعل ذلك بالضبط هو ما يفسر رد فعلها الهستيري بإعلان حرب دانكيشوتية على المغرب حل فيها إبراهيم غالي محل دونكيشوته وكثبان الرمال بديلا لطواحين الهواء. في الختام يكتسي اندحار الانفصاليين، أهمية مضاعفة في قراءة مستقبل العلاقات بين الرباطونواكشوط، لأنه يعني بكل بساطة فشل المخطط الذي راهن عليه النظام الجزائري طوال 45 سنة، اعتمادا على ادعاءات كاذبة ومزاعم باطلة، من أجل تطويق المغرب من الجنوب، وإخضاع الشمال الموريتاني لإرادته التوسعية، وانه لتحول استراتيجي نوعي، يتطلب من البلدين الشقيقين العمل على حمايته وتطويره بكل ما أوتيا من قوة، من خلال إقامة علاقات شاملة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، ووفق قاعدة "رابح -رابح"، وذلك بضمانة أساسية تتمثل في حاجة البلدين إلى بعضهما البعض، في أفق خلق فضاء إقليمي للسلام والديمقراطية والتنمية المندمجة، وحينما يتم وضع مثل هذا المشروع على سكة الانجاز، يجوز القول ساعتها انه تم إحباط مخطط الفصل بين المغرب وموريتانيا بصفة نهائية.