يستعمل الإعلام ومحركو الثورات في المنطقة مصطلحات رنانة ملتهبة من قبيل الربيع "العربي" تريد أن تعطي الانطباع لدى المتلقي بأن شيئا ما عظيم حدث و سيحدث، مع إعطاء شحنة الانفعال و التفاؤل اللازمة لمن هو في خضم الثورة و دعوة جميلة لمن هو خارجها للالتحاق بها. لابد أن تسارع الأحداث و عدم اكتمال هذه الظواهر الجديدة في منطقة أدمنت التخلف و الانهزام و الانحطاط مند قرون بعيدة، يجعل فهم الأسباب و الدوافع في العمق أمرا شائكا بفعل تداخل العوامل العامة من جهة، و بفعل خصوصيات كل دولة و كل شعب التي ترسم طريقة ثورته و كيفية مرور مطالباته من التعبير إلى التحقق. بطلت إذن أن نظرية المؤامرة التي كان يلصق بها سبب التخلف و الانحطاط و جعل منها قدرا موسوما بنا إلى الأبد، و ثبت أن الشعوب عندما تريد أن تتحرر وتعرف كيف تتحرر فإنها تتحرر فعلا..
العامل الصامت الذي تسلل في غفلة من الجميع و انبثقت منه الثورات هو ثورة المعلومات التي خلقت شبكات التواصل الافتراضي، و قدمت فرص الالتقاء و التواصل و التبادل المعرفي في فضاء مفتوح و تعددي سمح بتشكل ذهنية الرفض و استكشاف و فضح المجاهل المعرفية و الاجتماعية و نشرها و التحدث عنها خارج القوالب التقليدية.. هذه التكنولوجيات تتلاءم مع حيوية الشباب و مرونته و طبيعته المتحررة و شكلت المتنفس الطبيعي البديل لحرية التعبير و التكتل الغائبة بفعل القهر المزدوج الذي تقوم بها الأنظمة الحاكمة، و الأحزاب و التنظيمات الاجتماعية الواقعية. عندما نفهم طبيعة هذه التكنولوجيا المتحررة و الحداثية، نعرف لماذا لم تخرج هذه الثورات من مكانها الذي كان يعتقده الكثيرون، أي من رحم الحركات الإسلامية و حلقات الوعظ الديني.
منذ أزيد من عقد من الزمان و الإسلاميون يعتبرون أنفسهم ممثلي الرفض وواجهة الصراع مع الأنظمة، يرفضون كل شيء و يحاربون كل شيء و أي شيء، لكن في فترة أقل من عشر سنوات كانت تتشكل قوى الرفض الصامتة في الشبكات المعلوماتية الاجتماعية بإيقاع متسارع. فضاءات خلقها الآخر المرفوض لكنها وهبت نفسها للرافض لأنها تتميز بطابعها الليبرالي الحداثي، و تعبر بشكل مباشر عن شباب عصري ينتمي جزء كبير منه إلى الطبقة الوسطى.
هل كان لغضب البوعزيز أن يلقى صدى لدى الشعب التونسي لو لم يكن المجتمع مؤهلا بطبقته الوسطى المتعلمة العصرية و خلو المجتمع من قوى وهمية؟... كان لتوحد احتجاج المجتمع التونسي بقيادة طبقته الوسطى المتنورة قوته الضاربة التي أسقطت الحكم المستبد، و تأثيرها في المجتمع جذر الإحساس بضرورة إيقاف النزيف الذي أحدثته عائلة الطرابلسي و سهل نجاح الثورة في زمن قياسي.. لو كان للإسلاميين وجود في المجتمع التونسي لكانت الثورة ستطفأ بكل سهولة.. فتوحد هوية الحركة يوحد اتجاه الثورة و يمركز الضغط و يسد فجوات المناورة و التيه..
هذا الدرس البليغ التقطه و فهمه الإسلاميون في البلدان المجاورة، و عرفوا أنهم لن يستطيعوا القيام بالتغيير دون أن يتحالفوا مع التيار الحداثي رغم قلة مريديه، باعتبار أنه تيار الطبقة الوسطى القليلة عدديا، لكن المؤثرة ثقافيا و إعلاميا كصانعة للرأي العام.. التيار الحداثي هو تيار الطبقة الوسطى، بينما التيار الإسلامي تيار الشعبوية الذي تشكله التناقضات اللانهائية و الصراعات الهامشية التائهة بين السماء و الأرض.. هذا الحل السهل بالتوحد الظاهري بذريعة أولوية القضاء على الاستبداد وإن أتى أكله في مصر بإسقاط نظام هش ومتآكل في مراحله المتأخرة، إلا أنه تحالف يبدو أنه لم يحقق أهادف الثورة المصرية التي سارع الإسلاميون إلى تخزينها منذ البداية عند الطبقات الشعبية بمصطلحات من قبيل "تطبيق الشريعة" و "الإسلام هو الحل"، باعتبار أنها طبقتهم التي يتغذون عليها و قابلة لأن تتقبل الشعارات العاطفية و لا تسأل عن التناقضات، مما جعل الإشكالات الأصلية المرتبطة بهوية المجتمع و المراد الأصلي من الثورة يسقط في الفراغ، و يتبين في الأخير أن الثورة الحقيقية لم تحدث بعد.
في المغرب تكرر نفس السيناريو و نفس التحالفات في وسط سياسي و اجتماعي مغاير تماما لما هو في مصر، جعل التناقضات ترافق المطالبات من البداية، ومنذ اليوم الأول للدعوة للتظاهر خرجت دعوات تستنكر الانقضاض على مطالب حركة عشرين فبراير الحداثية النشأة والطبيعة، و هيمنة التيار الديني بمرجعيته و أجندته السياسة.
الثورات في المنطقة قامت بكشف حقيقي للمشروع الإسلاموي الذي لا يستطيع ممارسة الحكم دون اللإرتكاز على طبيعته الثيوقراطية لكنه مع ذلك يتقدم واجهة المطالبات بالتغيير، لكنه يعجز عن تقديم بديل من مرجعياته التي لم تقترب منها يد "التحديث" منذ قرون طويلة، لذلك تتخذ الحركات الإسلاموية مواقع نضالية متأخرة في الإفصاح عن تصوراتها لشكل الدولة و تنظيم المجتمع و حل المعضلات الاجتماعية و الاقتصادية، و تبحث عن تحالفات كيفما كانت، ليست لأنها تحتاجها على الأرض في الاحتجاج، و لكن لأنها تعي جيدا عقمها و مأزق الثورة الذي تنضج شروطها في غفلة من إجاباتها و هي غير قادرة عمليا على إدارة مجتمع دون أن تتناقض مع نفسها.
في الواقع الأمر مرتبط بمسار الحركات الإسلامية التي لم تستطع لحد الآن بلورة مشروع مجتمعي حقيقي يقابل حجم الرفض التي تبديه لكل ما يمت للمشاريع المجتمعية غير الدينية.. و عندما يسقط النظام السياسي المستبد، يتقدم الإسلاميون إلى ساحة الفعل السياسي دون مشروع سياسي و مجتمعي حقيقي و يعوضون ذلك بإثارة الإشكالات الهامشية، فتستغل بقايا النظام الساقط الفرصة و الوقت لإعادة التكتل من جديد، و يتحسر المواطن على الأمن و الاستقرار و ثقته في من وعده بالتغيير و لا تغيير حقيقي يحصل في الأخير..