كيف سيتم تسديد الديون المترتبة عن تدبير جائحة كورونا؟ سؤال يؤرق كل الحكومات وبدون استثناء، لم يكن أحد يتوقع هذه الكارثة الصحية، كل الخيارات الإقتصادية والمالية كانت قبل الأزمة مبنية على توازنات مدروسة و مبرمجة بآليات متحكم فيها، المفاجئة كانت صادمة لكل صناع القرارات الإقتصادية عالميا، إضطروا إلى تغيير كل الإستراتيجيات المتبعة بوضع خيارات جديدة هدفها محاربة هذه الآفة الصحية، وذلك بتعبئة كل الطاقات و الموارد مع إستحضار التفكير في أجوبة قادرة بعد الأزمة الصحية، على الحفاظ على التوازنات الماكرو إقتصادية عن طريق تحصينها قصد الخروج من بأقل الأضرار. إنطلاقا من هذا التصور لا مفر إذن من طرح الإشكالية التي تعودنا سماعها في كل النقاشات الإقتصادية والمتمثلة في البحث عن حلول لمواجهة تراكم المديونية و ذلك من خلال البحث عن خيارات ممكنة، إما بالرفع من نسبة التضخم أو بنهج مقاربة الرفع من الضرائب خوفا من الإخلال بالتوازنات الكبرى. عندما نستقرئ النقاشات الدائرة حاليا في أوساط الإتحاد الأوربي، نجد أن جلها لاتزال حبيسة المقاربات الممكنة، نظير فكرة إصدار سندات خاصة بجائحة كورونا أو وضع سياسة تعتمد على القروض الطويلة المدى تنضاف إلى الميكانيزمات المخصصة والمعبأة مسبقا للحفاظ على الإستقرار المالي لدول الإتحاد الأوربي، مثل هذه الآليات أصبحت متجاوزة فالدول المتضررة في منطقة الأورو كإيطاليا كانت تعاني أصلا من ضعف في نسبة النمو، التي لم تكن تتعدى %0.2 وبمديونية تجاوزت% 134 من الناتج الداخلي الخام، مع أزمة كورونا قد تصل هذه النسبة إلى %150، من هنا تطرح فرضيات شراء القروض من طرف البنك المركزي الأوربي على المدى القريب في إنتظار الحسم النهائي في التحديات المالية المفاجئة المطروحة أوروبيا. وخوفا من إنهيار منطقة الأورو عمدت بروكسيل على الحفاظ على توفير السيولة المالية المباشرة للدول الأعضاء المتضررة من التوقف المفاجئ لعجلة الإنتاج، مع تأجيل النقاش حول كيفية التعاطي مع التعقيدات تجنبا لأي تصدع قد ينتج عنه إختلاف في المواقف والإقتراحات والحلول بين أعضاء الإتحاد، مع العلم أن هذه الإختلافات ليست وليدة اليوم بل لها جذور تمتد إلى سنوات طويلة. بالإضافة إلى أوربا هناك نقاش دائر داخل المؤسسات الدولية المعنية بتدبير العلاقات المالية الكونية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يتم هذا بموازاة مع مبادرات ميدانية تقوم بها كل الدول لتوقيف النزيف الإقتصادي المترتب عن هذه الجائحة، مع بروز إجتهادات تسعى إلى إيجاد صيغ مخالفة للتعاطي مع إشكالية الديون الناتجة عن تكاليف مواجهة الوباء، مع العلم أن بداية سنة 2020 عرفت إرتفاع الديون المتراكمة على كل الدول بنسبة تجاوزت %320 من الناتج الداخلي العام عالميا، أي بزيادة بلغت %50 مقارنة مع مرحلة ما بعد الأزمة المالية لسنة 2008. ومعلوم أن مجموعة الدول 20 كانت قد إتخدت قرارا في 15 أبريل الماضي، أي في عز الأزمة الصحية الحالية أكدت فيه على أن الإلتزام بتسديد الديون لا يجب أن يتم على حساب الإجراءات الإستعجالية المتخذة في الدول السائرة في طريق النمو، مع تأجيل إستحقاقات ديون الدول ذات المداخيل المتدنية إلى حدود نهاية سنة 2020. هناك من ذهب بعيدا وإقترح إمكانية إلغاء ديون 40 دولة سائرة في طريق النمو قد تكون كرونا عرقلة أمام تطورها الإقتصادي، أصحاب هذا الطرح من زعماء بعض الدول المتقدمة يتخوفون من تنامي خطاب رافض لعولمة يعتبرها جزء من الرأي العام المتتبع للقضايا الإقتصادية مسؤولة عن هشاشة شرائح متعددة في العالم، مادام أن جل الحكومات المتعاقبة على تداول الحكم عاجزة عن الإستجابة لمتطلبات شعوبها بإعتبارها، في نظرهم فاقدة للقرار الإقتصادي المحتكر من طرف قطاعات إستراتيجية جعلتها الخيارات النيو ليبرالية آلة متحكمة في خلق الثروة وفي إعادة توزيعها . فريق آخر من الخبراء يؤكدون عكس ذلك، مسلحين بأرقام تؤكد تراجع مستويات الفقر التي كانت تمس %95 من ساكنة العالم في بداية القرن التاسع عشر، في حين أنها لا تتعدى اليوم %10، حجتهم في ذلك هو أن منظمة التجارة الدولية ترى أن أي تراجع عن مكتسبات تنظيم التبادل التجاري المرتبط بعولمة الإقتصاد سيؤدي إلى إنهيار هذا التبادل بنسبة %32، وأن أول ضحايا هذه المتغيرات هي الدول الفقيرة والتي ستعرف هجرة جماعية للرساميل الأجنبية من فوق ترابها، مع عودة السياسات الوطنية الحمائية. هناك من يعارض فكرة إلغاء الديون و يأخذ كمثال القارة الإفريقية، التي قد تعاني دول عديدة من داخلها من هذه المبادرة، خوفا من فقدان مصداقيتها أتجاه المؤسسات المكلفة بالتنقيط، بالإضافة إلى أن قراءة سريعة في الوضعية الإقتصادية لدول القارة، نجد أن مجموع ديونها سواء ذات الطابع الثنائي أو المتعدد الأطراف، تصل إلى 390 مليار دولار وأن داخل 55 دولة إفريقية، أقلية هي التي تعاني من مديونية غير متحكم فيها، فحاجيات إعادة تمويل الديون الإفريقية خلال سنة 2020 تتطلب 44 مليار دولار، في حين أن طلباتها من الإقتراض الخارجي لن تتعدى هذه السنة 100 مليار دولار. إذن أزمة كرونا على العموم وجدت إقتصاديات جل الدول الإفريقية متعافية ماليا. يجب التأكيد على أن الإنعكاسات السلبية لهذه الأزمة لم تكن واردة في أذهان المتتبعين أو الممارسين للشأن الإقتصادي، إعتماد المرجعيات التاريخية الشبيهة بهذه النازلة قصد المقارنة، تمرين غير صحيح، فالأزمة الصحية المعروفة بالحمى الإسبانية لسنة 1918، أو مخلفات ما بعد الحرب العالمية الثانية، تختلف عن السياق الحالي، ذلك أن التداعيات المالية والإجتماعية لما بعد الحجر الصحي المتمثلة في برامج إنقاذ إقتصاديات الدول من الإنهيار الكلي، ستؤثر سلبا على التوازنات المعتمدة، إذ أننا أمام أزمة صحية أدت إلى أزمة مالية وإقتصادية وبعدها أزمة طاقية، لذلك فالسؤال الجوهري الحاضر بقوة عند الجميع، هو كيفية توفير شروط إنطلاقة إقتصادية جديدة حماية للمكتسبات، هناك من يرى ضرورة الرفع من ساعات العمل، لاسيما في القطاعات ذات التأثير المباشر على الأسواق مثل صناعة السيارات، ففي شركة "بوجو" الفرنسية قرر المستخدمون الإكتفاء هذه السنة بأسبوعين كعطلة سنوية، في المقابل هناك قطاعات أخرى قد تعرف بطالة كبيرة كتلك التي ضربت فرنسا بعد الأزمة المالية لسنة 2008، بحيث إرتفعت آنذاك نسبة البطالة إلى %9.5، مؤشرات هذه السنة بعد رفع الحجر الصحي، 1.4 مليون وظيفة مهددة في فرنسا بالتوقف النهائي، جلهم ينتمون لقطاع السياحة، في الولاياتالمتحدةالأمريكية 20 مليون طلب شغل فقط في شهر أبريل مع نسبة بطالة تعدت % 20، في حين أنها لم تكن تتجاوز % 3.5 في شهر فبراير، المكتب الدولي للشغل بجنيف بدوره يتوقع فقدان 2.5 مليار مستخدم لوظائفهم، جلهم في الدول الفقيرة. في ظل هذه الصورة القاتمة، أصوات إرتفعت مؤخرا تطالب بعدم إدماج قروض كورنا ضمن الديون العمومية للدول الدائنة، مادام أن كل المجهوات الإستثنائية كانت موجهة لوقف الإنهيار الإقتصادي بدعم المقاولات والشرائح المتضررة، كل الدول سلكت نفس المنحى، الدعم ولا شئ غير الدعم، حتى القطاعات الإستراتيجية التي كانت إلى أمد قريب غير معنية بالدعم العمومي المباشر، فشركة "بوينغ" الأمريكية مثلا، بالإضافة إلى صعوباتها المرحلية المرتبطة بتسويق طائرة بوينغ 737 ماكس، فإنها بفعل الأزمة، أوقفت إقتناء الشركة البرازيلية (أمبرايير)، كما قرر مجلس إدارتها التوقف عن توزيع الأرباح السنوية، مع التوجه إلى السوق البنكي بضمانة الحكومة الفيدرالية الأمريكية، قصد الحصول على 38 مليار دولار كقرض، ولدعم قطاع النقل الجوي الحكومة الأمريكية لم تتوقف عند هذا الحد، بل ساهمت في إنقاذ الشركات الأربع الرئيسية المتخصصة في مجال النقل الجوي، بمبلغ 25 مليار دولار، بشروط عديدة أهمها عدم تسريح المستخدمين، نفس الدعم تقريبا للقطاع الفلاحي الأمريكي الذي فقد 20 مليار دولار من جراء أزمة كوفيد19. بالنسبة للمغرب، هناك الموافقة على قانون 20.26 المصادق عليه من طرف البرلمان مؤخرا، و القاضي بتجاوز سقف 31 مليار درهم كمديونية منصوص عليها في قانون المالية الجاري به العمل إلى حدود تقديم قانون مالية تعديلي. وزير المالية إعتبر أنه من الصعب تحديد مبلغ المتطلبات المالية مادام أنه من السابق لأوانه معرفة أضرار الإقتصاد المغربي الناجمة عن أزمة كرونا، مع تقديم طمأنة لنواب الأمة مفادها هو أن المصداقية المالية للمغرب في وضعية مقبولة، مادام أن الدين الخارجي لا يتعدى %20 من ديون الخزينة العامة، إذن اللجوء إلى القروض الخارجية شيء لا مفر منه، فتراجع الطلب الموجه للمغرب أدى إلى إنخفاض الصادرات ب % 80 في شهر أبريل، السياحة والنقل الجوي في توقف تام مع إنخفاض في تحويلات مغاربة العالم ب%10. وللتذكير فإن تقرير البنك الدولي الصادر في 22 أبريل من هذه السنة، أكد أن تحويلات المهاجرين نحو بلدانهم الأصلية ستنخفض ب% 19.7 خلال سنة 2020، لذلك وحسب وزير المالية تأجيل دفع مستحقات الديون والتفاوض عن جدولة أخرى قد يؤثر على المصداقية المالية للمغرب لدى المؤسسات المانحة، الحل إذن حسب أطروحة وزارة المالية هو الإقتراض لتسديد الإلتزامات المبرجمة مع ضرورة الإحتفاظ على الإحتياطي من العملة الصعبة نظرا لدوره السيادي على مستوى التعاطي مع الأسواق الخارجية. القيام بهذه القراءة السريعة لرصد النقاشات حول المخارج الممكنة إقتصاديا بعد أزمة كورونا، تبرز مدى إنشغال العالم بالتفكير في تدبير صعوبات ما بعد الوباء، فالوضع الدولي يتسم بسيطرة الغموض والشك من جهة وبالصراع الأمريكي الصيني من جهة أخرى، هذا في ظل غياب تام لمؤسسات الحكامة الكونية القادرة على خلق جسور التفاهم عن طريق الحكمة والتبصر لإيجاد الحلول الممكنة عوض التشنج وزرع الفتنة. المؤسسات المانحة بدورها ستتعرض لإختبار صعب، مطالبة بتجاوز دور المواكبة المالية المحضة إلى خلق شروط لتفاعل حقيقي مع مرحلة تحتاج إلى هندسة مغايرة، تأخذ بعين الإعتبار حاجة المجتمعات إلى سياسات عمومية تحمي الإنسان وتمنحه الإمكانيات لمجابهة المخاطر، بعيدا عن عقلية البحث عن المردودية السريعة على حساب قيم التضامن، فرصة ما بعد كوفيد19 قد تكون مناسبة لهذا التحول العميق في تدبير الشأن الإقتصادي كونيا، ونقطة البداية هنا هو إعتبار ديون مخلفات الأزمة الصحية، ديونا خارج خانة الديون العمومية من طرف كل الجهات المانحة تجنبا لإثقال الحكومات بأعباء مالية قد تؤدي إلى إنعكاسات سياسية وإجتماعية وخيمة.