خلط مفضوح بين الصلاحيات التي يمنحها المنصب والقضايا الشخصية ليست "إقامة الحدّ" نظاميا وسياسيا على عبد العزيز بلخادم، سوى حلقة في سلسلة عقوبات أنزلها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على مسؤولين مقرَّبين منه وآخرين غير مقرَّبين. فأهم ما ميَّز فترة رئاسته للجزائر أنه وضع نفسه خارج المحاسبة، فلا أحد ولا أي هيئة في البلاد بإمكانها أن تراجع قراراته ولا أن تسأله عن خيارات اعترف هو بأنه أخطأ فيها، ولا أحد يعيّن ويقيل إلا هو حتى في أبسط المناصب في الدولة، كأمين عام بلدية.
أقصى أقرب رجالاته إخلاصا ووفاء بوتفليقة يحوّل سلطتي "التعيين والإقصاء" إلى هواية مفضلة أمعن الرئيس بوتفليقة، خلال فترة رئاسته الممتدة على 15 سنة، في ممارسة سلطتي "التعيين والإقصاء" من مناصب المسؤولية في الدولة، حتى أصبحت من فرط تكرارها "هواية" مفضلة تميز مرحلة حكمه. بيد أن غياب المبررات والأسباب التي تشفع أغلب قرارات الرئيس في اختيار الرجال ثم إنهاء مهامهم، جعلت من هذه الممارسة بعيدة عن "منطق الدولة"، وقريبة إلى "تصفية حسابات" مع شخصيات لم توافق هوى الرجل. سمحت السلطة المطلقة التي احتكرها بوتفليقة على مدار سنوات حكمه، بأن تكون له اليد الطولى في معاقبة من يشاء من السياسيين الذين عملوا تحت سلطته، حتى ولو كانوا من أكثر المقربين إليه. كان آخر من وقع ضحية لهذا التصرف، عبد العزيز بلخادم الذي عاقبه الرئيس بأن قذف به إلى عزلة سياسية تكاد تكون شبيهة بوضعه في إقامة جبرية. وبالمثل، كان نصيب علي بن فليس الذي كان مدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة في رئاسيات 1999، وشغل مناصب كبيرة في عهده أبرزها رئاسته للحكومة، لكن بوتفليقة لم يغفر لبن فليس تجرؤه على منافسته في انتخابات 2004، وقد ألقى الخلاف بظلال ثقيلة على مسار بن فليس السياسي، حيث دفعه ذلك إلى التواري عن الأنظار لأكثر من عشر سنوات. وتكبد رجال بن فليس نفس المصير على غرار رئيس المجلس الشعبي الوطني السابق كريم يونس. أما الذين لم يكن للرئيس بوتفليقة عليهم سلطة التعيين، فمارس عليهم ضغطا نفسيا لدفعهم للاستقالة، مثلما حدث مع رئيس مجلس الأمة بشير بومعزة الذي عزله الرئيس عن كل المهمات الرسمية رغم أنه كان الرجل الثاني في الدولة. وتعلق بالأذهان أيضا الرسالة الخاصة التي وجهها القيادي بالأفالان، عبد القادر حجار، إلى بوتفليقة، يلومه فيها على إقصائه من مناصب المسؤولية، ففضحه الرئيس علنا بنشرها في وكالة الأنباء الجزائرية. ومن الذين ضحى بهم بوتفليقة، العربي بلخير الذي كان طرفا مؤثرا في مجيئه للحكم سنة 1999. لكن بوتفليقة بعد أن عينه مديرا لديوان الرئاسة، سرعان ما انقلب عليه بسبب خلاف مع شقيقه ومستشاره السعيد فأبعده إلى السفارة بالمغرب، فوجد نفسه معزولا وهو الذي كان يلقب بصانع الرؤساء في الجزائر. وللرئيس الذي استهلك 12 حكومة في 15 سنة، طريقته الخاصة في تأديب وزرائه، هو يقابل كل معارضة على نطاق ضيق لسياساته بردود فعل عنيفة. فأبو جرة سلطاني الذي أعلن حملة "الفساد قف" وهو وزير للدولة، وضعه الرئيس في خطاب شهير أمام الملأ عند حده وحذره. أما عبد العزيز رحابي، وزير الاتصال السابق الذي أراد أن ينفتح على الصحافة الخاصة، فخاطبه في مجلس وزراء بعبارة "أنت موقف". وكان نصيب رئيس الحكومة أحمد بن بيتور الدفع إلى الاستقالة، بعد أن كان الرئيس يتدخل في صلاحياته. ولم يفهم إلى الآن سبب تقريبه لوزراء مثل حميد طمار وبن أشنهو وشكيب خليل، ثم إبعادهم فجأة عن كل المناصب. وتشير تحليلات إلى أن بوتفليقة لم يغفر للجيش إبعاده عما كان يراه حقا أصيلا له في رئاسة الدولة، بعد وفاة الرئيس بومدين، فشعر بإقصاء مرير وإهانة جعلت منه يحمل في نفسه روح الانتقام الذي يعتقد أنه هو ضحية له في فترة ما. الجزائر: محمد سيدمو
استعمله لتصفية حساباته الشخصية ولم يسلم من انتقامه الأفالان في قلب الصراع حول تثبيت بوتفليقة في الحكم لم تتضح بعد خبايا قرار الرئيس بوتفليقة عزل رجل ثقته عبد العزيز بلخادم سياسيا بعد فصله من هياكل الدولة، في ظل صمت الرئاسة والمعني. لكن المتتبعين لمسيرة الرئيس الحالي لم يفاجأوا من سلوك "فخامته"، لأن بلخادم بمنظوره متمرد وأصبح في نظره ينازعه الشرعية على جبهة التحرير كما حدث لسلفه بن فليس. يدرك بوتفليقة منذ شبابه أهمية جهاز الأفالان في معركة السلطة بالجزائر، ومنذ شبابه شهد ثم انخرط في معركة السيطرة على الحزب الذي يعد أحد أعمدة الشرعية لأي رئيس ونظام قائم. ففي سنة 1979 خسر الرئيس الحالي رهان خلافة بومدين، لأن الحزب دعم محمد الصالح يحياوي ليكون مرشحا له، فيما وقفت المؤسسة العسكرية في صف العقيد الشاذلي بن جديد. وعند توليه الحكم في أفريل 1999، لم يهدأ باله إلا بإقصاء بوعلام بن حمودة أمين عام الحزب حينها، وتحقق له ذلك في سنة 2001، بعد سنتين فقط من توليه الحكم، وعين علي بن فليس أمينا عاما للحزب، ضمن مساعي بوتفليقة وضع الحزب تحت برنوسه، غير أن الخلاف سرعان ما دبّ بين بوتفليقة الذي كان يجهز نفسه لعهدة ثانية وقيادة الحزب المدعومة من جناح في السلطة، كانت ترى في علي بن فليس وريثا شرعيا للحكم. ولم يهضم بوتفليقة انقلاب الأفالان عليه، فحرك شبكاته وأجهزة الدولة لاسترجاع جهاز الأفالان، وتحقق له ذلك بتحييد بن فليس عن اللعبة. وبعد مرحلة انتقالية قصيرة، انتخب عبد العزيز بلخادم أمينا عاما للحزب، وتم تطبيع الأوضاع الداخلية بما يخدم توجهات الرئيس الذي كان يشتغل على جبهات متعددة لتعزيز أسس حكمه، وكسر مراكز "المقاومة". ومكن بوتفليقة في فترة حكمه للأفالان من السيطرة على المؤسسات المنتخبة، وفتح هذا شهية قيادات الحزب التي ترى نفسها أولى بالمناصب الحكومية والريوع، لكن لوضع مؤقت، وقام بتكميم أفواه مسانديه في الحزب. إلا أنه في بداية العهدة الرابعة، وانكماش الرئيس على نفسه مع كثرة انتكاساته الصحية وتخليه عن كثير من صلاحياته لمجموعة من المسؤولين التنفيذيين، تفجرت ثورة لدى قيادات الأفالان ترى أنها أبعدت عن القرار وعن الريوع، لصالح جماعات مصالح جديدة مشكلة من تحالف لرجال المال والإدارة المسنودين من محيط الرئيس نفسه. وعملت القيادات المخضرمة في الأفالان بقيادة عبد العزيز بلخادم، على الضغط على الرئيس بوتفليقة، لأجل تصحيح الأوضاع عبر تصحيح مسار الحزب الذي يسيره عمار سعداني، المتهم بأنه بيدق في خدمة مجموعات المصالح الجديدة. ويبدو أن تحركات مجموعات المخضرمين في الأفالان الملتفين حول بلخادم، والتقارير الذي جهزها مقربون من الرئيس عجلت بطرد المستشار من الرئاسة والأفالان، لقطع ما يرونه فتنة، ومحاولة تفجير أوضاع جبهة التحرير الوطني، أو الثورة على الرئيس ومحيطه، وحرمانه من شرعية الأفالان التي قضى سنوات لاكتسابها. الجزائر: ف. جمال
حوار
الكاتب الصحفي سعد بوعقبة ل"الخبر" "بوتفليقة دخل مرحلة فك الاشتباك بين الزمر"
يسجّل خلال فترة حكم بوتفليقة خلط بين الصلاحيات التي يمنحها المنصب والقضايا الشخصية، لماذا برأيكم؟ بوتفليقة تربى في مدرسة الحكم المطلق كوزير للخارجية، هو المشرع وهو المنفذ ولذلك لا يرى أبدا أن يتم التفريق بين صلاحيات المؤسسات الدستورية للدولة، ولا يرى أن هناك في الحكم من بإمكانه أن يراقب صلاحياته أو سلطته، لهذا أعاد شبكة المؤسسات التي تركها زروال إلى ما قبل دستور 1989 عمليا فأصبح هو الكل في الكل، وهو يعتقد صادقا بأن تجميع كل الصلاحيات في يده يقويه، في حين أن ذلك يضعف مؤسسات الدولة وبالتالي يضعف حكمه وهو ما حصل بالفعل. فلو كانت المؤسسات قوية، ما شهدنا مثل هذه الكوارث التي تحدث في البلاد، ومن تغوّل للفساد وترهل لمؤسسات الدولة والمسؤولين وتعاظم الاضطرابات والقلق الحاصل في الحياة الأمنية للبلاد. بوتفليقة يعتقد بأنه يتقن فن الحيل السياسية والمؤامرات أكثر من غيره، ولذلك لا يرى في مسألة خلط الصلاحيات بين الوظائف والمؤسسات مسألة تضرب في العمق منطق الدولة. ما ساعد بوتفليقة على بقائه رهينة سياسة الخلط بين المؤسسات والصلاحيات، أن الرجال الذين اختارهم حوله لا يوجد بينهم من باستطاعته أن يقول له ما يجب أن يقال في الوقت المناسب، لهذا عاث فسادا في إضعاف مؤسسات الدولة لصالح سلطة شخصه المطلقة، وهو ما أضر به هو أولا قبل أن يضر بمؤسسات الدولة وتطورها. والأمر لا يعود لبوتفليقة وحده، بل يعود إلى عقلية المحيطين به والذين أصبحوا يرون فيه نبي هذا الزمان، والسلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة، تسود فيها حجة السلطة وليس سلطة الحجة التي تبنى عليها أنظمة الدول الحديثة. هل بإنهاء مهام بلخادم سياسيا وحكوميا، يكون بوتفليقة دخل في مرحلة تصفية الحسابات مع مقرّبيه؟ لا أعتقد ذلك. الرئيس يكون قد دخل في مرحلة فك الاشتباك بين الزمر المحيطة به بواسطة مثل هذه القرارات ذات الطابع المسرحي الذي يوحي بأن الرئيس يتحكم في كل شيء، وهو في الواقع لا يتحكم في شيء. إبعاد بلخادم بهذه الطريقة دون تعيين من يخلفه يدل على أن منصب بلخادم بالأساس كان زائدا، يمكن الاستغناء عنه مثل الرئيس الذي تسير المؤسسات من دونه، فالرئيس ينعم على من يشاء وبما يشاء وينزع ما يشاء ممن يشاء في الوقت الذي يشاء، وهذه ليست ظواهر ممارسة رئيس دولة. تذكرون أيضا أنه أتى بالمرحوم العربي بلخير وأبعده بطريقة لا تختلف عما فعل بلخادم، واختلاف بلخير مع بوتفليقة لم يكن معه مباشرة، بل كان مع محيط الرئيس ونفس الظاهرة حدثت مع بلخادم. ماذا يعني إقحام الأفالان في عقاب بلخادم؟ الأفالان هو آخر ما تبقى من مظاهر شرعية النظام السياسي، ولهذا فإن الصراع فيه وحوله هو في الواقع صراع حول اكتساب شرعية مهزوزة أو هكذا يعتقد المعتقدون.. فالأفالان لم يعد عند الجزائريين مصدرا للشرعية، بل هو الآن أحد أسباب فقدان الحكم لشرعيته، وحتى بوتفليقة نفسه قال هذا الكلام. الجزائر: حاوره خالد بودية
عضو المكتب السياسي للأفالان سابقا قاسة عيسي "الأفالان انتظر من بوتفليقة حلا عبر ممارسات ديمقراطية"
أثبت بوتفليقة أنه لا يتردد في الانتقام من مقرَّبين منه، وغالبا ما يأخذ الانتقام طابعا شخصيا. هل توافق هذه المعاينة؟ أكبر دليل على صحة هذا الطرح ما ورد في برقية وكالة الأنباء الجزائرية، التي نشرت خبر إنهاء مهام السيد عبد العزيز بلخادم من منصبه كوزير للدولة مستشار خاص برئاسة الجمهورية، ومن مهامه في حزب جبهة التحرير الوطني. الجزء المتعلق بإنهاء مهامه الحكومية لا دخل لنا فيه، ولا نعلق عليه بحكم أنها من صميم الصلاحيات الدستورية للرئيس، بل الجزء الثاني المتعلق بنشاطه ونضاله الحزبي، فأظهر الرئيس طابعا خفيا لمحتوى القرار وهو يبرز خلطا واضحا بين وظيفة تمنحها مؤسسات الدولة، وحزب كغيره من الأحزاب السياسية. وأستند إلى مثال إنهاء مهام عبد العزيز بلخادم للإجابة على سؤالكم، لأنه ذهب ضحية خلط بين الصلاحيات، مع العلم أن بلخادم لما كان أمينا عاما للأفالان لا يتخذ أي قرار ولا يسجل أي نقطة، في جدول أعمال الاجتماعات إلا وتصل إلى رئيس الحزب. ثم إن رأينا نعبر عنه فيما تعلق بالصلاحيات بأمور موثقة في نصوص قانونية ومواقف رسمية، أما ما تعلق بالأمزجة والأهواء فهذه أمور لا يعلمها إلا الله، أما الممارسات القانونية وغير القانونية فلنا فيها أدلة. وحتى وإن كان إنهاء مهام بلخادم حكوميا لا دخل لنا فيه، إلا أنه مادام هناك حديث عن الخلط بين الصلاحيات، فالجزء الأول من البرقية عندما تشير إلى إنهاء مهامه من كافة هياكل الدولة، فهذا يعني أن بلخادم أمام إدانة من جانب العدالة، وإذا كانت هذه القراءة صحيحة فهي من صلاحيات العدالة. هل العقوبة الاستعراضية التي حلّت ببلخادم تعكس تصفية حسابات يمارسها الرئيس؟ يمكن لهذا الطرح أن يتأكد في حال أحيل بلخادم على لجنة الانضباط بالحزب، لأنه سيتكلم عن الدواعي التي جعلت الرئيس يتصرف معه بهذه الطريقة، عمّا إذا كانت تتعلق بأخطاء متصلة بوظائف حكومية. لكن يجب التنبيه ردا على هذا السؤال، أن الحزب في الوقت الحالي، كان ينتظر من الرئيس قرارا حاكما، لأن الصراع متعلق بمسألة الشرعية، والحل يكون عبر ممارسات ديمقراطية. الأفالان كان دائما في قلب الصراع في النظام، وقد استعمله بوتفليقة لتثبيت حكمه. هل هذا صحيح برأيك؟ جبهة التحرير الوطني هي في صراع من عدّة وجوه، لكن قبل كل شيء نوضح بأن أول من دعا الرئيس لولاية رابعة كان عبد العزيز بلخادم بداية من مارس 2010، وليس عمار سعداني الذي ادعى ذلك ونسب لبلخادم أنه ينوي خلافة بوتفليقة، ثم أي شخص تتوفر فيه الشروط القانونية للترشح للاستحقاقات الرئاسية المقبلة، فذلك حقه الدستوري. ولا بد أيضا من التنبيه إلى أن انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رابعة، خيار مشينا فيه كلنا ولا يوجد شك في هذه المسألة وهي غير مطروحة أساسا. وأبرز نقطة يجب توضيحها أيضا، تتعلق ضمنيا بالسؤال، أن سعداني لا يهمنا كشخص وقضيته لم تكن أبدا حزبية فقط. الجزائر: حاوره خالد بودية