هل بدأ العنف في الجامعة المغربية حقا بمقتل طالب ينتمي إلى «منظمة التجديد الطلابي» بفاس، أم أن الجميع يبكي «شهداءه» متهما الطرف الآخر بإشهار الهراوات والسيوف والحجارة؟ مخطئ من يعتقد أن سقوط طالب مضرجا في دمائه على يد طلاب آخرين يختلفون معه في الرأي والإيديولوجيا شيء طارئ في الجامعة، وأن الحل هو شن حملة اعتقالات على المتورطين والزج بهم في السجن، ذلك أن العنف المادي بين الفصائل الطلابية ليس وليد اليوم، بل إنه لم يعد استثناء، حيث يكاد لا يخلو أي موسم جامعي من المواجهة بين بعض الفصائل «المسلحة» التي تبلغ، أحيانا، درجات بالغة الخطورة، وصلت إلى القتل والتشويه الجسدي والعاهة المستديمة. فما هو الدافع ليتحول طالب جاء للتحصيل العلمي إلى أداة للقتل والاضطهاد ورفض القراءة الأخرى للواقع؟ ما الذي يدفع طالب إلى تعنيف زميل له لأنه لا يشاطره المعتقدات نفسها؟ إن العنف الذي باتت تعرفه الجامعة المغربية منذ أكثر من عقدين أصبح متنوعا، وفي بعض الأحيان يتخذ صبغة عرقية أو إثنية، بدعوى الدفاع عن «الخصوصية الثقافية»، أو عن «القضية»، وقد يصل الأمر أحيانا إلى الابتزاز وجلب المنافع والامتيازات. وهو عنف كان مسبوقا بأنواع العنف أخرى من عنف الدولة التي أحدثث «بوليسها الجامعي» (الأواكس) وجندت المخبرين لإحصاء أنفاس الطلاب والأساتذة، على حد سواء. وبغض النظر عن الخلاف الموضوعي بين الفصائل الطلابية، والذي انتهى بصدامات بين أطرافه سنة 1984، فقد كان لهجوم «الإسلاميين» المنظم والمهجي على الجامعة أثره في اصطخاب حدة المواجهة، حيث كان الغرض هو اقتلاع اليساريين وطردهم إلى غير رجعة من الجامعة، وذلك بتنظيم غارات وإنزالات عنيفة في فاس ووجدة، وإقامة محاكمات وتعزير «المتهمين في القنيطرة وتطوان ومراكش، والدار البيضاء. حيث أسفر ذلك الهجوم عن مصرع طالبين (محمد بنعيسي آيت الجيد بفاس والمعطي بوملي بوجدة) وسقوط جرحى واعتقال جرير نور الدين وسلام العوينتي وآخرين، إضافة إلى تهديد مجموعة من الطلبة بالقتل، والمحاولة الفعلية لتصفيتهم (أنظر شهادة الأكاديري ص: ….)، وقد وصل هذا العنف إلى حد إقدام الطلبة الإسلاميين (طلبة العدل والإحسان) على وأد الجامعة الربيعية للطلبة الاتحاديين. لقد أسفر العنف «والعنف المضاد» ولغة السكاكين بدل لغة «النقاش العمومي»، في أصابة عشرات الضحايا بعاهات مستديمة ستلاحقهم طول العمر، وفي اختزال «الحياة الطلابية» التي تعتبر عش الأحلام وذروة التكوين الفكري والسياسي في «حلقيات مغلقة» لا تنظر إلى ما سواها إلا بريبة وكراهية وعداء. حيث أصبح التطرف دفاعا عن وجود، وليس عن فكرة أو عن تحليل وقراءة للوضع. إن العنف السياسي داخل الجامعة ممارسة لا تخدم أحدا. كما أن ما وقع في فاس لا ينبغى أن يكون فرصة للاهتبال السياسي، وكل محاولة لتسويغه هي مجرد احتيال، وكل محاولة للركوب عليه من أجل جلب منافع انتخابية أو سياسية تعتبر ضحكا على الذقون وهربا إلى الأمام من المساءلة (كما فعل رئيس الحكومة وحزبه). إن العنف داخل الجامعة يسائل الجميع، وقضية تهم الكل، ولا ينبغي التعامل معها بمنطق انتهازي. فالواقع أن الإنهاك الحزبي ولامبالاة جمعيات المجتمع المدني والنخب الفكرية والإعلامية، ساهم في عزل الجامعة عن محيطها السوسيولوجي، وفي تركها لمصيرها المجهول بين أياد لا تعترف بحق الآخر في الرأي والتعبير والوجود، ولا مكان فيها للتعدد والاختلاف. إذ هناك حاجة ماسة إلى إطلاق برامج ومبادرات، وخلق ديناميكية جديدة تُعيد إدماج الطلاب المغاربة في عصرهم، بدل ترحيلهم إلى القرن الثالث أو الرابع الهجري. لقد بين استمرار جولات العنف في الجامعة المغربية خلال السنوات الأخيرة أن «إدانة العنف» لا تكفي، وأن الدولة مُطالبة، بدل إغراق نفسها في «صلاة الجنازة» على طالب واحد (تغمده الله برحمته)، بالقطع مع الهاجس الأمني تجاه الطلبة واعتبارهم مصدرا للتوتر والأزمات وإثارة القلاقل والقتل والإجرام، لأن الطلبة، الذين هم حاملو مشعل الغد، في أمس الحاجة إلى مصاحبة منهجية، وذلك بإطلاق برامج ومبادرات شبابية وعلمية وفكرية لفتح الأبواب أمامهم في لحظة مفصلية من حياتهم الشخصية، هي لحظة لبناء الوعي وبناء الموقف من المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إن الجامعة، في كل أنحاء العالم. هي ساحة النقاش العمومي التي تتصارع داخلها الأفكار والقيم والاختيارات والإيديولوجيات والسياسات؛ فلا أحد يأتي إلى الجامعة ليقاتل، ولا ليملأ الشوارع بالدم، ولا ليحقق نصرا على العدو، بل يلج الجامعة ليتسلح بالأفكار والقدرة على التحليل العلمي والتمييز بين الغث والسمين. Share this: * مشاركة * * طباعة * معجب بهذه: إعجاب تحميل...