نزلت صور البرنامج التلفزيوني على نفسية سناء نزول الصاعقة على قرية هادئة وقت الغروب...في صورة تشبه اختفاء الشهاب وسط جبال بعيدة لفها السواد، أو كجمرة تهوي على حوض بارود ، لا ترى من المشهد غير إشعاع ساطع وصدى يتكرر، يكاد يأخذ الأبصار... أبدى المشرفون فرحة بحسن الاختيار، كما أبدى أصحاب البيت المستفيدون الانبهار ...لا تسمع غير كلمة ..”واو“... تتداولها كل الألسن ...أما المشاهدون، فعيون جاحظة متلألئة راغبة في القفز من المحاجر، وأفواه مفتوحة في بلادة كأن عضلات الفك الأسفل تلاشت بالمرة وضعفت...غبطة /اندهاش /سحر/ انبهار...مزيج من كل ما يمثل ضعف المتلقي ويؤكد قوة المهيمن ..ألام خفيفة من إحساس يقتلع أفئدة المتتبعين...رأت كيف تصبح البيوت قصورا في لمح البصر، ظنت أن العالم يحكمه ساحر ...كانت كالبصير الذي من الله عليه بلحظة من الرؤية محكومة بثوان قليلة ثم يتخطف بصره ثانية ليبقى مع ما اختلست الحدقة سجين ظلام سرمدي حالك...رأت شيء يتغير... من القبح إلى الجمال ...شيء فيه نور وضياء ...فيه حلم وردي ...فيه سخاء ...فيه لعنة المعرفة حين تهدم سكينة الجهل. سناء لا تفهم كل ما يبث على الشاشة ...تحسب جثث الضحايا في بغداد و إسلام آباد و كابول مجرد لقطات من أفلام للعرض القريب...اللحظة عظيمة مازالت نفحات العيد تنساب على مشاهدها ...والفرجة مضمونة في معتقدها مادامت الصور لم تؤثر في نبرات صوت المذيع ... لم تذرفا عينيه دمعة واحدة وهو يتطرق لكل مآسي العالم..تلك الابتسامة المفروشة على الثغر والتي ختم بها حديثه عكرت صفو تصورها، أصبح الموت قاسما مشتركا بين الواقع والخيال...الدم المسفوح كالأصباغ على الجرح ...تسلية تذر أموالا ...تعويذة تجلب الحظ إلى البعض ولو عبر نفق أحزان الملايين...المذيع يبتسم بعد الكلام عن الموت والحوادث و المآسي...لا ريب أن الأمر من خدع السينما المسلية ،حتى و إن رأت الأجساد أوراقا تتلاعب بها رياح العنف في نهايات خريف المنطق.. على أي، هي مجرد ضيفة حلت قبل عيد الفطر على أفراد من عائلتها تظنهم ميسورين...كلما زارتهم رأت على مائدتهم أطباقا من فاكهة تفتقدها في كوخها الصغير،أما الثلاجة فلا تجرؤ على فتحها كي لا تقنط أكثر من رحمة الله والفارق بين رغد العيش وشظفه يتضح أمام عينيها جليا...كانت تحس بقوة ترج دواخلها رجا عنيفا فتستغفر الغفار خوف أن يكون الإحساس من لهيب الحسد ...دأبت على سمعها جملة متميزة ّّّّ{ اللي حسدك عطاك } ، هي لا تملك شيء تعطيه،ولا حتى شرو نقير...فهل تقتطع الإتاوة من لحمها الذي شحب لونه أم من عظمها الحائر بين مقاومة البرد والهشاشة أم من شرايينها التي عبر فقر الدم ببيان عن حالها...همها الاستفادة من الزكاة والعودة إلى أهلها محملة بما يسعدهم من جود أغنياء المدينة...لا شان لها بالصور...أقصى أمانيها أن لا تسرق في طريقها فتذرو رياح الظلم أحلامها و يذهب المجهود سدى . في الحافلة ،كانت تشد على الدراهم بقوة ...حيلتها كي لا تفقد كل المبلغ تقسيمه على كل الجيوب... يمينها تقبض على العشر دراهم ثمن التذكرة... أصابع يسارها تلف جيبها الذي وضعت فيه تحويشة الرحلة ...لا احد يستطيع نشلها و لو ببتر يدها...تعاني فوبيا من نوع فريد ... فوبيا الزحام و الاكتظاظ . تبددت مخاوفها عبر الطريق بعد نزول جل الركاب ...استمتعت قليلا بما تعرض النافدة على نظرها من صور عابرة، كأن الطبيعة من حولها تشاركها الخوف...ترى من فرط السرعة الأشجار تنسحب لا تستقر إلا بتوقف محرك الحافلة ... كانت تتأمل شريط الزفت يطوى رغم اتساعه تحت عجلات الحافلة فتغض الطرف كي لا يتمكن منها الغثيان...تخاف أن تبتلعها السرعة... تخال الطبيعة تتمايل من حولها أمواج بحر الباص فيها فلك يمخر العباب،تجلس خلف الربان مباشرة حتى يسمعها دون عناء وهي تأمره بالوقوف عند الدوار، المرسى و المستقر. وجدت سناء باب منزلها مفتوحا..الأبواب بالقرية لا توصد، إطلاقا...يرمز ذلك إلى كرم أهل القرية كما يشير إلى أن قاطنيه لا يزالون أحياء يرزقون، لم يضطرهم السفر او الموت إلى إغلاقه ...ولجته دون استئذان، إلى أن وصلت المطبخ... وجدت أمها جالسة القرفصاء تحاصر مائدة يتوسطها حساء بيصار، على جانبيه حبات فلفل و نصف بصلة و خبزة خشنة الملمس ، تبدو على وجهها كريات صغيرة بيضاء و أخرى سوداء نال منها الجمر، وشيء من نخالة الشعير واضحة للعيان تنويع الاختيارات أبقت نعلها غير بعيد عن يمينها تهدد به أبناءها الأربعة إن هم لم يلتزموا الصمت و الأدب أثناء تناول وجبتهم المفضلة...لم تكلف نفسها عناء الوقوف لتقبيل ابنتها العائدة من رحلتها محملة بعد غياب..لفت انتباهها الظل الذي تسلل إلى البيت فرأت جسدها النحيف يحجب بعض النور عنها...وقفت كعلامة التعجب تملا فراغ الباب المفتوحة...تبسمت الأم ،ثم تحررت صرخة من بين شفتيها بنتي ...؟ جيت ؟ ... أمرتها بالجلوس إلى الطاولة...تقدمت سناء منهكة لا شهية لها إلى الأكل ،قبلت رأس أمها عند اليافوخ وفوق الناصية،انحنت إلى يدها فقبلتها ثم أودعت بها ثروتها البسيطة ...مررت بيدها على رؤوس إخوتها ثم ارتمت على لحاف عند الركن الأيمن ....أدلت الأم المبلغ بين نهديها في خفة ثم حركت بسرعة نفس اليد إلى كسرة خبز الشعير... كلما انحسر شعرها جرت سبنيتها إلى الناصية ثم تابعت الأكل في شره ...لا شيء يمنعها ...حتى الفرحة بعودة ابنتها...رددت جملة غير مفهومة...أدركت أن الطعام يمنعها من الكلام ...ازدردت لقمتها بسرعة لتصحح قولتها الله برضي عليك ابنتي ... الله يرضي عليك انتظرت بضع دقائق حتى يفرغ الكل من الأكل... وزعت المهام على أبناءها، كل بمهمته...تطوعت سناء لرعي الغنم بمروج محيطة بالبيت ...مهمة سهلة...اتخذتها استراحة ...جلست تمتع النظر في أسراب الطيور المهاجرة ..يفتنها ما يتنقل منها بين الأمكنة في انسياب كأنها تتحرك على أنغام الموسيقى، أو تلك المجموعات التي تشق سماءها في سرعة مهاجرة إلى مكان آخر... كانت الصور تتهافت بمخيلتها تلفها كريح العواصف الهوجاء...تلسع دواخلها كاللهب ... تحاول ترتيبها في كلمات عسى أن يحظى طلبها بالموافقة ويطرق ساحر البيوت كوخها فيغيره...لم تكن تحلم بكل ما رأت عينها بالمدينة ...لم تكن تتمنى السرير بدل الحصير ...سقف بيتها من قصب ...ركن بيتها من تراب و حجر ...سلامة أهلها في كل سنة أن لا تجد قطرة الماء منفذا إلى السور فينهار....أن لا يتشبع الجبل بمستويات مبالغ فيها من الماء فيرمي السيل بالكل إلى السفح...حدث ذلك أمام عينيها مرات عديدة...عندما يغضب الجبل على الفقير فيصبح كمثن فرس جامح يصعب على الفرسان ترويضه ، يرمي بمن لا يملك حيلة إلى الأرض و يرفسه...هذا ما دفعها إلى الحلم ...لا تطلب الحرير، إنما أعمدة تدعم سقف بيتها المتهرئ كي تنام كغيرها قريرة العين...تمنت لو خلقها الرحمان طائرا...سعيد في بساطته ...يمر على الذهب و الفضة و الجواهر دون أن يحلم بشيء...رغم انه يستطيع السرقة...لكنه يعلم أن القلائد تمنعه التحليق و تبقيه حبيس الأرض...لذلك فضل الحرية بلا قيود و لا أثقال ليصل متى شاء السماء...هي له الملجأ إن حاول الأطفال اصطياده وكذلك فضاء المتعة بامتياز..لكن سناء لا تملك أجنحة ... حرمتها الطبيعة حقوقها على الأرض و حتى في السماء...لم يبق لها غير الأحلام ...أن ترتب بضع حروف في جمل عسى أن يوصلها البريد إلى الساحر الذي يؤثث البيوت مجانا ...وضعت ورقة بيضاء وعليها قلم ثم بسطت يدها قائلة ... = غدا اكتب الرسالة في كل ليلة كانت تحلم وتنام على وعد تقطعه على نفسها. ..كانت المسافة بين القرار و الحلم اكبر بكثير من تلك التي تفصل النجوم عن الثرى...عند كل صباح، تذكر نفسها بواجب الكتابة مساء، وفي المساء تضع الورقة نصب عينيها لتكتب... إلا أن الكلمات تستعصي عليها في كل محاولة... يبقى اليراع شاردا على الصفحة العذراء مخنوقا بين الأنامل المحبطة....لم تستطع مقاومة ما بداخلها من رغبات في التغيير ...صور تتناثر في فضاء الذاكرة كصلوات الفاقد كل شيء حينما يطلب من الله العوض في الجنة....حينما يحلم الميت على الأرض بالحور العين و الأرائك المصفوفة و الزرابي المبثوثة وانهار اللبن و الخمر و العسل ...مراسلة البرنامج التلفزي خيط يرفعها من واقعها المزري...تساءلت أي شيء يبقى لها على وجه البسيطة إن فقدت حتى الحق في الحلم... غدا سأكتب... حتما ...أكيد إن لم اكتب هذا المساء وجب علي التخلص من الحلم لا بد من التحرر ...هذه الدوامة تصيبني بالغثيان تناست تماما أن العمر بيد الخالق، يبعث ملاكه لينتزع الروح بإذنه أنى شاء ...نزل تلك الليلة الظلماء من علياء السماء مع ريح جرت بما لم تشته سناء ...كانت رياح غاضبة فوق العادة وعلى الرؤوس صيب فيه ظلمات ورعد و برق ... لم يكفها العصف بالأحلام و الأفكار، تمادت عند العتمة إلى الأحجار، تسلل ضياء النهار عبر الغيوم ليكشف حجم الكارثة، أصبح البيت كالعصف المأكول، تناسلت الصور من رحم الذهول...هرول من بقي حيا من الجيران إلى البيت المنهار ...بكى الكل و هم يجرفون التراب...وجدوا تحت الأنقاض رجلا و امرأة متعانقين...الوالدين...وعلى بعد أدرع صبية بيدها القلم... أربع جثث متراصة تحت غطاء واحد...أما الورقة فلا أحد اهتم بها ...أطنان التراب على السقف جعلت البيت ردما، لم تتحمل ثقلها أعواد القصب ...الرسالة كتبت، لكن أنامل القدر في التصرف أبدعت... لم توصلها إلى برنامج دار و ديكور ....لم يعد للغار المحفور عنوانا...سواعد الجيران كانت أرحم بالجثث...إذ أوصلتها القبور...