في تلك الليلة من ليالي صيف سنة 2006 الفريدة، كانت الحرارة شديدة السلطان على الأبدان. ألسنة لهيبها تلتهم، بدون شفقة، الأجسام ولو استقرت في الأعطان. أشعة الشمس الساطعة تكاد تخطف الأبصار. جحيم الشوم يكتنف بهيئته القيامية كتل الضباب الكثيف المتموج في عنان السماء كأسراب الطيور المهاجرة على مدى أفق جزيرة سردانية ، وأنواء فضاءاتها في مثل هذه الأوقات من السنة. جزيرة تطفو راقصة في المياه الشفيفة للبحر الأبيض المتوسط. يضمها إلى صدره برفق كما يضم القرين قرينته في معجم لعبة الإيقاع في الثلج الماسي أو الحبيب المتيم عشيقته الحسناء في شعاب مجرة الألوان المرجانية. تخاصرها جزيرة قرشقة ( كورسيكا) عناقا وتمخر عباب شقيقتها صقلية بحرا. تمتزج منزلتها الجغرافية بمسار قدرها الذي يوطن مصيرها بين التاريخ والأسطورة، الواقع والخيال، العقل والجنون، نثر الحياة وشعرية الأهواء. اسمها جرى على الألسن وصهوة الأعراق، تداوله الساردوس في أقنعة البطولات الإلهية، ونسج الهكسوس منه قصصا خرافية الطراز، وأصر السانديليون أن يظل عقب أقدامهم موشوما على الثرى في خزائن المأثور من الأقوال. وكان من الطبيعي أن تقفو مدنها وقراها هذا النهج في رسم أسمائها تيمنا بالأسطورة والحكاية، ومناقب البطولة وملاحم الفتح، كمدينة أولبيا، في الشمال الشرقي، التي ورثت عن أسلافها الإغريق فرض الكفاية في القيام والتأسيس، المعمار ونمط الحياة، كان من نتيجته أن اتسم كيانها بالجمع بين العتاقة والحداثة في أسلوب الوجود. وعلى هذا المقتضى، يعرف الداني والقاصي جزيرة سردانية بما تحفل به موائدها من أصناف الطعام والشراب، وبما تمده به خيراتها بكل ما لذ وطاب، وما ظهر من أخبار وخفي من أسرار، وما تشاكل من كائنات واختلف من نبات، وما ترسخ من تقاليد وتترب من عادات. جزيرة طبقات ترابها تبرهن بالبينة الواضحة على من تعاقب من الأقوام وانقرض من القبائل، فينيق ورومان، قرطاج وعرب، عجم وبربر، وما شابههم من القبيل ممن عمر من الممالك وأفنى، أقبل وأدبر، بذر السلم وجنى الحرب، أهلك الزرع وامتص الضرع، أتى منفردا على اليابس وبالجمع على الرطب، سقى بالدم العظام وهي رميم في جنة تطفح بالنعيم العميم. ومع تعاور عوامل هذا التاريخ الغميس، ظلت الأرض شاهدة على شموخ الجمال وتمام الكمال وفرط الاستواء في تكوين البشر ونحت الحجر، في تناغم عناصر الطبيعة وهارمونية أنوار البحر المضيئة. في ما ترسمه الصخور وتعرضه الجزر من أشكال وألوان ومساحات بدقة فنية متناهية : Costa smeralda Maddalena Porto cervo Golfo aranci Baia sardegna Porto rotondo Tavolara والباقي أعظم... شواطئ ومقامات لا يحصيها العد ولا يقدر على جمعها حساب العقد أو حساب الهند. ترتادها الأجساد، المقيمة والظاعنة، أنى وجدت على بساط الجزيرة المخملي. شواطئ من جنس المتشابهات وما هي بالمتشابه. منتجعات آية في الإحكام تستعصي على التأويل والمحاكاة. منتزهات بالجملة والقلة في كل بقعة من البقاع التي إليها تنشد النفس. مرافئ ومراسي تؤثثها القوارب واليخوت والسفن الراسية والرائحة في أبهى صورها التي تسر الناظر. موسيقى تشنف الأسماع ليل نهار. رقص بلوينات الجوهرة المتلألئة واسطة عقد قلادة يوشى بها صدر خود كريم. صناجة ودف على جهة استدعاء القلب واستمالة السمع والبصر. أبنية قرميدية تتسلل خفافا بين الخلال الظليلة لأشجار السرو والصنوبر.الأنوار المشعة من أغوار البحار الزمردية. السهول المستوية تخترقها الطرق انبساطا والتواء. الجبال الشاهقة والخفيضة تحنو بعطف وسخاء حاتمي على أسافل ممشى الخلق. خوط الآس تخطو الهوينى مجردة إلا من وريقات التوت اللفيف الخفيف.اللطف والنبل،العذوبة والرقة، وما به تفتك العيون الخلب. الطيب والظل وغوطة الخضرة الفيحاء من نسغ الشجر وعرق البشر. جنان الله على الأرض. بالقوة وبالفعل. تعج بها الجزيرة وترشح. تملأ الرحب وترادف السحر وكيميائه بل وتسمو عليه درجات معتبرات في قوة ملكة البيان وطيف البوح،وجسارة الفتنة وبهاء الإغراء وغواية النفس. عامرة في كل الأزمان وأحايين العمر بمن حل من كل صوب وحدب، بالحجيج الذي يؤمها من كل فج عميق. لوحة فنية في منتهى الإبداع والإمساك بأسباب الصنعة وأسرارها التي لا يضاهيها في التمثيل إلا عبقرية فنانيها العظام الذين ذاع صيتهم واشتهر في الأعصر والأحقاب. وجهها البلوري الكريسطالي الصبوح وجاذبيتها اللامرئية تدب، بدون استئذان، في مباهج الروح وثنايا المفاصل دبيب الخمر وتمشيها في العظام، تسري في رحم الأجساد سريان حركة النار. جنان جعلت حقيقة لتربية النفوس وصقل الحواس وتغذية العقول التي تؤمل أن يجنح بها الخيال في مملكة الليل قبل جمهورية النهار. = = = = أفرغنا القلب من الليالي للخبر المشؤوم. بدا المذيع في القناة وهو يعلن خبر الوفاة متأثرا.نزل النبأ الحزين كالصاعقة في سردانية ونادى غراب البين: الحاقة ما الحاقة. كيف لا ونحن نفقد زمردة سلك الحجر النفيس. اللؤلؤة التي تضيء من بعيد. قال المذيع: دارة القمر ركبت البحر هولا في يوم باحوري من السنة الجارية. بحرت ففرقت فدهشت فغرقت. أفعال متتالية كانت كافية لإحلال الموت بدل الحياة. سردانية في سواد. أطفأت أنوار مصابيحها حدادا. الدمع في العين استعر واستغرب. حبر الدواة جف. يا للفجيعة كيف جعلت من ماء البحر قرارا؟ هل ضاقت بها الأرض؟ من قال: ألقوها في اليم وهي في نشوة العمر تسعى؟ ألم تعلم أن ماء البحر ملح أجاج؟ وصاحبتها أين كانت؟ وصديقها الذي يعزها لماذا تركها كالغزالة وحيدة تجتاز البحر؟ وهي، ألم تقرأ في اللوح المحفوظ أن قوم يأجوج ومأجوج هم من يشرب ماء البحر وأنها لم تكن من قبيلهم؟ من زين لها فكرة اللعب مع الماء في هذا المكان الوعر؟ من دفعها دفعا إلى قعر البحر ولجته؟ من وضع غشاوة على عينيها الكحليتين؟ ألم تلثم تراب الأرض عبقا ونسيم الهواء طيبا؟. يا إلهي، قل لي بربك: الخطأ خطأ من؟ خطأ الحواس أم خطأ الوهم أم خطأ الرأي؟ من أصدق وأي صدق؟ صدق الحس أم صدق الخيال أم صدق الفكر؟ قل لي قبل أن أجن: لم زاحمت فاطمة البحر؟ هل كان دمها بحرانيا حتى تلقي بنفسها في يم الردى؟ أجبني برب الكعبة إن قلبي يكاد ينفطر خذلانا وحسرات، يقطر غما وهما. روحي على وشك أن تزهق. بدني يعتريه التعب والوهن.نفسي تتجرع مرارة الألم جرعة جرعة. لماذا رحلت إلى حيث قصدت، ولم ترحل إلى حيث كان يجب أن تصل؟ هل اختلفت السبل وتفاوتت الطرق وانعرجت فجاج القلب؟ لماذا لم تستطع أن تكون ملكة بر المغرب والبحر؟ ما الذي حال دون تحقيق الغاية؟ وما بالسماء من نجوم الأنوار وأجرام الاهتداء، ومن شمس جليلة الهالة، أو لم يكن بمقدورها رد عبث الأقدار؟ هل لا يزال معنى الموت محجوبا لم تكشف عنه العبارة خطابا أم قضي الأمر في ظلل من الغمام؟ ألم تتعاط لغة الكلام ورقصة الجسد وسحر الصورة في نزهة الدم بين ريش المهد وصمت اللحد؟ يا حسرتي تبا لي لم نوثق نص الإيلاف عن السفر والمتاع وميثاق الخلة لأن الشمس التي وثقنا بها أظلمت في كبد السماء ورمتنا فراقا من بحر إلى بحر. أين مطالب ذوي الهمم بعد أن دنا منا الليل البهيم، وجثا بثقله على مكنون المحبة وانفض شمل الخلطة وانفرطت حبات اللمة وانقطع حبل الوصال. ألم يكن منطقك، أيتها اليمامة، منطق الطير؟ والطيور على أشكالها تقع. لم يكن لك من ولي ونصير إلا الله ونفسك وقرار المصير. أو لم ينطق لسانك بلسان زكريا: « رب لا تذرني فردا «. وأنت جماع البحور. فيك المديد والبسيط، الطويل والمتقارب، المتدارك والوافر، الرجز والهزج..فغشيك البحر العظيم وما أنت إلا البحر. ظل معناك ظاهرا يلوح وصوتك بائنا يصيح. على من يصيح يا درة الأطلس التي قضت سيرة الأيام على سوم طبيعتها. هي أيام تخون... أزمان تنقص...» لكل شيء إذا ما تم نقصان». دهر يفجع... فمن يقيم للخلان، بعد اليوم، الأرض فراشا ويضرب القبة الخضراء في السماء غطاء بعد طول الترك واجتماع الماء الذي غمر جسدك الغض؟ من يهدهد شغبنا الطفولي عند الانشراح والمزاح: « ويلي يشويني فيك آ الطايع»؟ من يأخذنا بالمناقلة والمكاتبة والمهاتفة والمفاكهة والعز في العشرة، حين تميد بنا الأرض وتنقلب السماء ويعيل صبر الحال ويستبد بنا حنين الإلف إلى إلفه وتتفتح العيون عميقا وتتعطر المنازل التي إليها نسكن بالرياحين وفاكهة الكروم؟ وعشاء رأس السنة في مطعم أكنول، من يحجز مكانه؟ والشراب الرقيق والمزاج الرائق في رباط الفتح ومكناسة الزيتون، من يسوس خيله ويسم غرة نواصيها؟ ودكارات فاس، من يرتل أذكارها ويحيي يباب حناجرها؟ والليالي الألف في قصر الرشيد على ضفتي النهر وقطرات الماء المنحدرة قطرة قطرة في شاطئ الرميلات الجميل ودار الجماعة بواد غير ذي زرع واللقاء الأول وشدو أغنية « بلدي المحبوب» على إيقاع محرك السيارة البرتقالية التي لا تكف عن المسير والرحيل. بروكسيل، أديلايد، بنسلفانيا، القارات والمدائن التي سقطت سهوا من خارطة تاريخ العبر. ما قيل من المبتدأ إلى الخبر: « من القلب إلى القلب» من صد وجهك أن تتخذي من الطائرة بيتا؟ ومداولات السقيفة السرية على مشارف فندق المحيط، من يشيع خبرها؟ وملاءة جدنا ابن مازغ، من يعتق الأيادي التي حاكت خيوطها أو ينقض غزلها في الغسق والشفق؟ وشعبة اللغة العربية، بأي لسان مبين تخاطب أهل الملل والنحل؟ من يقرأ سيمياء الأهواء في العرض والنص والأشياء؟ تعطلت لغة الحاسوب، الأيقونات « تسائل ما أصم عن السؤال؟» ما المجاز بين النبيذ والهنود الحمر في ربائد أرشيف رعاة البقر؟ القبائل المغيرة، الأغراب المستجيرة. من يؤنس وحشة الحوريات في عتمة الهجر وبسطة الدفق؟ سل أسوار سلا وطريق الإقامة: أين أهلها؟ على غفلة من فؤادك، يأتيك الجواب معتلا موجعا ديار عف رسمها فربعها، شط بالوجد مزارها فمقامها وبقيت لوحدك، كما ولدتك أمك، لليتم طائعا. يا جزعي على غيبتك التي لا شفيع لها « النفس من فقدها حرى مولهة « كم تملكتنا وحشة العيان، وتغنى الماتح فيك خببا والغائر رجزا أيتها النحل العسالة.» بها عسل، طابت يدا من يشورها» التبس علينا الضحك بالبكاء، التبسم بالقطوب، القبض بالبسط، وأصبح التوهم إلى الحقيقة أقرب وأسرع. هل الكأس التي في يدك أبهى وأجمل أم القلم؟ شمس الخريف أم شمس الربيع؟ القبلة الندية أم الطلل الباكي؟ من أين لك بالماء حين تظمئين؟ ما ء الصحاري من النبع الواطد الأصيل هزي إليك بجذع شجرة الأركانة يأتيك ثمرها جنيا لطيفا « هل ما أرى تارك للعين إنسانا؟» بأي لغة نجيب ساعة تصرف إليك الإشارة؟ - الظرف والأنس - المشاكلة والتحاب - أسطقسات التراب والماء والنار - اللطائف الخفية - الحلية والتفاريق - الجملة الفصل في الجدل والخطابة والزجل - الطينة الحرة يجري في عروقها ماء الحياة - الطبع والعادة سيان - النصبة والركح والصورة - الترحال ولزوم المرعى الخصب في المكان. هوى بحر « الصخيرات» نعشا: فاض القلب في الهوية العمياء، امتزج الغرق بالقتل على مرأى ومسمع ذرات الرمل سقيا لك أيها الزمن المغربي الأجدب تنفس الصبح جثة هامدة فمن يستوقد بعدك النار في الحر والقر؟ وأنى يكون لقاح الزهر: بالتشبيب أم بالفطام الجمر؟ صرير الباب وصوت علبة الرسائل الرخيم تبددا،إلى الأبد، في سماء الغياب منزلك الزجاجي،أهون من بيت العنكبوت، رذاذا تهشم على هدير الصخر لواء شاهدتك يرفرف منتصبا بين شالة والتل، المنحدر والبحر قضت الغريبة في هذا القبر قضاء الشهداء الغرباء في كل عصر لا ريب في حجة الوداع سلاما فاطمة أبد الدهر.