يبدو أنه لم يعد بإمكاننا التطلع إلى تغيير حقيقي يضمن دخول المغرب فعلا نادي الدول الديموقراطية، بالمعنى الوحيد الصحيح لهذا المصطلح، أي دون تدنيسه بمساحيق “الخصوصية” أو “الاستثناء” اللذين أصبحا في حالتنا المغربية مرادفين ل”الشذوذ عن القاعدة” بسبب الاختراع المتواصل لمفاهيم لا يمكنها أن تتعايش مع المعايير الكونية للديموقراطية. لست هنا أبالغ أو أتجنى، بل إن كل المؤشرات على الساحة أصبحت توحي بوجود إصرار حقيقي على ألا يربط المغرب عربته بقاطرة الديموقراطية، مع الاستمرار فقط في الدعاية والادعاء. ولعل أبرز شاهد على ذلك، نوعية السجال الدائر في الآونة الأخيرة بين من يعتبرون أنفسهم نخبا، وأصحاب رؤية سياسية، بل ونخبا قيادية هادية للرأي العام. لقد اعتقدنا -أو كثير منا على الأقل- في لحظة من اللحظات التي تلت تدشين “مسلسل” الانتقال الديموقراطي -وكل شيء عندنا مسلسلات- أن حالة “الانفلات” الصحفي التي بلغتها بعض المنابر المستقلة، قد تقود إلى “تهذيب” القاموس، و”تشذيب” الأقلام، بما أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى يقتضي حدوث بعض الانزلاقات، لكن بكل أسف كل ما حصدناه بعد أكثر من 15 سنة من الحرب على “الطابوهات”، هو مزيد من الإسفاف، وتأكيد جديد على أن “النخب” عندنا عاجزة عن الإمساك بزمام الأمور وعن رسم المعالم والإشارات الضرورية على هوامش طريق الانتقال من مرحلة إلى أخرى. لقد كنا أمام سجالات بلا سقف، بدعوى هدم “الطابوهات”، فأصبحنا أمام تخاريف بلا قعر بما أن فاقد الشيء لا يعطيه، والناس عندنا لا يبحثون عن الأرضيات المشتركة ولا عن النقاش العلمي، بل عن تبادل اللكمات بالكلمات.. إن الخلاصة التي يمكن أن تخرج بها أية قراءة موضوعية لما حدث خلال الجزء المنصرم مما سمي “انتقالا” ديموقراطيا، تتمثل في غياب رؤية واضحة لدى من يُضفون على أنفسهم كل الأوصاف العلمية، فهم محللون وباحثون وخبراء ومثقفون ومنظرون...ومفكرون..وهلم جرا إلى ما لا نهاية.. إن من يجول اليوم على المواقع الإلكترونية التي تنشر “سجالات” بين أطراف مختلفة تكون المشهد السياسي و”الفكري” في المغرب، يمكنه الإقرار بأن أمامنا مسيرة طويلة جدا -لم تنطلق بعد عكس ما يشاع ويذاع- إذا نحن أردنا فعلاً، اللحاق بركب الدول التي أدركت مبكرا أن أقصر الطرق نحو الديموقراطية هو الخط المستقيم دائما. وحتى لا نغرق في العموميات، دعونا نأخذ مثالين فقط مما نشر مؤخرا، دون الإشارة إلى أسماء الموقعين، لأني هنا أناقش أفكارا وليس أشخاص. ففي مقال نشر مؤخرا، حول التطلعات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، أقر شخصياً، بأنني قرأت هذا المقال أكثر من مرة وعجزت عن تحصيل فكرته الأساسية، ربما لأنه كتب أصلا دون أن تكون له فكرة محورية، إلى درجة أنه تضمن نقطتين تطرحان أكثر من علامة استفهام: الأولى قول الكاتب:”هناك هوة سحيقة بين الصورة التي يريد تسويقها -أي البي جي دي- بخصوص أعضائه على أنهم ملتزمون وحريصون على أداء الصلوات في المساجد والصيام أيام الاثنين والخميس وغاضون لأبصارهم وجادون في أعمالهم، وبين ما يتصفون به فعلا وحقيقة من انتهازية وأنانية وحب للظهور وتسابق على المناصب دون استحقاق..”.. الثانية:”إلى حين الوقوف على النتائج الميدانية، نقول .. سنرى ما هي قادرة على فعله القوى الديمقراطية تجاه هذا الخطر الداهم المحدق بالبلاد”. إن المشكلة الحقيقية هنا تكمن في أن من وجدوا نفسهم فجأة، و”بفعل فاعل” تحت الأضواء، عجزوا عن “الإبداع”، واكتفوا بإطلاق الفقاعات. إن هذا النوع من السجالات السياسية، التي قدمت نموذجا لها أعلاه توحي بأننا لم نصل مرحلة الرشد بعد، وأن البعض توهم أنه صار فعلا في موقع يؤهله ليس فقط لمحاكمة النوايا، بل لمصادرة حق المواطن في الاختيار. هل هناك في فرنسا ما يمنع من حصول اليمين المتطرف على الأغلبية؟ هل هناك من يشك في حجم الخطر الذي قد يحمله سيناريو من هذا النوع؟ لكن هل هناك من يهدد ويتوعد بالانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع في حال حقق آل لوبين أحلامهم؟ إن مشكلة بعض من تقطعت بهم السبل في صحراء الإيديولوجيا، تكمن في النظرة الاستعلائية التي يتعاملون بها مع الشعب، وفي الأبوية التي يمارسونها على اختياراته. والعجيب أن صفحات التاريخ التي تكتب اليوم في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لا تحتاج إلى ذكاء خارق لتحليل أبعادها. ففي هذه الدول كلها لا وجود لا ليسار ولا ليمين ولا للبراليين ولا لاشتراكيين، بل فقط ل”الأصوليين” من جهة، وزعماء القبائل من جهة أخرى.. بل ينبغي أن نستحضر اليوم أن الأكثر ضجيجا وتباكيا على الديموقراطية في البلدان التي سقطت أنظمتها الديكتاتورية، هم أولئك الذين لا يجدون حتى من يرد عليهم التحية في الشارع، ويختفون وراء صفة “المستقلين” لممارسة الوصاية على الشعب ومصادرة حقه في الاختيار الحر، مع أن الديموقراطية في جميع الأحوال هي عملية حسابية في مختلف مراحلها، من نتائج الاقتراع إل عدد المقاعد في البرلمان.