بهيجة البقالي القاسمي من الكلمة ينبع اللون. و من اللون تشرق الكلمة. يتبدى اللون كلمة حين يتعاطاه المبدع من أفقه الهادر. و تتجلى الكلمة لوناً إذا رسمها شاعر من دواخله. هذا ما وجدتني أردده و أنا أتصفح ديوان المبدع عبد العزيز الزروالي "π"، الذي يمثل تجربة شعرية و بصرية تمتح من بياض القصيدة و ألوان اللوحة. و تمزج بين ضوء البصر و ظل الكلم. و تنتج مفارقة إبداعية بين هدوء الأبيض و جيشان الأسود. الديوان تجربة ثنائية بين المبدع عبد العزيز الزروالي و الفنان محمد قنيبو. يلتقيان عند ضفاف الكلام و في أقاصي الألوان. كلاهما يستمد دواخله ليعبر عن هذا المشترك الجميل. أحيانا يصبح المبدع الزروالي رساماً يؤثث ألوان القصيدة بأشياء ووجوه من الذاكرة. و أحياناً يتحول الفنان قنيبو إلى شاعر يجمع أصداف الكلمات ليصنع اللوحة/القصيدة، أو القصيدة/اللوحة. إنه التكامل من يضيء في هذا الديوان. ليس ثمة تجربة شعرية في مواجهة تجربة تشكيلية. بل تجربة واحدة يتقاسمها الشاعر مع الفنان. تجربة موغلة في اللون وراسخة في القول. هنا تكمن قوة الديوان و أفقه الإبداعي الرحب. يبدو لي أن مقاربة هذا العمل الإبداعي الجميل يمكن أن تتم عبر ملمحين إثنين: الأول: علاقة القصيدة باللوحة/اللون بالكلمة. الثاني: علاقة الشاعر بالفنان/المعنى بالصورة. 1- علاقة القصيدة باللوحة: جل قصائد الديوان تنحو منحى تصويريا في تجسيد معانيها وإيصال صورها الشعرية البهية .في هذا الجانب تلتقي القصيدة باللوحة .لأن الفنان محمد قنيبو يسير بلونه مسرى الكلمة .فيندهش المتلقي من هذا التكامل بين شاعر يصور المعنى ورسام يرسم الصورة . في ظل هذا التوافق بين الكلمة واللون ، ينتاب المتلقي الإحساس بأنه إزاء ثراء في مضمون الحرف وأبهاء في مضمون اللون .يقظة الحرف ليست سباتا للون.كلاهما يقظ وبارع في الإدهاش والإثراء . في مجمل القصائد، كما في مجمل اللوحات، تنبني العلاقة بين القصيدة و اللوحة أفقيا عبر الخط و الحرف .وعموديا بواسطة اللون و المعنى .إنها علاقة تحفر عميقا في النفس والروح .فينتج عنها ذاك النص المَوار بالأخيلة البديعة وذاك الرسم المكتظ بالرؤية الراسخة . الزروالي/قنيبو تجربة ساطعة تأخذ من القصيدة ألقها الماورائي. وتأخذ من اللوحة ومضُها الرؤيوي . إن هذه التجربة تحيلنا على تجربة مماثلة لحسن نجمي ومحمد القاسمي .غير أن تجربة الزروالي / قنيبو مغايرة وتمتح من ينابيع فياضة.وما يتيح لهذه العلاقة هذا الأفق الرحب هو ذاك التجانس في تصفيف القصائد و اللوحات.بحيث يبدو وكأن المبدع واحد لا إثنين يتقمص شخصية الشاعر فيكتب .ويرتدي بزة الرسام فيرسم. 2-علاقة الشاعر بالفنان: اللوحة تخاطب الحرف و الحرف يغازل اللون.يفعلان ذلك في صمت ناطق.و القصيدة شاهدة على هذا اللقاء واللوحة تبارك هذا الامتزاج. اللوحة تطل على عوالم داخلية مشبوبة فنقرأ ما تيسر من شعر يانع .ونقف عند كلمات في مدها وجزرها بين ألوانها ومعانيها .ثمة ألوانٌ غامقة تشي بسواد اللحظة في حين يحرسها بياض القصيدة. إنه توازن بهي بين تشاؤم يفرضه اللون ليعبر عما وراء القصيدة. و تفاؤل يفرضه الحرف ليجسد مفارقات تختبئ فيها أسرار التواطؤ بين ذاتين: ذات الشاعر المرسوم بدهشة الخطوط و الظلال، وذات الرسام الممهور برونق الكلمات والدلالات. علاقة الشاعر بالفنان : سواد في محيط أبيض .أبيض يتلألأ في محيط أسود. وباقي الألوان الفاتحة تتكفل القصيدة بخلخلة توازنها ليصبح الحرف الصوفي هو النجاة من تيه هذا وترحال ذاك. إن ذات الشاعر المنشطرة في الكلمة هي نفس ذات الرسام الملوحة بالسفر داخل اللون. منهما تأتي عجلة القصيدة ودوران اللوحة. إنه تيه دائري . وها هي ذي الساعة تلاحق الكلمة و يلاحقها اللون .إنها ساعة مجهولة تنبع من دواخلنا؟ من خارجنا؟ . ثمة في هذه العلاقة التي أنجبت لنا هذا الديوان الرائع الكثير من المهارة في بناء القصيدة عند المبدع عبد العزيز الزروالي. و الكثير من المهارة في تأسيس اللوحة عند الفنان محمد قنيبو. 3- خاصيات المبدع وسيماء الفنان:
يتميز الشاعر عبد العزيز الزروالي بعدة خصائص إبداعية، منها قدرته على استبطان الأعماق الخفية وإدراجها في أبهاء القصيدة. ومهارتُه في خلق الشعر في الأشياء الاعتيادية (دولاب.ساعة.ثلاجة...) ، وغزارة معانيه في قلة حروفه. عبد العزيز الزروالي يتعاطى القصيدة من مفتتح توالدها في دواخله، وحين يرسمها على الورق تنثال دلالاتها لتبرهن على شاعريته وتدفقه الإبداعي .أما الفنان محمد قنيبو فهو يغمس ألوانه في قوس قزح الذات .فتأتي محملة بما يبهر العينَ ويسبي التلقي . محمد قنيبو ماهر في مزج الألوان واستخراج لبابها .و الوجوه التي يرسمها باللون القاتم هي معادل لألوانه الفاتحة.نفس الرؤية تبدأ في أول الدائرة وتنتهي عند آخر أقاصي حلمه الفني. 4-يسار القصيدة ويمين اللوحة: في تجربة ديوان " π " ثمة تجاور جميل ومنتج وإبداعي بين يسار القصيدة ويمين اللوحة. قصيدة الزروالي تتوالد في رؤية يسارية يحرسها الموقف من الحياة و العالم.إنها كتابة عالمة تقول نفسها عبر خطاب فني وازن وملتحم و عضوي. ولوحة قنيبو تمارس أشكالها الفاتنة في إطار يمين اليسار، عبر قدرة الفنان على الكشف عن مواقفه الرافضة لهشاشة الكائنات والأشياء. إن ديوان " π" مرآة تنعكس عليها القصيدة وتضيء فيها اللوحة .تتناسل المعاني هنا فنا وإبداعا، والحصيلة تجربة رائعة و مميزة. إن الثنائي الرائع الزروالي/ قنيبو يصرخ فينا قائلا: - من قال إن اللون ليس حرفا مرسوما....؟ - من قال إن الحرف ليس لونا مكتوبا...؟