إن الذي حدا بالصهيونية إلى جمع شتات اليهود ليس التعبد ولاالوصايا الدينية و لكن التخطيط لتفكيك السلطنة العثمانية و منع قيام وحدة عربية على أسس شعبية و ديمقراطية ،والاستفادة من ثرواتها المتنوعة ،من هدا المنطلق يستقيم فهم تاريخ الحركة الصهيونية بعلاقة وثيقة مع التحولات البنيوية التي شهدتها حركة الرساميل الأوربية منذ ق 19. الصهيونية تجعل الكاتبة "ريجينا الشريف" في كتابها "الصهيونية اللايهودية" ولادة الحركة الصهيونية متزامنة مع ولادة الرأسمالية الأوربية أي قبل ثلاثة قرون من مؤتمر "بال" الشهير، وأردفت أن جماهير المسيحية رعت هذه الولادة قبل جماهير اليهود، فانتعشت الإيديولوجية الصهيونية على أنقاض تداعي الرجل المريض، و تحول القوميتين الأوربيتين فرنسا و بريطانيا إلى دولتين إمبرياليتين. لم يساهم الفكر الأسطوري الصهيوني وحده في جمع شتات اليهود الصهاينة و تماسكهم العاطفي، بل نجد إلى جانب هذا الفكر توظيف قادة الإمبريالية الأوربية الرؤى التوراتيةحول عودة المسيح المرتقبة في إطار مشروع سياسي استعماري والذي لاقى تجاوبا كبيرا من الأوساط المسيحية خاصة البروتستانتية. في كتابه "عن اليهود و أكاذيبهم" يقول "مارتن لوتر" المصلح الشهير من الذي يمنع اليهود من العودة إلى بلادهم في المنطقة اليهودية؟ لا أحد طبعا و علينا تزويدهم بكل ما يحتاجون إليه في رحلتهم حتى نتخلص منهم إنهم عبئ ثقيل علينا و شؤم على وجودنا، كذلك لا تخفى الصلة الوثيقة بين حملة "نابليون بونابرت" إلى مصر ونداءاته المتكررة لليهود حتى يتجمعوا تحت غمرته ليستعيدوا مجدهم القديم. أولم يقدم الصهاينة طلبا لاستعمار فلسطين للملك عبد العزيز آل سعود مقابل 20 مليون جنيه ذهبا بواسطة الرئيس روزفلت 1945؟. هذا غيض من فيض لمدى اندغام الصهيونية بالإمبريالية كعلاقة الخيط بالإبرة في عملية الخياطة و للتدليل أكثر لدعاة التطبيع أنه رشحت وثائق النازية ومحاكمات نومبرغ على تواطؤ تام بين قادة الصهاينة والزعماء النازيين والفاشيين لتنظيم مذابح جماعية ضد اليهود بهدف تهجيرهم إلى أرض ما يسمى أرض الميعاد. اعتادت التيارات القومية والإسلامية عدم التمييز بين اليهود والصهيونية، مما جعل الأخيرة تستفيد من هذا الخلط في استجلاب أكبر عدد من اليهود وصهينتهم. ولأن اليهودية انتماء ديني و الصهيونية حركة عنصرية استيطانية، فإن حركات متنورة من اليهود عارضت هذا المشروع الاستعماري فحركة"الهسكلاه"مثلا دعت إلى إلغاء القوانين الخاصة باليهود في المجتمعات الأوربية، منادية بدمجهم في الحياة العامة،فأقامت مجموعة من المدارس العصرية التي نشرت بين اليهود أفكار فلاسفة عصر الأنوار في أوربا. و قد ظهرت الحركة بين يهود أوربا في القرن 18 كحركة ثقافية اجتماعية لها نتائج مهمة على الصعيدين الديني والاجتماعي ممهدة بذلك للإصلاح الديني، لكن التآمر المحبوك بين زعماء الصهيونية والقيصر الروسي عجل بنهاية هده الحركة المتنورة والمعارضة أصلا لهجرة اليهود متهما إياها بالتآمر على روسياالقيصرية ودلك سنة 1881 ،ولعل الفتور الذي عرفته الإيديولوجية الصهيونية في القرن 19 يعود إلى أن اليهود المتنورين يؤكدون أنهم سيكونون كبش محرقة، وقد نشرت صحيفة هارتس الإسرائيلية في 30 ديسمبر1951 مقالا بعنوان"نحن وعاهرة الموانئ" جاء فيه إن إسرائيل قد تم تعيينها لتقوم بدور الحارس الذي يمكن الاعتماد عليه في معاقبةأية دولة أو عدة دول من جيرانها العرب الذين قد يتجاوز سلوكهم تجاه الغرب الحدود المسموح بها. نضيف فقط أن المساعدة السنوية للولايات المتحدةالأمريكيةلإسرائيل تصل إلى 3 بلايين دولار بمعدل ألف دولار لكل مواطن إسرائيلي فضلا عن الدعم الاستراتيجي لدرجة اعتبرها البعض الولاية 51 للولايات المتحدةالأمريكية. الصهيونية ومأزق الثقافة الدائم لم تفلح إسرائيل في تشكيل وحدة ثقافية حضارية رغم الضجيج الإعلامي حول امتلاكها القنبلة الذرية ومشاركتها في حرب النجوم،وربطها بشبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية والأقمار الصناعية المستندة إلى آخر مبتكرات العلم والتكنولوجيا ،وقد كان من شأن حل المسألة اليهودية الارتكاز على الأوهام التوارثية وأسطورة الشعب المختار ثم خدمة المصالح الامبريالية التي يلعب الرأسمال الضخم الذي يمتلكه اليهود دورا فاعلا فيها. ينطلق مأزق هده الثقافة من اعتبار خصوصيتها تكمن في أن اليهودية إثنية مميزة تنتسب إلى ثقافة مميزة،والحقيقة أن اليهودية دين وليست إثنية ثقافية لأن إنتاج المثقفين اليهود معروف في العالم كله عبر المجتمعات التي استقروا بها. إن هذه الثقافة بما هي انتماء إنساني وكعمق حضاري معدومة سواءعلى مستوى اللغة حيث كان اليهود قديما وحديثا يتكلمون بلغات البلدان التي قطنوها لأن اللغة العبرية المستحدثة ليست هي اللغةالقديمة،ولا يمكن أن تصبح لغة اليهود أينما وجدوا إلاإذاأجبر كل يهودي على تعلمها إلى جانب لغة البلد الذي يعيش فيه،وهي مسالة صعبة إذا مااستحضرنا أن الغالبيةالساحقة لليهود فقراء وأميون وشبه أميين وبالتالي غير قادرة على امتلاك لغتين دفعة واحدة.لذلك السبب ندرك بأن الإمبريالية استهدفت بالقمع الممنهج والمكثف المعارضة اليهودية الأوربية في القرن 19 الداعية إلى الاندماج والتحرر من الفيتوهات اليهودية ،بحيث عارض هؤلاء اليهود المتدينون والمتنورون مقولة اليهودية الإثنية بحجة أن اليهودية انتماء ديني وليست مجرد تراث تقافي ،كما عارضها اليهود الاندماجيون في أوروبا الغربية والولايات المتحدةالأمريكيةأما اليهود الشرقيون فأصروا على التشبث باللغة اليديشية.
هكذا حلت الحركة الصهيونية مأزق ثقافتها بمأزق أكثر تعقيدا حيث تعمق الاختلاف في إسرائيل بين ثقافة "الإشكناز" اليهود الغربيون المؤسسون لدولة إسرائيل من جهة وبين ثقافة "السفارديين" يهود الشرق الوافدين و يهود البلدان العربية وبلدان العالم الثالث من جهة ثانية،أمايهود"الفلاشا"فقد تشبثوا بلغتهم الأمهرية التي حفظت طقوسهم و تراثهم الديني في شرقي إفريقيا والتي لا تمت بصلة إلى اللغة العبرية القديمة أوالمستحدثة.إن الثقافة اليهودية سعت للعمل على وجود إبداع يهودي مستقل عن إبداع الأمم التي يعيش اليهود بين ظهرانيها،وهو افتراض تدحضه الشواهد التاريخية.
على إيقاع مأزق الثقافة اليهودية نستحضر الجانب القانوني المؤطر للعلاقات الثقافية بين بلدان المعمور،ولأن إسرائيل لا تقيم أي اعتبار لا للمحافل الدولية ،ولا للاتفاقيات والعهودفسنقتصر فقط على المخالفات التالية:خالفت إسرائيل صراحة جميع مبادئ حقوق الإنسان المتمثلة في المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على "لكل فردالحق في أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافية وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه".
كما خالفت ديباجة الميثاق التأسيسي لمنظمة اليونسكو "إن كرامة الإنسان تقتضي نشر وتنشئة الناس أجمعين على مبادئ العدل والحرية والسلام".
أما المادة الرابعة من مبادئ التعاون الدولي الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته 14 سنة 1966قد خولف كذلك صراحة:"إن إحدى غايات التعاون الثقافي الدولي هي السماح لكل إنسان بالانتفاع بالمعرفة والتمتع بفنون جميع الشعوب وآدابها،والمشاركة في التقدم الذي يحرزه العلم في جميع أنحاءالعالم،وفي ما حققه من فوائد والإسهام من جانبه في إثراء الحياة الثقافية" نخلص إلى أنه ليس من حل لمأزق هذه الثقافة اليهودية مادامت تتغذى من تصورات شوفينية ومقولات عنصرية، ولا موقع لها ضمن الخريطة الدولية مادامت تنتهك كل المعاهدات والاتفاقيات مما يضطرها إلى التطبيع الثقافي .
التطبيع الثقافي
على غرار تبعيتها الشاملة للإمبريالية اكتشفت إسرائيل سلاح التطبيع الثقافي، السلاح أكثر نخرا للهوية الثقافية ،السيدا الثقافية، التي تعمل على إتلاف وتدميرالمقومات الدفاعية للجسم الثقافي و لعل الالتباس الذي عرفه الفكر العربي طال حتى المفاهيم التي نتداولهافأصبحت المفاهيم تؤدي معنى مضادا أوكما قيل "علمونا كيف نقول بإديولوجيتهم نعم"،فالاستعماريفهم منه طلب الدول الاستعمارية العمران للدول المتخلفة والصحيح تسميته بالإستدمار وكذا فكلمة التطبيع تفيد إعادةالعلاقة بين العرب وإسرائيل إلى مسارها الطبيعي وكأن إسرائيل لا تحتل رقعة عربية ، ولم تشن خمسة حروب ولا تحتقر جميع المواثيق والمعاهدات. إن سلاح الاختراق الثقافي باعتباره الأكثر فتكا والأخطر تأثيرا أصبح اكتشافا حربيا يفوق احدث الأسلحة وأدقهاأهمية.
اعتبرت إسرائيل فلسطين أرض الميعاد يجب صهينتها ومصادرة التراث العربي و تهويد كل شبر تطأه أقدامهم، لذلك ازدادت مخاطر الاختراق الصهيوني للأرض العربية بعد ضرب المفاعل النووي العراقي كمؤشر على الحصار التكنولوجي على العرب ،وذلك بحرمانهم على الأقل من الجيل الراهن من الاكتشافات العلمية،ثم ضرب مركز منظمة التحرير الفلسطينية بتونس في تحد سافر بالسيطرة على الوطن العربي شرقا وغربا وضرب حركات التحرر في عقر دارها.
وقد انتبه لذلك الكتاب والمثقفون العرب المجتمعون 1982 إلىأنه عن طريق المعاهدات السياسية كاتفاقيات كامب ديفيد، واتفاقية 17 مايو التي لم تبصر النور والتي سرعان ما دفنها المناضلون اللبنانيون ،هده الاتفاقيات كلها تدفع لجهة تكريس التطبيع الثقافي وقد استهدف هدا الاختراق الثقافي تدمير المقومات الثقافية للشخصية العربية بأساليب شتى و ظل هذا الاختراق الثقافي الامبريالي الصهيوني يشتغل جنبا إلى جنب بهدف تطويع الشخصية العربية وقولبتها التي يهيئها للنمط الغربي الرأسمالي الاستهلاكي سواء عن طريق "التبشير الديني"أوتمجيد اللغات الأجنبيةعلى حساب اللغات الوطنية أو عبر السيطرة الغير المباشرة على التعليم والإعلام والثقافة.
إن أكبر خدمة يمكن ان يقدمها المثقفون الذين يسبحون بالتطبيع ويطلبون ود الحاكم العربي هو اعتبار الحركة الصهيونية حركة مستقلة عن الغرب ولادة ورعاية وتمويلا . واعتبار كدلك أن لها مشروعا سياسيا خاصا بها على غرار البلدان الأوربية ،واعتبار أن لها ثقافة خاصة على الرغم من علم هؤلاء المثقفين أنها أي هده الثقافة تقتات من منطلقات توراثية غيبيةوتستفيد من مقولات امبريالية استعمارية بل وتعتبرأن استعمارها لفلسطين وجرائمها للعرب مجرد تنفيس للاضطهاد الذي لا قوه وعانوه من الأوربيين فلماذا لا يقتصون من الأوربيين وقادتهم المتواطئين معهم بدل العرب الذي عاشوا معهم فترات طبعها في المجمل التعايش والتساكن والتسامح؟.
إن تهافت المثقفين ليست مجرد حملة ثقافية صهيونية وافدة من الخارج فحسب بل هي بنية ثقافية إيديولوجية داخلية أفرزتها وعززتهاطبيعة الهياكل السياسية والاقتصادية الرجعية التابعة في البلاد العربية،فكيف يطال الشقاء وعي المثقف العربي،وتستدرجه ثقافة تقطر تعصبا ولا عقلانية،ألم يسمع هؤلاء المثقفين المطبعين ما قاله "حاييم وابرمن" سنة 1912 في لقاء تكريم أمام اليهود في رومانيا "انظروا لقد انتزعنا وعد بلفور من البريطانيين دون أن نستند إلى أي أساس واقعي".
هل أفلح المحتل الصهيوني استثارة عطفنا حتى صرنا أشداء على أنفسنا رحماء على المستوطنين أم أن حكاية المساعدات السخية كفت المثقفين شر القتال؟. ق
دمت مجلة(المواجهة) 1985 التي كانت تصدرها أنداك لجنة الدفاع عن الثقافة القومية إحصاء بالغ الدلالة : تعد مصر اليوم من بين الدول الأولى المتلقية للمعونات الأمريكية ولا تفوقها في ذلك غير الدولة الصهيونية،ففي عشر سنوات الماضية وصل مصر 15 بليون دولار مابين منح وقروض أمريكية، 2 مليون دولار سنويا كما تساهم ألمانياواليابان والبنك الدولي وقد توصلت سنة 1980 بما قدره 150 مليون دولار من ألمانيا ، 175 مليون دولار من اليابان ،450 دولار من البنك الدولي وتصل هذه المعونات كلها إلى المراكز الثقافية المصرية،مقابل هذه المساعدات،كبرت حركة تبادل الزيارات بين إسرائيل و مصر وترويج المثقفين المستفيدين للتصالح مع إسرائيل وإنهاءحالة العداء معها.
ان الفظيع أن ترشي الامبريالية وحليفتها إسرائيل بعض المثقفين ببعض الدولارات لتجاوز مأزقها المصيري ، مأزق الثقافة اليهودية التي تفتقد إلى الأسس التي ترتكز عليها ثقافة الشعوب والحضارات والأفظع أن يضخ المثقف العربي الدم والأوكسجين في شرايين ثقافة تهدف إلى خنق وطمس الثقافات الإنسانية.
إن المثقف الداعي إلى التطبيع كمن يجلد ذاته بيده،ويفقأ عينه بأصبعه إذ يمد الصهيونية بالوسائل اللازمة للزحف على الأرض العربية ،ألا يحق أن نعتبر دعاة التطبيع يعانون انفصاما في الشخصية وعدم اتساق في وعيهم؟ يشجبون الاستعمار والاستبداد، ويشرعنون وجود كيان صهيوني محتل واستيطاني،هل أصبح المثقفون أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم،ف"هرتزل" نفسه أحد المؤسسين الكبار لهدا الكيان يعتبر الحركة الصهيونية حركة استعمارية.