تغريد الرشق (*): تفتن مدينة طنجة المغربية زائريها وحتى عابريها بسحرها وجمالها والذي يشبه لوحات رسمتها يد الطبيعة ،تأسرك وتقع في هواها دون سبب واضح. هكذا هي طنجة بأسوارها البيضاء العتيقة وبتربعها على ماءين"المتوسط والأطلسي" ،وبعفوية ناسها ولكنتهم التي هي خليط من العربية (المكسرة) والأمازيغية ومن لهجات محلية مازالت قائمة إلى اليوم، تلهم كل زائر وكل عاشق للهدوء يأتيها عابرا ليصبح عاشقا ومتيما بها. يطلق المغاربة اسم عروس الشمال على طنجة- مسقط رأس الرحالة العربي المغربي ابن بطوطة- لأنهم يرونها كعروس في يوم زفافها في اتم حلتها وقمة سحرها، وتتفرد طنجة بكونها نقطة التقاء بين البحرالمتوسط والأطلسي من جهة، وبين القارة الأوروبية والقارة الإفريقية من جهة أخرى،ما جعلها تستأثر بوضعية استراتيجية هامة جعلت منها محطة اتصال وعبور وتبادل الحضارات منذ آلاف السنين. الزائر لطنجة يجب ان لا يفوته زيارة سور "المعكازين" أي المعاكيز وتعني بالمغربية "الكسالى"حيث يتجمع هناك سكان المدينة وزوارها متناثرين في ساحتها للدردشة وتناول الفستق والمكسرات المغربية الشهيرة ،فيما اخرون يتطلع الى الضفة الأخرى من البحر حيث اسبانيا تلوح من بعيد، خاصة إذا كان الجو صحوا، فسور الكسالى يمثل اقصى درجات الغواية للتفكير في الهجرة الى الفردوس الاوروبي. وفي طرف الساحة ينتصبان منظاران كبيران يغذيان الرغبة الدفينة بالسفر،ويقربا الرؤية أكثر وأدق مقابل حفنة قليلة من الدراهم ( العملة الرسمية في المغرب) . وفي ذات الساحة يرقد مدفع قديم ما زال ماثلا للعيان شاهدا على مرحلة تاريخية، كان له فيها دور في الدفاع عن المدينة أيام الحروب والغزوات، ويحرص الكثيرون على التقاط صورة للذكرى على أيدي مصورين متجولين. أما سبب تسمية الاسوق بهذا الاسم ، يقال انه يعود إلى أيام القوافل التجارية والتي كان التجار خلالها ينزلون إلى السوق للبيع والشراء بينما يجلس الخاملون منهم تحت ظلال الأشجار للاستراحة من تعب الرحلة فيستغرقهم النوم، ولا يقومون بالمهمة التي قطعوا المسافات من أجلها. وتوجد بالقرب من الساحة محلات وأكشاك للجرائد، ومطاعم تقدم كل أنواع المأكولات المغربية والفرنسية والاسبانية والإيطالية ،ولكن على الزائر الجائع ان يضع في باله وجود قوائم طعام معظمها بالفرنسية في هذه المنطقة الضاجة بالناس. واذا تابع الزائر مشيه باتجاه سوق البلدة القديمة ، فلن يكتفي بالتسوق ومشاهدة السوق المزدحم، بكافة اشكال والوان البضائع من كل صنف ولون ،ولكنه ستكون فرصة للالتقاء بالسكان المحليين والتعرف على ثقافتهم وانفتاحهم وأسلوب عيشهم وأذواقهم، وترحيبهم بكل وافد على مدينتهم. وسيجد زائرالسوق القديم كل ما يخطر بباله شراؤه من المغرب وبأزهد الأسعار مثل المشغولات النحاسية والتراثية اضافة الى العباءات والملبوسات المغربية التقليدية المميزة والتي تشهد انتشارا في كافة اسواق العالم الان مع فارق السعر بالطبع وكذلك الأحذية،والسجاد والحلوى والأطعمة المختلفة. وفي العادة يفوق الإقبال السياحي لمدينة طنجة الطاقة الاستيعابية لفنادقها بمختلف تصنيفاتها، إذ تتحول المدينة طيلة اشهر الصيف إلى معبر لاستقبال وتوديع أفراد الجالية المغربية المقيمين في أوروبا، الذين يحلو لهم التوقف او المبيت فيها لالتقاط الأنفاس، قبل مواصلة الرحلة على الطريق. من الناحية الجغرافية تتمتع طنجة بموقع استراتيجي خاص، فهي تقع في أقصى نقطة في الشمال الغربي للمغرب، وبالتالي فهي واجهة المغرب ونافذته المشرعة على أوروبا، إذ لا تفصلها عنها سوى 14 كيلومتراً عبر البحر. ومن الناحية التاريخية، فلها سجل حافل، تزدحم صفحاته بالكثير من الوقائع والأحداث، منذ كانت مدينة دولية، تتعايش فيها الأجناس واللغات، إلى أن استرجعت حريتها واستقلالها. ومن المواقع الجديرة بالزيارة أيضا "مغارة هرقل" التي تحكي احدى الأساطير أن مزاج هرقل كان متعكرا حين ضرب الأرض بقوته، فانشطرت إلى نصفين، هما القارة الافريقية والقارة الأوروبية، ويشكل الدخول إلى المغارة عالما من الغموض والسحر والافتتان كما تطالعك في نهاية المغارة ،قطعة منحوتة من الصخر تثير العجب، لأن العوامل الطبيعية نحتهها على شكل قارة افريقيا وكأنها مقلوبة،فيخيل للمتفرج وكأن هذه الأسطورة حقيقية. ويعد قبر الرحالة الشهير ابن بطوطة والذي جمع رحلاته في كتاب "تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار"من المواقع الهامة في طنجة، الى جانب أسوار المدينة العتيقة وقصبة غيلان وقصر القصبة. ولا يقتصر الاهتمام بطنجة من عامة الشعب او السياح بل أن الملك الراحل الحسن الثاني سماها بالعاصمة الصيفية للمغرب ،اما الملك محمد السادس فيتردد على المدينة باستمرار في العطلة الصيفية وفي العديد من المناسبات، ما جعلها محجا لكبار الشخصيات القادمة من الخارج،كما يستطيع الزائر لمغارة هرقل ان يرى على جانبي الطريق قصورا لعدد من ملوك ورؤساء لدول عربية . تتوفر المدينة التي تمتاز باعتدال مناخها طيلة فصول السنة، على مساحات خضراء شاسعة، ومواقع أثرية ودور للثقافة والفن ومكتبات عامة و قاعات للسينما والمسرح ، حيث اصبحت حاضنة وقبلة لمهرجانات فنية عديدة . تاريخيا تعد طنجة محطة اتصال وعبور وتبادل الحضارات منذ آلاف السنين وهو ما تشهد عليه المواقع و البقايا الأثرية المتواجدة فيها، و المنتمية إلى حضارات ما قبل التاريخ وحضارات الفنيقيين و البونيقيين التي ربطت اسم طنجة في أساطيرها العريقة باسم " تينجيس" زوجة " آنتي" ابن" بوسايدون" إله البحر و"غايا " التي ترمز للأرض. ثم تلتها الفترة الرومانية التي أصبحت طنجة خلالها تتمتع بحق المواطنة الرومانية، بل من المحتمل جدا أن روما جعلت من طنجة عاصمة لموريتانيا الطنجية، المقاطعة الغربية لروما بشمال إفريقيا. استعادت طنجة حيويتها بعد سبات طويل، كان ذلك مع انطلاق الفتوحات الإسلامية للأندلس علي يد طارق بن زياد سنة 711م، ثم فتلاة حكم المرابطين والموحدين الذين جعلوا من طنجة معقلا لتنظيم جيوشهم و حملاتهم. بعد ذلك تتالت على طنجة فترات الاحتلال الإسباني والبرتغالي و الإنجليزي منذ 1471م إلى 1684م، والتي تركت بصماتها حاضرة بالمدينة العتيقة كالأسوار و الأبراج و الكنائس. لكن تبقى أهم مرحلة ثقافية وعمرانية مميزة في تاريخ طنجة الوسيط والحديث هي فترة السلاطين العلويين خصوصا المولى إسماعيل و سيدي محمد بن عبد الله. فبعد استرجاعها من يد الاحتلال الإنجليزي سنة 1684م في عهد المولى إسماعيل، استعادت طنجة دورها العسكري و الدبلوماسي و التجاري كبوابة على دول البحر الأبيض المتوسط، و بالتالي عرفت تدفقا عمرانيا ضخما، فشيدت الأسوار و الحصون و الأبواب. وازدهرت الحياة الدينية و الاجتماعية، فبنيت المساجد والقصور و النافورات والحمامات والأسواق، كما بنيت الكنائس والقنصليات و المنازل الكبيرة الخاصة بالمقيمين الأجانب، حتى أصبحت طنجة عاصمة ديبلوماسية بعشر قنصليات سنة 1830م، ومدينة دولية يتوافد عليها التجار والمغامرون من كل الأنحاء نتيجة الامتيازات الضريبية التي كانت تتمتع بها.