ربما تكون طنجة هي المدينة المغربية التي حظيت أكثر من غيرها من المدن المغربية الأخرى بالنصيب الأوفر من حيث عدد الكتاب والفنانين العالميين الذين زاروها، أو أقاموا بها، واستوحوا فضاءاتها وتاريخها وحكاياتها وأساطيرها، سواء في مذكراتهم ورواياتهم وكتبهم، أو في لوحاتهم ورسوماتهم الشهيرة، وذلك إلى جانب مدينتي مراكش والدار البيضاء أيضا. ومرد هذا الاهتمام من قبل هؤلاء الكتاب العالميين بمدينة طنجة تحديدا يعود بالدرجة الأولى إلى الموقع الدولي الذي كانت تحتله المدينة في السابق، وكذا إلى الصدى الواسع الذي خلفته شهرة المدينة على الصعيد العالمي، وتحديدا مع الحماية الفرنسية عام 1912، والمصادقة النهائية على نظام منطقتها الحرة عام 1928، كما أرخ لها محمد شكري في الجزء الثالث من سيرته الذاتية «وجوه». وتتميز هذه المدينة، أيضا، بموقعها الاستراتيجي، أي بكونها أقرب نقطة في أفريقيا من أوروبا، حيث تنعت بالمدينة ذات البحرين، والتي تكاد الشمس لا تغيب عنها صيفا، كما كانت الكاتبة الأميركية التي كانت تقيم في فرنسا جيرترود شتاين تغري بذلك الكاتب الأميركي بول بولز لحثه على زيارة طنجة، وذلك كلما زارها بولز بشقتها بشارع فلورنس بباريس، كما كانت تفعل أيضا أليس طوكلاس.. وهو الإغراء الذي سرعان ما استمال بول بولز، فكانت بدايته مع هذه المدينة التي كانت تسمى من قبل بولز نفسه ب«مدينة الحلم»، وقد «أصبح الوصي الأكبر على من يفد على طنجة من الأميركيين، وأحيانا وصيا حتى على غيرهم، بعد أن «ربض فيها مثل أبي الهول، فصار المعمد الشرعي، والمرجع لهم عن المغرب كله..»، يقول شكري، في كتابه عن بول بولز، وإن تم ذلك لديه بطريقة تهكمية، ما دام أن كتاب شكري عن بولز هو بمثابة تعرية وكشف عن بعض الجوانب من شخصية بولز الذي ظلت خفية. عدا ذلك، كان لا بد من الإشارة أيضا إلى أن الاستعمار الأجنبي قد أورثها الحرية الجنسية التجارية، كما جاء في كتاب محمد شكري عن «جان جينيه في طنجة»، وهو ما يكون قد شجع بعض هؤلاء على زيارة طنجة أو الإقامة فيها، إلى جانب إغراءات أخرى تطرق لبعضها محمد شكري، على لسان بعض الكتاب الأجانب ممن زاروا مدينة طنجة، كما ورد ذلك في كتابه عن «بول بولز وعزلة طنجة»، ومن بينها على الخصوص مسألة المخدرات. إلى جانب بول بولز، افتتن كتاب وفنانون ومغنون وصحافيون آخرون بمدينة طنجة، وذلك إلى الحد الذي اختار فيه بعضهم أن يقيم فيها بصفة نهائية، ويموت فيها أيضا، كما هو الشأن بالنسبة لبول بولز نفسه. كما أن الكاتب الأميركي براين جيسن وإن غادر طنجة مكرها، بسبب مرضه المزمن، فإن أخته الروحية آن كومين فيليستي حملت معها رماده في قارورات صغيرة فنثرتها متفرقة بين صخور «مغارات هرقل» بطنجة وساحة «جامع الفنا» بمراكش، كما كتب شكري عن ذلك أيضا.. كما أن والتر هاريز، مراسل جريدة «التايمز» اللندنية، الذي توفي في مالطا كان قد أوصى بأن يدفن بطنجة، وهو ما كان، حيث تم دفنه بالمقبرة الانجليزية بالمدينة (وجوه)، كذلك هو الشأن بالنسبة للكاتب الفرنسي جان جينيه، الذي ارتبط بدوره بمدينة طنجة، فأوصى بأن يدفن بمدينة العرائش المغربية، غير البعيدة كثيرا عن طنجة. هؤلاء وغيرهم كان لهم ارتباط خاص واستثنائي بمدينة طنجة إلى حد أن بعضهم وصفها بالفردوس. ومن بين هؤلاء الكتاب والفنانين الكبار الذين زاروا طنجة أو أقاموا بها لفترات قصيرة أو طويلة، نذكر جيرترود شتاين والكاتب الأميركي تينسي وليامز وجان جينيه والمخرج الإيطالي بريناردو بيرتولوتشي الذي صور بطنجة بعض أحداث الفيلم الشهير «شاي في الصحراء» المستوحى من رواية بولز «السماء الواقية»، والكاتب الأميركي جون ستينهام والكاتب الغواتيمالي رودريغو راي روسا والروائية الفرنسية فيليسي ديبوا صاحبة الكتاب الشهير عن «تينيسي وليامز: طائر بلا قوادم»، والكاتب المسرحي صاموئيل بكيت ودولاكروا ومارك توين وبراين جيسن وترومان كابوتي وجاك كرواك وألفريد تشستر وروبين داريو وبلاسكو إيبانيت وبيوباروخا ووليام بروز، والرسام التشيلي كلوديو برافو والرسامة ماركريت مكباي، كما زارتها بعض الفرق الموسيقية العالمية الشهيرة كفرقة «رولين ستون». أما بالنسبة للكتاب العرب، فلائحة زائري مدينة طنجة طويلة ومليئة بالأسماء، بل إن منهم من استوحى هذه المدينة في بعض أعمالهم الفنية والأدبية، وإن كانت قليلة (نشير، هنا، على سبيل المثال فقط إلى الروائي التونسي حسونة المصباحي والكاتبة اللبنانية هاديا سعيد)، قياسا إلى الاهتمام الإبداعي والفني الغربي بالمدينة. كما أن إقامة محمد شكري بطنجة جعلت هذه المدينة قبلة لعدد آخر من الكتاب الوافدين عليها لزيارة شكري، وقد أضحى بدوره كاتبا عالميا، والتعرف عن قرب عن عوالمه وفضاءاته بهذه المدينة. ووجود شكري بطنجة أضفى على هذه المدينة نكهة وجاذبية خاصة، حيث ارتبطت به المدينة كما هام هو بها، فأعطته المجد الإبداعي والشهرة العالمية، كما وهب لها هو حياته كلها، وهو الذي يفضل أن ينعت ب«الكاتب الطنجاوي»، فأصبح، بذلك، واحدا من أبناء طنجة، هاته المدينة التي لم يتوان هو أيضا في المساهمة في ذيوع شهرتها حديثا، وإن طالها، اخيرا، الكثير من التحول والتراجع والإهمال، حيث ما تزال وفود الكتاب والصحافيين ورجال الإعلام من مختلف الدول يتوافدون على مدينة طنجة لتسجيل وتصوير اللقاءات مع هذا الكاتب الكبير. ومحمد شكري، في هذا المجال، إنما يساهم من جهته، إلى جانب كتاب مغاربة آخرين، في كتابة جوانب من التاريخ الرمزي والسحري لهذه المدينة الأسطورية، وهو ما يمكن لمسه كذلك سواء من خلال مؤلفاته السردية والسيرذاتية، أو من خلال مذكراته عن بعض الوجوه والأسماء الأجنبية التي زارت المدينة أو أقامت بها، وكذا عبر حواراته الصحافية العديدة. لقد كتب محمد شكري، في هذا الإطار، ثلاثة كتب مهمة، هي عبارة عن مذكراته مع ثلاثة أقطاب كبار، هم جان جينيه وتينسي وليامز وبول بولز، وكلهم ارتبطوا بمدينة طنجة وبمحمد شكري، أيضا، بأشكال مختلفة ومتفاوتة، وهو ما دفع بشكري إلى تدوين ذكرياته معهم وكتابتها بأسلوب رشيق وبمرجعية معرفية وفكرية لافتة: «جان جينيه في طنجة» في طبعتين، و«تينسي وليامز في طنجة»، في طبعتين أيضا، و«بول بولز وعزلة طنجة». ولقد استعار شكري هذا الشكل الأدبي، أي كتابة المذكرات، كما صرح بذلك في أحد حوارته، بعد أن قرأ مذكرات بورخيس وألبرتو مورافيا وتأثر بها. ويضيف شكري أن كتابة مذكرات هؤلاء، في نظره، هي كتابة لتاريخ طنجة أيضا، وهي التي ماتت ثقافيا، ولم تعد لها حياة أدبية كما كانت في الخمسينات والستينات.. إلى جانب شكري، قام كتاب وباحثون مغاربة آخرون ببلورة جوانب من التاريخ الثقافي والاجتماعي والأسطوري والرمزي لهذه المدينة، من خلال بعض رموزها الأساسيين، من المغاربة والأجانب، هؤلاء الذين كان لهم دور خاص في بلورة متخيل أدبي وبيوغرافي وتسجيلي، وحتى خرافي وفولكلوري، عن المدينة أو انطلاقا منها، وهو ما كان له الأثر الكبير، كذلك، على استمرارية ذيوع اسم المدينة عالميا، وإن طالها الكثير من التحول. هكذا، إذن، كتب الناقد والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب عن بول بولز في كتابين: «بول بولز في المغرب: أقنعة الكتابة» (1996) و«بول بولز: التخييل والمثاقفة» (2003). وفيهما يرد الخطيب بعض الاعتبار لشخصية بول بولز ولإبداعه أيضا، وهو الذي ترجم له مجموعة قصصية إلى العربية بعنوان «البستان»، كما يدحض فيهما مواقف بعض المثقفين المغاربة السلبية من إبداعات بولز، وكذا مواقفهم من مسألة وجود بول بولز بالمغرب، في الفترات الأولى من إقامته بالبلاد وتجواله ببعض مناطقها. كما كتب الباحث المغربي حسن بحراوي كتابا أساسيا عن «حلقة رواة طنجة» (2002). وهي كلها كتب تعيد الاعتبار لوضعية كاتب افتتن بطنجة فاختارها ملاذا له، ولرواة شفويين من طنجة ارتبطوا بدورهم بالمدينة وببول بولز، فذاع صيتهم خارج الوطن، بعد تسجيل بولز وترجمته ونشره لما كانوا يروونه له من حكايات إلى الانجليزية. وفي الأفق أيضا كتابان عن بول بولز من تأليف الكاتب والإذاعي المغربي عبد العزيز جدير، هما: «بول بولز ورواة طنجة» و«بول بولز ومحمد شكري.. الحوار الأخير»، عدا كتاب آخر له هو عبارة عن حوارات مع كتاب أميركيين عالميين زاروا مدينة طنجة، ك: تنيسي وليامز وجون كوبكنز وطيد جونس، كما أن لعبد العزيز جدير، الذي ترجم بدوره مجموعة قصصية لبول بولز إلى العربية بعنوان «صديق العالم»، مشروعا مهما عن مدينة طنجة وعن بعض الكتاب العالميين الذين زاروها أو أقاموا بها، وعلى رأسهم بول بولز، ومحمد المرابط، هذا الأخير الذي سبق له، هو أيضا، أن أملى كتابا على بول بولز صدر بالانجليزية، وهو عن الكاتب الأميركي السالف الذكر وليام بروز. وهذه الكتب جميعها، بما فيها كتب محمد شكري السالفة الذكر، تتجاوز الموقف التسجيلي والتأريخي الصرف إلى البحث في مجموعة من الإشكالات والأسئلة ذات الارتباط بوضعية هؤلاء الكتاب في المجتمع الطنجاوي، والمغربي بشكل عام، وفي المشهد الثقافي المغربي والعالمي، كما أن لها ارتباطا أيضا بطبيعة كتاباتهم الإبداعية وبمواقفهم من بعض الظواهر السائدة آنذاك، بحيث ان الزخم الذي يطبع فضاءات هذه الكتب يصبح معه من الصعوبة عرض كل ما تحتويه من أخبار وحكايات ومشاهد ووجهات نظر حول المسار البيوغرافي، الاجتماعي والثقافي والأدبي والاقتصادي، لهؤلاء الكتاب، بمن فيهم رواة طنجة. (*) جريدة الشرق الأوسط اللندنية