صدر مؤخرا عن سلسلة إبداعات عالمية كتاب «العقرب» في جزئه الأول، وهو عبارة عن قصص كتبها الكاتب والروائي العالمي بول بولز، الذي لازم طنجة وعاش فيها، كتب عن الفضاء المغربي، كما مسته شظية من بطش الفرنسيين، لما منعوه وأخرجوه من مدينة فاس، لكنه سيصفي معهم الحساب في روايته «بيت العنكبوت» التي قرأها علال الفاسي وأعجب بها. يصدق على الكاتب الأمريكي بول بولز توصيف «نزيل طنجة»، جاءها باحثا أنتربولوجيا، وتحول إلى باحث في موسيقى الشعوب وإلى كاتب عالمي، في نصوصه تحضر طنجة بكامل فضاءاتها وبغرائبيتها وفطريتها التي حرص على تقديمها إلى القارئ الأمريكي. جاء بولز إلى طنجة وتبعه رفاقه من كتاب وموسيقيين وبوهيميين باحثين عن معنى مختلف، بعيدا عن حياة أمريكية وهوس بمطاردة شيوعيين فوضويين في حملة مكارتي..هكذا بدأ الحديث عن عالم آخر ما وراء البحار، وجده بولز في طنجة، ووجده غويتيسولو في مراكشووجده جينيه في العرائش.. زار بول بولز المغرب للمرة الأولى عام 1933، وتردد عليه لسنوات، قبل أن يستقر فيه إلى يوم غيابه عام 1999. خص بولز المغرب بمعظم كتاباته، مثل روايته «دعه يسقط» ورواية «بيت العنكبوت»، واحتلت القضايا المغربية معظم رسائله (7000 رسالة)، ونشر معظمها في كتاب بعنوان «على اتصال». انفتح بولز على طنجة، وعلى فضاءاتها، لكنه انفتاح حذر، حتى أن علاقته بمحمد شكري ظلت دائما محكومة بنوع من المد والجزر. في روايته «بيت العنكبوت» سيكتب على معركة الاستقلال في المغرب، وهي الرواية التي قرأها الزعيم علال الفاسي، وابدى إعجابه بها، يقول في حوار أجراه معه عبد العزيز جدير «أبلغت أن الرواية قرئت له وأنها راقته، فقال: «نعم، إن الأحداث مرت بهذا الشكل. إن هذا الأمريكي يعرف فاس ويفهم شؤونها». وقد أحسست بالغبطة لما سمعت هذا الرأي، وفهمت أن ليس هناك أدنى اعتراض على مادة الكتاب التخييلية. كان بإمكان علال الفاسي أن يبدي امتعاضه من الرواية، لكن ذلك لم يحدث. وقد استنتجت أن علال الفاسي رجل منفتح. ويضيف «محمد شكري. كان على علاقة بعلال الفاسي. فعلال الفاسي كان قضى فترة من حياته بطنجة وظل يتردد على المدينة. عندما التقيت شكري للمرة الأولى، أخبرني بذلك وأعطاني ربطة عنق (ضحك)، أهداها لي علال الفاسي، وقد اشتراها من أندونيسيا لما حضر مؤتمر باندونغ. ربطة عنق من قماش أندونيسي، ما زلت أحتفظ بها، أقدرها لأنها هدية من علال الفاسي. لقد كان بولز يشعر أنه مغربي مثل جميع المغاربة، يقول في نفس الحوار مع جدير «لقد أديت كالمغاربة ضريبة الاستقلال، وهذا أمر أغبط نفسي عليه (يشير بولز إلى اعتقاله من لدن السلطة الفرنسية بفاس وضربه، ثم طرده من فاس قبل إغلاقها للاستفراد بأهلها)، ولكن الطريق الذي سارت فيه النخبة فيه نظر. وذلك ما دفع البعض إلى القول إن هناك تعارضاً بين رغبتي الشخصية ومستقبل المغرب. أعرف أن التطور حتمية تاريخية، ومن الصعب أن يقاومه بلد معين أو شعب معين. إنه قانون الوجود، لكن العوامل المؤثرة فيه هي التي تحدد طبيعته. وعلى رغم ذلك يمكن أن نتساءل: ألا يمكن للمغرب - والبلدان المشابهة له - أن يطرق باباً خاصاً لتطوره يحافظ على تراثه الغني الذي يميزه ويشكل خصوصيته: لباس المغربي، موسيقاه، عاداته. أتعتقد بأن جمعي للموسيقى المغربية الشعبية وتسجيلي لها كان ترفا؟ إنها إبداع رائع كان سيضيع تحت زحف ضجيج الآلات الجديدة غير المنسجم، والمثير في الأمر أن المغاربة يعتبرون تلك الموسيقى متوحشة وينبهرون بالموسيقى الحديثة! الحديثة، والمعمار؟ لِمَ كتبت عن فاسالمدينة القديمة؟ لن يبقى منها إلا وصفي لها... ووصف آخرين أحبوها. قد لا يفهم تشبثي، الآن، بهذا التراث الإنساني (...) يتحدث الكاتب المغربي محمد شكري عن بولز بكثير من الامتنان، لكن أيضا بالكثير من المزاج المتقلب، فهو الذي أخرجه للوجود عندما ترجم له «الخبز الحافي»إلى الإنجليزية، وعندما جعله يدخل إلى عالمه الخاص ويربطه بعالم الكتاب الكبار، يقول عنه شكري» لا أشعر أنني متأثر جداً ببول بولز أو بأدبه. إنني متأثر باحترافيته، أي باتخاذه الكتابة حرفة، ومتأثر برغبته القصوى في بلوغ الكمال في شأن عملية الكتابة. لا شيء في حياة بولز أهم من الكتابة. أقمت مدة طويلة، هنا في طنجة، وتحدثنا (بول وأنا) طويلاً في الشأن الأدبي، في الأدب العالمي: الأمريكي، الفرنسي، الصيني. لم نتحدث عن الأدب الروسي لأن بول لم يقرأ الأدباء الروس، لا أدري لماذا لم يقرأ هؤلاء. لا شك أنك تعرف أسباباً لذلك. من الصعب القول إنني تأثرت جداً بأدب بولز. ربما تأثرت ببول من هذه الزاوية: لقد فسر لي، وحدثني طويلاً عن كيف يكتب، كم ساعة يقضي في الكتابة يومياً... ثم إنه قرأ كل مسوداتي. وإنها كثيرة حقاً! في بداية ولوجي عالم الكتابة. قرأ قصصاً قصيرة، روايات... وكان يقدم لي نصائح. أعتقد أن مسوداتي كانت، من زاوية النحو، تامة، لا تعاني أي عيب. لكن بول، بجملتين أو ثلاث، كان يهتك ستر العمل ويقدمه لي من زاوية أخرى فأرى ما لم أكن رأيته في البداية. من هذا الجانب، تعلمت من بول الشيء الكثير، تعلمت ما يستحيل أن تعلمك إياه أي مدرسة. كتب الناقد والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب عن بول بولز كتابان: «بول بولز في المغرب: أقنعة الكتابة» (1996) و«بول بولز: التخييل والمثاقفة» (2003). وفيهما يرد الخطيب بعض الاعتبار لشخصية بول بولز ولإبداعه أيضا، وترجم له مجموعة قصصية إلى العربية بعنوان «البستان»، كما يدحض فيهما مواقف بعض المثقفين المغاربة السلبية من إبداعات بولز، وكذا مواقفهم من مسألة وجود بول بولز بالمغرب، في الفترات الأولى من إقامته بالبلاد وتجواله ببعض مناطقها. وكتب حسن بحراوي كتابا أساسيا عن «حلقة رواة طنجة» (2002). وهي كلها كتب تعيد الاعتبار لوضعية كاتب افتتن بطنجة فاختارها ملاذا له، ولرواة شفويين من طنجة ارتبطوا بدورهم بالمدينة وببول بولز.