قبل الانحدار في الطريق المؤدية إليها، تبدو عمارة «إتيسا»، على بعد بضع عشرات من الأمتار، أشبه بمبنى إداري أقيم على نموذج المعمار الإسباني بعد الحرب العالمية الثانية: هيكل مربع بشكل صارم مؤلف من أربعة طوابق مخضرة السواتر، في واجهته دكان بقال، وفي الخلفية باب العمارة وموقف صغير لسيارات القاطنين بها. هناك مارة يعبرون على عجل، والمؤكد أن أكثرهم لا يعرف أن أحد أشهر الكتاب الأمريكيين المغتربين في الأربعينيات والخمسينيات أقام هناك في الطابق الرابع من تلك العمارة ردحا طويلا من الزمن. في مثل هذا الشهر من سنة 1999، قضى بول بولز نحبه في أحد مستشفيات طنجة إثر وعكة صحية مفاجئة. ورغم أنه كان أمريكيا صميما، فإنه من الصعب أن تجد موسوعة أو تاريخا للرواية الأمريكية يتحدثان عنه. وعندما حاول أحد مؤرخي الرواية الأمريكية، وهو مارك صابورتا، إدراجه ضمن فصول تاريخه، ابتكر له فقرة خاصة سماها «الشعبة الأجنبية» حيث تحدث عن أعماله المستوحاة من فضاءات غير أمريكية باقتضاب شديد. هكذا كان بول بولز أجنبيا في بلده، كما كان أجنبيا في بقية البلدن التي زارها أو عاش فيها، بما في ذلك المغرب، بل يمكن القول إنه كان يجد لذة ومتعة في هذا الانسلاخ عن كل انتماء. وربما فسر لنا هذه الوضعية جوابه عن سؤال أحد الصحافيين له لماذا اختار طنجة مقرا لإقامته: «إنني لا أعرف كيف جئت إلى هذه المدينة، وماذا جذبني إليها، ولم مكثت فيها وحدي حين غادرها الجميع»؟... بذرة الفرار ولد بول بولز أواخر سنة 1910 في لونغ أيلاند بضواحي نيويوك. وعندما أتم الثانية من عمره شرعت والدته تتلو عليه كل ليلة قصصا لإدغار آلان بو محفوفة بالغرابة، لكن الطفل لم يفتأ أن أدرك أنه كان يعيش وحده في عالم آهل بالكبار، وأن هؤلاء كانوا يفرضون عليه سلطة منع قاهرة، فأخذ يبتكر عالمه الخاص. هكذا انكب، ولما يبلغ الخامسة، على كتابة قصته الأولى، ثم اتجه إلى الرسم، قبل أن يشرع في تعلم العزف على البيانو، وهي الهواية التي ستظل ملازمة له طيلة حياته. وعندما التحق بالجامعة سنة 1928 نبتت بذرة الفرار من الجحيم العائلي في وجدانه، وحينئذ سافر بحرا إلى فرنسا حيث شرع يمارس الكتابة الأوتوماتيكية ويكتب شعرا على طريقة السرياليين، كما أخذ يتردد باستحياء على بيت الكاتبة الأمريكية المقيمة في باريس حينئذ جيرترود ستاين التي نصحته بالتوقف عن كتابة الشعر، واقترحت عليه، في صيف 1931، التوجه إلى طنجة قصد الاستجمام هناك. لقد كان السفر إلى المغرب، بالنسبة إلى بول بولز، مجرد فرصة للعودة مجددا إلى الموسيقى التي هجرها منذ مدة، لكن مشهد طنجة، بألوانها وأصواتها وطقسها، شكل مفاجأة غير متوقعة. هكذا عبر في بعض كتاباته عن اندهاشه للمشهد الآسر الذي صادفه وهو يخترق متاهات المدينة القديمة، مكتشفا على حين غرة معمارها وجلاليب سكانها وعتمة طرقها الخلفية اكتشاف من يرى كل ذلك في حلم غريب. عاد بول بولز بعد ذلك إلى طنجة، عدة مرات، لكن أسفاره، منذ سنة 1934، اتخذت وجهة لها أمريكا الوسطى، وهكذا انقطع عن زيارة المغرب ثلاث عشرة سنة عمد خلالها إلى الاشتغال ملحنا محترفا لقطع موسيقية وباليهات، ومؤلف لبعض المسرحيات التي كانت تقدم على خشبات برودواي أو لبعض الأفلام السينمائية موسيقى تصويرية. وفي سنة 1937 تعرف بول بولز على جين آور فأعجب بشخصيتها المتمردة والغريبة وإصرارها على أن تصير كاتبة متميزة. وإثر زواجهما سافرا إلى أمريكا الوسطى ثم عرجا على فرنسا حيث كانا كلما التقيا في باريس، على سبيل الصدفة، مارا مغاربيا يتحدث لغته الأصلية، إلا وقال لجين مازحا: «لعله قادم من طنجة» فكانت تتجاهل ملاحظته بإصرار. صوت المؤذن في سنة 1947، وهو في نيويورك، صحا بول بولز من منامه ذات ليلة ظانا أنه يسمع صوت المؤذن: كان يحلم في الواقع بطنجة التي غادرها منذ سنوات طويلة. وفي متاهة لا وعيه كانت يد الخيال ترسم مشهدا بالغ الوضوح: مشهد الطرق المتعرجة، والشرفات التي تنظر إلى البحر، والأدراج والسلالم التي تلتوي دون أن تؤدي إلى أي مكان. إثر ذلك قرر قضاء الصيف في المغرب لكتابة روايته «السماء الواقية» في انتظار أن تلتحق به زوجته هناك. هكذا بدأ بول بولز إقامته التي ستتواصل أكثر من ستين سنة، حيث تنقل في بادئ الأمر بين منازل بسيطة في طنجة القديمة، قبل أن يستقر في شقة صغيرة لم يكن ينقطع عنها سيل الزوار يوميا، إلى أن يخلد الكاتب للنوم حوالي الثامنة مساء. لقد توفيت زوجته سنة 1973 إثر انهيارات عصبية متتالية ونزيف في الدماغ، أما هو فإن تصلب «عرق النسا» لم يكف عن مداهمته إلى أن أوشك على إقعاده دون حراك. وفي أواسط التسعينيات سافر بول بولز إلى إحدى المصحات بولاية أطلنطا، حيث أجريت له عملية جراحية لاستئصال ورمين سرطانيين من أنفه وصدغه نتج عنهما تشوه غائر في أحد خديه. إننا لن نكون مبالغين إذا قلنا إن أهم نتاج بول بولز الأدبي هو ذلك الذي استوحاه من شمال إفريقيا أو من المغرب بصفة خاصة، ونعني بالذات قصصه القصيرة ورواياته «السماء الواقية» (1949) و«دعه يسقط» (1955) و«بيت العنكبوت» (1962) التي تعبر عن وضعيته كمنفي إرادي وعن رغبته الاستقرار في مرويات الآخر. لقد سئل ذات مرة لماذا تغادر شخصياته المأمن الذي تشكله بيئتها المتوقعة بحثا عن عالم ذي جغرافيا سديمية؟ فأجاب: «السبب بسيط، وهو أنه لا وجود البتة لبيئة متوقعة، فالأمن الوجودي مفهوم زائف». هكذا شكلت مسألة العلاقة بالخارج وما يرتبط بها من ملامح التعرض والتلفع المحرك الرئيسي لقصص بولز ورواياته وما منحها شكلها المميز. لقد كتب قصته القصيرة الأولى «شاي فوق الجبل» سنة 1939، وكانت وقائعها تجري في طنجة إبان الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث وتيرة التحول بالغة السرعة، والمثاقفة الضارية في ذروة احتدادها. وإنه ليس من المتعذر على قارئ «السماء الواقية» أن يلاحظ أن الرواية لا تلخص فقط وساوس بول بولز الذاتية، وإنما تعبر عن وجهة نظره حيال السفر وإشكال المثاقفة المترتب عن السياحة داخل مجتمعات تبدو وكأنها تشكل منظومات مكتفية بذاتها مثل الصحارى والمدن التقليدية المسورة بتاريخ سحيق. لقد اتخذت رواية «دعه يسقط» من طنجة أواخر الأربعينيات مكانا لبلورة الضياع الروحي الذي تتخبط فيه شخصياتها، ذلك أن المتن الحكائي لهذه الرواية محكوم باستحالة تحقيق أي مشروع مصيري. ومن الملاحظ أن الملامح الأساسية لحبكة «بيت العنكبوت»، التي تجري أحداثها في فاس عقب نفي الملك محمد الخامس، تعتمد على وجود عالمين متجاورين لكنهما يواجهان مصيرين متعارضين، حيث يتجلى هذا الموقف في تشكك حاد، وعجز عن القبول كلية بالحقيقة، واستماتة في التشبث بموضوعية ترفض الاحتكاك بالتباسات الحياة كما هي. تحولات مضمرة لقد لاحظ بعض النقاد أن عنصر الاغتراب يعتبر حاسما في جينيالوجيا تخييل بول بولز وفي صياغة ثوابت بلاغته السردية. وإذا كان هذا التحليل لا يرقى الشك إلى صوابه على الإجمال، فإنه يمكن القول إن من أكثر نتائج هذا الاغتراب لفتا للانتباه التحولات الأسلوبية التي، إذا كانت مضمرة في روايات الكاتب الأمريكي، فإن قصصه القصيرة شكلت مسرحها الاستثنائي. من هنا يمكننا أن ندرك أن بول بولز لم يستعمل فضاءي شمال إفريقيا والمغرب كخلفية للتعبير عن هواجسه فقط، وإنما حل فيهما حلول المكتشف الذي يغدو بدوره موضوعا للاكتشاف. إن الملاحظ لا يستطيع إلا أن يستغرب لطبيعة مقام بول بولز في المغرب: لقد كان هنالك في البداية افتتان بفضاء طنجة الذي كان زاخرا، في الأربعينيات، بحيوية مجتمع كوسموبوليتي، يعيش على مشارف تاريخ مضطرب، لكنه يقتنص في مدينة البوغاز ملذات وضعه المنفلت. بيد أن نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات حملت للكاتب الأمريكي نذير تحول حاسم، بدأ بهجرة الأجانب وخمول نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وانتهى بأن خلعت طنجة صفتها كمنطقة دولية لتغدو مدينة عادية تتعرض لنفس المشاكل العمرانية والديموغرافية التي عرفتها بقية مدن المملكة. ويعتقد بعض مؤرخي الحياة الثقافية المحلية أن بول بولز نظر إلى استقلال المغرب نظرة توجس، ليس لكونه حرمه حلم المدينة التي دغدغت وجدانه، وإنما لكونه وضع المشهد التقليدي للمغاربة برمته على محك عصرنة هوجاء كان الكاتب يعتقد أنها ستدمر هويتهم. من هنا يبدو أن بول بولز كان ينطوي على اغتراب لا حد له تجاه تاريخ البلد الذي عاش فيه: لقد اختلط ولا شك بأهالي طنجة، وعاشرهم، وأصغى لمروياتهم وترجمها، لكنه ظل حريصا دائما على فرض مسافة محددة المعالم بينه وبينهم، هي مسافة خيبة الظن إزاء ما يحدث يوميا من تحولات جسيمة لم يكن منطقه يتوقعها. مع ذلك لم يتوان بولز، كأي مواطن، عن الجهر بالشكوى من سوء أحوال مهجره: فقد تأسف لكون طنجة أغرقت بمشاريع عمرانية تثقل كاهل مدارها الحضري، وأن ثمن السلع الضرورية لم يتوقف عن الارتفاع، وأن الطقس لم يعد كما كان من قبل حيث غدا متقلبا بشكل جنوني، وأن شواطئ المدينة اكتسحها تلوث مريع. أما على الصعيد الفردي فقد كان الكاتب يشكو من عزلة حادة لم يشعر بها بعد وفاة زوجته فقط، وإنما إثر ذهاب العديد من أصدقائه عائدين إلى بلدانهم الأصلية حيث قضى أغلبهم نحبه. ورغم أن أصدقاءه المغاربة ظلوا مواظبين على زيارة شقته حين أقعدته أمراض شتى، فإنه لم يكن يشعر بأي ود تجاههم: لقد كان يتحدث إليهم باقتضاب، وأحيانا كان يفضل الإغراق في الصمت ناظرا إليهم، من ركن فراشه، نظرة ارتياب وتوجس. نزعة قدرية في هذا الإطار يمكن الحديث عن تدهور علاقته بكل من الراوي محمد المرابط والكاتب الراحل محمد شكري اللذين كان لبول بولز الفضل في التعريف بإنتاجهما الشفوي والروائي على الصعيد الأنجلوساكسوني، واللذين اتهماه في أحاديث صحافية، أو في كتاب شكري «بول بولز وعزلة طنجة»، بالنصب والتدليس والتحايل على حقوقهما الأدبية دون أن يتمكنا من البرهنة على ذلك. لكن بول بولز لم يكن قلقا قط على وضعه الاعتباري رغم كل شيء: كان يعتقد أن أحدا لن يهرب من مصيره، وكان يتساءل أحيانا ما إذا كانت نزعته القدرية جاءته من إقامته الطويلة بين المغاربة، أم أنه اختار العيش بينهم لأن قدريته وجدت صداها فيهم. ولم يكن المثقفون المغاربة، التقليديون واليساريون على حد سواء، ينظرون بدورهم إلى بول بولز نظرة متفهمة، وخاصة على صعيد عمله كإثنوغرافي ومترجم. ففي السنوات الأولى للاستقلال قرر الكاتب، بدعم من مكتبة الكونغرس الأمريكي، البحث في مناطق الأطلس والريف والصحراء عن الموسيقى والأهازيج الشعبية (العربية والحسانية والأمازيغية) قصد تسجيلها، إنقاذا لها، كما كان يعتقد، من دمار محقق بسبب هيمنة الميولات التحديثية للسلطة والمجتمع بالمغرب في ذلك الوقت. لقد قوبلت هذه العملية بارتياب كبير، كما وضعت في طريقها عراقيل مادية شتى، وكان مبرر ذلك كله أن عمل الكاتب إنما كان يرمي إلى «وضع فلكلور متخلف وبدائي أمام أنظار العالم بغية تشويه صورة المغرب الذي كان يطمح إلى عصرنة أوضاعه». هذا الموقف سيتكرر بشكل أعنف في أواخر الستينيات، وذلك عندما شرع بول بولز في تسجيل وترجمة حكايات بعض الرواة المغاربة (أحمد اليعقوبي، محمد المرابط، والعربي العياشي) التي تتميز بخارقيتها، ونزوعها إلى التعبير عن الانحرافات الجنسية والخلقية التي تميز مجتمعا هامشيا متشبعا بالسحر والأباطيل. بيد أن موقف المثقفين المغاربة كان يتميز، هذه المرة، باعتماده على خلفية تتصل بنقد الكتابات الاستعمارية التي كانت ترمي، في نظرهم، إلى إبراز صور العتاقة في المجتمعات التقليدية قصد توظيفها توظيفا غرائبيا يتجاهل العلاقة الجدلية التي تميز صيرورة مجتمع نام يخوض مرحلة تحرر ثقافي. هكذا وقع بول بولز، ربما دون أن يدري، في فخ صراع محتدم يتجاوز نواياه، فأصبحت ترجماته لنصوص أولئك الرواة محل نقد شرس من طرف مثقفين معروفين باهتماماتهم الأدبية وحرصهم على إبراز البعد التاريخي للتطورات الثقافية التي جرت في بلدهم. وسيكون من غير المجدي، اليوم، وقد توارى كل ذلك وراء غبار السنين، الدفاع عن هذا الموقف أو ذاك أو تبريرهما على الأقل. فالسياقات التاريخية لها منطق ظرفي، لكن مرور الوقت قد يسهم في بلورتها أحيانا: أليس من المفارقة أن أحد أولئك المثقفين الذين أدانوا النزعة الإغرابية لدى بول بولز، وهو الطاهر بن جلون، تُوجَّه اليوم إلى كتاباته أصابع الاتهام نفسها؟ في صيف 1991، زرت بول بولز في شقته عصرا، وكانت زيارة تعارف حدثته خلالها عن اهتمامي بأدبه واستأذنته في ترجمة بعض إبداعاته. وفي ربيع 1993، زرته مرة ثانية صحبة الراحل محمد شكري، وذلك بمناسبة صدور كتابي «البستان» (1992) الذي ترجمت له فيه عشر قصص، وحينها أهديته نسخا من الكتاب قبل أن يهديني نسخة من روايته «السماء الواقية» باللغة الإسبانية. أعتقد أن الوقت الذي قضيته معه في الزيارتين لا يتجاوز الساعة، لكني ما زلت أتذكر إلى اليوم عينيه الزرقاوين المبللتين، وصوته الأجش، ويديه المغضنتين، وابتسامته الحذرة التي لا تطمئن لأي شيء...