كيف تمثل الكتاب الأجانب، الذين عاشوا في مدن مغربية في القرن الماضي، الواقع المغربي؟ وهل حكمت تصوراتهم أحكام جاهزة؟ وكيف يمكن اليوم التعامل مع هذه النصوص الأدبية؟ هل بوصفها نصوصا تخييلية أم مفاتيح لفهم تجليات الرؤية الاستشراقية من قبل كتاب أوروبيين وأمريكيين، اتخذوا من الواقع المغربي مادة لأعمالهم الأدبية، ضمن التجليات العامة لهذا الأدب، التي من مقوماتها الإغراب الأدبي والرؤية السحرية التي تدور في فلك المتحضر والبدائي؟. عندما جاء بول بولز إلى طنجة في الثلاثينيات من القرن الماضي، واستقر بها، مضى يكتب الرسائل تلو الأخرى إلى أصدقائه من الكتاب والفنانين الأمريكيين، يحثهم على زيارة هذه المدينة، ويحرضهم على الإقامة فيها. كان همه الوحيد أن يجد من يشاطره هذه الجنة الأرضية، هو الذي كان يصرح على الدوام «لا يمكن أن تقضي شهر العسل بمفردك». وهذا ما نجده تحديدا في الاندفاع الحذر في التعرف إلى ثقافة من كانت النظرة الكولونيالية تسميهم «الأهالي». ولذلك، فإن هذا الآخر وجد نفسه أمام كنز ثمين وأراض بكر لا يستطيع وحده أن يشغلها، مهما كتب، أو ألف من موسيقى، أو جمع تسجيلاته التي كان يرسلها إلى مكتبة الكونغرس الأمريكي. بول بولز، نفسه، لم ينج من هذا الكليشيه الجاهز عن العربي عموما، والمغربي على وجه التحديد. لذلك كان يكتب في رسائله ما يشبه التعليمات إلى الأوروبيين الراغبين في الاستقرار بالمغرب.ومن بين هذه التحذيرات، أخذ كامل الاحتياطات من المغاربة، وإبقاء العلاقات معهم في حدود معينة، وأخذ الحذر من اللصوص، وتوظيف حراس للمنازل، وتجنب السكن في الأماكن المعزولة. وفي هذا الباب يسوق عددا من الوقائع، من بينها، مثلا، مقتل زوجين أوروبيين عجوزين في بيتهما على يد لصوص كانوا يظنون أنهما يملكان مالا، ومقتل يهودية عجوز على يد عامل في ورش بناء، بعد أن سرق ترانزيستوره الأخضر، ولم تكن العجوز غنية كما اعتقد، وهو ما اعترف به اللص، عندما أكد أنه ما كان ليقدم على قتلها لو كان يعلم أنها بلا مال. بول بولز عراب الغربيين لم يتوقف بولز أثناء إقامته الطويلة في طنجة على مخالطة كل أشكال البشر، من أناس عاديين ومن كتاب وفنانين، لكنه، في الآن نفسه، كان يبدي شغفا كبيرا بأصحاب المواهب الفطرية، أولئك الحكواتيين الذين كانت لهم ملكة خاصة على الحكي، وعلى بث عناصر حكاية في غاية الغرابة في نصوصهم الشفوية التي تعود إلى مئات السنين، أو من خلال تلك النصوص الشائقة، التي كانوا يؤلفونها تأليفا ضمن خلية إنتاجهم المتحركة. كانت هذه الحكايات هي مصدر إلهام بولز، وغيره من الكتاب الأوروبيين، الذين وجدوا في المغرب المادة الأدبية البكر، والجرعة الضرورية من الدهشة ومن الإبهار والتغريب التي بدأت الكتابة في الغرب تفقدها تدريجيا، مما هدد بقرب جفاف تلك المصادر، وحرك جيشا كبيرا من الكتاب والرسامين والمبدعين والمخبرين الغربيين في «غزوة» لم يشهدها العالم العربي من قبل، بحثا عن جوهر هذا العالم «الغريب والمتوحش». وتعزز هذا البحث المحموم مع الإنجازات الموازية التي حققتها الأنثروبولوجيا الأنغلوساكسونية والفرنسية، بعد أن أصبح العيش ضمن «العشيرة» جزءا من مصداقية البحث الأنثروبولوجي. وهذا ما زخرت به نصوص بول بولز تحديدا، لكن مادة كتابته كان ينظر إليها على أنها نوع من التشريح الذهني والسيكولوجي ومن الرؤية السوسيولوجية للمجتمع المغربي. في مجموعته القصصية «العقرب» يتحدث بولز في إحدى قصصه عن مروض الأفاعي الذي سيصير حنشا، في وصف أشبه ما يكون ب»المسخ» الكافكوي، لكنه هنا مسخ ناتج عن مخدر»الكيف» الذي يدمنه المروض. ونتيجة العلاقة اليومية الملتبسة والخطرة، التي تربطه مع كائناته السامة والقاتلة، يتحول المروض بفعل المخدر إلى كائن آخر. إنه يستعير حراشف الحنش وبطنه الأملس وإحساسه.. إحساس حنش مطارد في الأحراش من طرف الأهالي الذين يلاحقونه، ولا يجد من بد للدفاع عن نفسه إلا بارتكاب بعض الشر، فلدغته هي سلاحه الوحيد، الذي يشهره في وجه الجميع للإفلات بجلده والبقاء على قيد الحياة. التوق نفسه للقبض على «البدائي» نجده عند الكاتب الفرنسي جون ماري لوكليزيو الحائز على جائزة نوبل في 2008، لكن هذه المرة، مع الفارق، فلوكليزيو فهم اللعبة جيدا، وتزوج من فتاة من الجنوب المغربي اسمها «جمعة»، هي التي ستكون مصدرا من مصادر إلهامه وحكاياته التي اتخذت من الفضاء المغربي إطارا لها، أو تلك التي اهتمت بشكل واضح بموضوع «الصحراء»، بما هي فضاء مفتوح على المغامرة وعلى التيه. ونجد ذلك بشكل واضح في روايته المعنونة ب»بعد صحراء». و»جمعة» لم تكن مجرد زوجة وأنيسة وحدة، بل أيضا كاتبة، شاركته كتابة كتاب «أناس الغمام»، وفيه يتحدثان معا عن رحلتهما الصحراوية وعن عالم الطوارق. يكتب لوكليزيو عن هذه التجربة: «كنت أذهب نحو المجهول، فيما كانت جيما (جمعة) تعود نحو ماضيها».
كليشيهات جاهزة لم يدر لوكليزيو وجهه للمغاربة كما فعل بول بولز، الذي اختطف رواياتهم الشفهية وقصصهم وحررها بالإنجليزية ونسبها إليه وربح من ورائها أموالا طائلة، دون أن يدفعه ذلك إلى مزيد من العرفان بفضل هؤلاء عليه، وعاش مترملا فترة طويلة على سرير مسجى في طنجة إلى أن مات، ولم تشفع له روايته «شاي في الصحراء» كي يجسد «ثقافة القرب»، كما صنع لوكليزيو عندما بحث عن هويته الأخرى في الجنوب المغربي وفي طرق قوافل صحراء شنقيط. من الملفت للانتباه أن لوكليزيو سينشر جزءاً من روايته «نجمة تائهة» في مجلة «دراسات فلسطينية» في طبعتها الفرنسية، وتحكي الرواية عن حياة المخيمات الفلسطينية. وقد جر عليه هذا النشر في التسعينيات من القرن الماضي موجة استعداء من اللوبي الصهيوني، الذي طارده في صحفه وفي مؤسساته التابعة له. لكنه عرف كيف يفلت من ذلك الحصار الممنهج، ويحقق مجده الأدبي، في الوقت الذي كان الوسط الثقافي الفرنسي ينظر إلى أدبه بجدية أقل. زار لوكليزيو المغرب كثيرا، وتحدث في العديد من اللقاءات، ووقع كتبه، كما قام الروائي المغربي محمد برادة بترجمة مجموعته القصصية «الربيع وفصول أخرى» إلى العربية. يشبه لوكليزيو، في هذا الإطار، الكاتب والمسرحي الفرنسي جون جينيه، الذي اختار أن يقضي آخر أيامه في مدينة العرائش، المطلة على المحيط الأطلسي، وأوصى أن يدفن في مقبرتها البحرية. تلك المقبرة التي كان يزورها يوميا ويقضي فيها بعض الوقت يرقب المحيط ويتطلع إلى اللانهائي. لم يكتب جان جينيه نصا عن المغرب، لكنه عاش فيه آخر أيامه. اختار هذا الكاتب «الملعون» أن يبتعد عن طنجة وضجيجها، وهو من هؤلاء الكتاب الغربيين الفضوليين الذين يأتون إليها بحثا عن شيء ما يداوون به جراحهم، وفضل أن يعيش هنا، في مدينة البحر والصيادين، مستسلما لقدره. ولعل القارئ يذكر نصه الكبير» أربع ساعات في شاتيلا»، وهو بمثابة تقرير عن الزيارة التي قام بها إلى شاتيلا عقب المجزرة. زيارة ونص شكلا إدانة للغطرسة الصهيونية من «ضمير الغرب الحي»، ومن مثقف حر مثل جينيه. لنقرأ بعضا مما كتبه في نص «أربع ساعات في شاتيلا»: «الصورة الفوتوغرافية لا تستطيع أن تلتقط الذباب ولا رائحة الموت الأبيض، ولا تستطيع أن تترجم القفزات التي يجب القيام بها بين كل جثة وأخرى». في المقابل سنجد كاتبا مثل الكاتب الألماني إلياس كانيتي قد اندمج كليا في الفضاء المغربي، من خلال المحاولة الموفقة، التي قام بها في قبضه على أجواء أشهر ساحة في العالم ما تزال تقام بها الفرجة الشعبية، وهي ساحة «جامع الفنا» في مراكش. ثمرة هذا التمثل كان روايته الشهيرة «أصوات مراكش»، التي عبر فيها عن هذا التداخل البشري في هذه الساحة الغريبة، التي يهجم عليها البشر من كل الأنحاء، قبل أن تبتلعهم في النهاية، وترميهم خارجها مع حلول الليل. غويتيسولو وتكسير النمط لكن كاتبا آخر، هو خوان غويتيسولو، جعل من مراكش مدينة للإقامة، بعد أن بدأ البريق الدولي يخفت عن طنجة. جاء غويتيسولو إلى مراكش، وأقام في المدينة القديمة قرب ساحتها الشهيرة، ومن هناك في جلساته الهادئة في مقهى فرنسا، كان يرقب الناس ويتعرف إلى المغاربة وعاداتهم، كما كان يزوره أصدقاؤه من الأوروبيين، للتمتع بهذا الفردوس الأرضي المخبوء. يقيم غويتيسولو المعروف بنزعاته الإنسانية ستة أشهر في مراكش، والباقي يقضيه متنقلا في أنحاء العالم، وهو من أشد المدافعين عن الثقافة العربية، وعن حضورها كثقافة مؤثرة، سواء في إسبانيا أو العالم. يكتب من هذه المصادر المشتركة العربية الإسبانية، أو لنقل الموريسكية، ما يمنح كتابته طابعا خاصا.ونجد ذلك على وجه التحديد في روايته «أسابيع الحديقة»، التي تطرح قضايا ميتافيزقية، كما هو شأن الكثير من أعمال هذا الكاتب. وتدور أحداث الرواية في مدن مثل إشبيلية ومليلية وطنجة والدارالبيضاء ومراكش، في مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية. وهو نفسه لا ينجو من الرؤية الغرائبية التي يضفيها على الواقع المغربي، في تلك الفترة من أربعينيات القرن الماضي، من خلال حديثه عن الأضرحة والأولياء.بل إنه حتى في نصوصه المتأخرة مثل «البستان» يمضي عميقا في العمل على قضايا الحرية الفردية والمصائر المجهولة ومرايا الذات التي تبحث عن خلاص، خلاص لا يجده إنسان اليوم، في ظل الحروب وهيمنة الشمال على قيم وثقافات وخيرات الجنوب.
كتاب عالميون ارتبطوا بطنجة من بين الكتاب والفنانين الكبار، الذين زاروا طنجة أو أقاموا بها فترات قصيرة أو طويلة، يمكن ذكر الكاتب المسرحي والروائي الأمريكي تينسي وليامز، والكاتب الفرنسي جان جينيه، والمخرج الإيطالي بريناردو بيرتولوتشي، الذي صور في طنجة بعض أحداث الفيلم الشهير «شاي في الصحراء»، المأخوذ عن رواية بول بولز «السماء الواقية»، والكاتبة الفرنسية فيليسي ديبوا، والكاتب المسرحي صامويل بيكيت، والرسام العالمي يوجين دولاكروا، والكاتب الأمريكي جاك كرواك، الذي اعتبر أحد أبرز رواد «جيل الغضب» الأمريكي. تعقب الكاتب المغربي محمد شكري هؤلاء الكتاب الكبار، وجلس إليهم، وكتب عنهم بعض الكتب، منها كتابه عن جان جينيه المعنون ب»جان جينيه في طنجة» وانطباعاته حول الكاتب الأمريكي غريب الأطوار تينسي وليامز، وعنونها ب»تينسي وليامز في طنجة»، إذ تحدث في الكتاب عن صلافة وليامز وعصبية شخصيته، كما صفى حسابه مع من قدمه إلى العالم، ويتعلق الأمر ببول بولز، الذي ترجم روايته «الخبز الحافي» إلى الإنجليزية، قبل أن تنشر بالعربية والفرنسية، وعنون الكتاب ب»بول بولز وعزلة طنجة». ومحمد شكري هو أحسن من يروي عن علاقة هؤلاء الكتاب بالمغرب والمغاربة، ولم يكن يجد غضاضة في الكشف عن مشاعرهم الحقيقية، كما هو حاله مع بولز الذي أسدى له خيرا كبيرا بأن حوله إلى كاتب مشهور وعالمي. لكن شكري ظل مشغولا ومهووسا بالنجاح الأدبي الذي يحققه هؤلاء انطلاقا من قواعد إقامتهم في المغرب، بينما لا يستطيع الكتاب المغاربة أن يقبضوا على البلورة السحرية التي تصنع النجاح. كان شكري كلما غاب عن طنجة يوما أو أياما لأسباب ثقافية لا يتورع عن اللحاق بها في أول قطار، فهي ماركة عالمية، يصنع الانتماء إليها النجاح والحظوة والمجد الأدبي.