الفترة التي قضاها محمد اليعقوبي بمدينة طنجة واليا بالنيابة، مكنته بالتأكيد من وضع تشخيص دقيق لمختلف الاختلالات التي تعرفها عروس الشمال على جميع المستويات، تعلق الأمر إذن بالنيات التحتية، بوضعية الطرق والسير والجولان، بجودة خدمات المرافق العمومية(النظافة، النقل، الماء والكهرباء وتطهير السائل...)، بتهيئة الأحياء الناقصة التجهيز، إلى غيرها من الاختلالات... وهو التشخيص الذي تم الاستناد إليه لوضع المحاور الكبرى لمشروع "طنجة الكبرى" الذي يراهن على اعتماد مقاربة جديدة تأخذ بعين الاعتبار تجويد البيئة الحضرية والاهتمام بالعنصر البشري وتطوير المؤهلات الاقتصادية للمدينة دون إغفال البعدين الثقافي والديني، ويستهدف وضع أسس تنموية مندمجة ومتوازنة وشاملة من شأنها أن تجعل من مدينة طنجة نموذجا غير مسبوق في المغرب وفي دول جنوب الحوض الأبيض المتوسط. غير أن أي مجهود سيتم بذله لإعادة هيكلة المدينة وتجميل فضاءاتها، ومهما بلغت حجم الاستثمارت المرصودة لإنجاز الطرق الالتفافية وترحيل المرافق من وسط المدينة وبناء مواقف السيارات التحت أرضية، كل ذلك لن يجعل من مدينة طنجة نموذجا يقتدى به وطنيا وجنوب الضفة المتوسطية ما لم يتم وضح حل نهائي للزحف السرطاني للعشوائيات التي تحولت قنابل موقوته قابلة للانفجار في أي لحظة... لم يعد خافيا أن مدينة طنجة تعرضت منذ انطلاق تظاهرات 20 فبراير 2011 إلى أكبر زحف للعشوائيات شهدته المدينة عبر تاريخها، ففي أقل من سنتين تم استنبات عشرات الآلاف من الوحدات السكنية المفتقرة لأي تجهيزات أساسية، لا قنوات الصرف الصحي، لا ماء صالح للشرب، لا كهرباء، ناهيك عن انعدام أي مرافق مصاحبة من مدارس و مستوصفات صحية... ما وقع في طنجة خلال سنتين يعتبر جريمة لا تغتفر، لقد أصبحت طنجة أول مدينة عشوائية بالمغرب، فنسبة العشوائيات تقارب %50 من مجموع المباني المتواجدة بالمدينة، وحيث أن لكل أزمة تجارها، فإن الظروف الأمنية التي عرفتها المدينة تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية خلقت أيضا المستفيدين من هاته الوضعية، إذ يستحيل أن يقع ما وقع من بناء عشوائي لولا التواطؤ المكشوف لمسؤولي الإدارة الترابية من قياد وأعوان سلطة الذين كانوا يستغلون توجيهات الإدارة الترابية بتجنب الاحتكاك مع المواطنين لإطلاق يد مافيا البناء العشوائي التي أصبحت تعيث فسادا وتتصرف وكأنها صاحبة السلطة الحقيقة على الأرض. اليوم وبعد أن تم تثبيت الوالي اليعقوبي في منصبه، يبدو أنه شرع في تنزيل مقاربته لمعالجة هكذا اختلالات، فقد أعلن صراحة، عند استقباله لمكتب مجلس مقاطعة بني مكادة يوم الثلاثاء المنصرم، عن طي صفحة الماضي حيث كان التسيب والتساهل مع معضلة البناء العشوائي، مؤكدا قراره بإحالة كل من تبث تورطه من مسؤولي الإدارة الترابية وأعوان السلطة والمنتخبين على النيابة العامة وتحريك المتابعة القضائية في حقهم. هي خطوة يجب الإشادة بها، لكن ما يجب التنبيه إليه أن المقاربة الزجرية لمواجهة العشوائيات لا يمكن بأي حال من الأحول حصرها على المنتخبين، واهم من يعتقد أنهم يتحملون وحدهم المسؤولية، لهم نصيب منها بالتأكيد، لكن من غير المنصف على الإطلاق أن تبقى الإدارة الترابية في منأى عن المساءلة لما لها من صلاحيات وسلطات تؤهلها للتدخل الاستباقي ومنع استفحال الأوضاع في مهدها، مثلما لا يعقل أن لا تتم محاسبة المسؤولين السياسيين الذين استغلوا السياق السياسي الذي مرت منه البلاد لتشجيع البناء العشوائي بحثا عن مكاسب انتخابية خدمة لمصالح حزبية ضيقة، والجميع لا زال يتذكر عشية انتخابات 25 نونبر وما أفرزته من فوز كاسح للحزب الأغلبي، كيف أن حيا بكامله تم استنباته بعيد الانتخابات البرلمانية سمي بحي بنكيران، وفي ذلك دلالة لا تخفى عن أعين من يهمه الأمر... لقد آن الأوان لفتح نقاش جدي حول وضع تصور متكامل لمعالجة معضلة العشوائيات بطنجة، إذ لم يعد ممكنا الاستمرار في منطق التحكم وامتلاك الحقيقة، بالأمس تم اتخاذ قرار تحكمي وغير قانوني بمنع التجزئات السكنية بدعوى محاربة ظاهرة احتكار البقع الأرضية المجهزة، وهو القرار الذي استفادت منه المؤسسات العقارية الكبرى التي استثمرت في السكن الاقتصادي وتم الرهان عليها لتغطية العجز الكبير في الوحدات السكنية، حيث تم الترخيص لها باستنبات صناديق إسمنتية تفتقد للحد الأدنى من مقومات السكن اللائق، لكن مع توالي السنوات تأكد الفشل الذريع لهاته المقاربة، وكانت النتيجة تزايد العشوائيات وبقاء آلاف الشقق الاقتصادية فارغة. لقد أكدت الوقائع أن زحف العشوائيات لا يمكن إيقافه بالاقتصار على المقاربة الزجرية على الرغم من أهميتها القصوى، لكنها لن تؤدي المبتغى منها ما لم تصاحبها إجراءات موازية خاصة على مستوى تسريع إنجاز تصميم التهيئة وضبط اتجاهات التوسع العمراني لمدينة طنجة، وكذا إلغاء القرار التحكمي بمنع التجزئات السكنية لأسباب يعلم الجميع أنها كانت لفائدة بعض الشركات الكبرى المستثمرة في مجال السكن الاقتصادي، مما ساهم في استفحال البناء العشوائي بسبب تفضيل أغلبية الأسر المغربية التوفر على سكن مستقل. إن البحث عن مقاربة متكاملة لمعضلة البناء العشوائي لا بد وأن تستحضر كل هاته الإكراهات، فالحلول الزجرية ضرورية، لكنها غير ناجعة، يجب استحضار ثقافة الأسر المغربية التي لا زالت ترفض السكن المشترك، في وضع الحلول المناسبة، وهذا المعطى يجب استحضاره عند معالجة مشكل العشوائيات، مما يطرح التساؤل عن المانع من الترخيص استثناء بإحداث تجزئات اقتصادية بالمناطق المحيطة بالعشوائيات توفر بقعا صغيرة مجهزة بالحد الأدنى من البنيات التحتية، وهذا سيساهم بالتأكيد في القضاء على البناء العشوائي. ما لم يتم وضع مقاربة متكاملة وموضوعية وقابلة للتنفيذ فإن البناء العشوائي سيتزايد وحينذاك سيصبح الرهان على مشروع طنجة الكبرى كمن يراهن على تنمية مدينة تسير بسرعتين متناقضتين الأولى تدفع المدينة إلى الأمام والأخرى تغوص بها إلى أسفل سافلين.