تنص المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أن الحق في الصحة من حقوق الإنسان الأساسية التي تضمنها الدولة، وينص الدستور المغربي على تيسير ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية ومن بينها الحق في الصحة. مقياس مدى تفعيل هذا الحق الذي يرتبط بشدة بحياة الفرد والجماعة يتحدد أساسا في الخدمات الصحية والطبية التي تقدمها المؤسسات الطبية العمومية التي تضمن الدولة سيرها وجودة خدماتها، حاولنا الدخول إلى تفاصيل يوميات طالبي هذا الحق وكيفية تعامل القطاع الوصي على صحتهم، ليس الأمر يسيرا عندما يتعلق الأمر بكشف حقيقة الوضع الذي تترنح تحته الصحة العمومية، وليس بالأمر البسيط أن تتمكن من الحصول على صور فوتوغرافية كدليل تحمله في حقيبة الصحفي استعدادا لبيان حقيقة أو احتجاج من طرف وزارة الصحة على عادة باقي المؤسسات العمومية التي تتيقظ جيدا عندما يتعلق الأمر بالحق في الولوج إلى المعلومة كما هي، لكننا تمكننا بعد رحلة من المفاوضات مع مصادرنا وبعد "انتحال" صفات عديدة من ولوج مستشفى محمد الخامس الجهوي بمدينة طنجة لتنقل لقرائها جزء من حقيقة هذا المستشفى الذي يعد الأكبر في جهة الشمال كاملة. قسم المستعجلات... الطريق إلى جحيم الصحة الساعة تشير إلى الرابعة والنصف تقريبا من مساء جمعة طنجاوي، حراس الأمن الذين ينتشرون بردهات المستشفى الإقليمي محمد الخامس بطنجة يحرصون على مراقبة استخدام الداخلين إليه لآلات التصوير والهواتف النقالة أكثر مما يحرصون على أمن المستشفى والمرضى، هنا قسم المستعجلات الذي يستقبل المئات من المرضى والمعطوبين، أول صورة استقبلتنا في بوابة القسم شاب في وضعية صعبة ينام عند بوابة بناية صغيرة مواجهة لقسم المستعجلات، وعدد من الوجوه الشاحبة التي تنتظر دورها لرؤية طبيب متجهم يصعب عليه الكشف على كل زواره. عند مدخل قسم المستعجلات وفي ركن مقابل لحجرة الفحص يبدو مهجورا شخص ثان ينام فوق "الضص"، بينما عشرات المواطنين يتحلقون أمام باب حجرة ثانية مخصصة لتقديم الإسعافات الأولية للمصابين بجروح أو كسور، في المقابل من النادر أن تصادف واحدا من أصحاب البزة البيضاء وفي أحسن الحالات يجيبك أحد الممرضين باقتضاب في حال استفسرته عن أمر يتعلق بمقابلة طبيب أو الوجهة التي عليك أن تتخذها للوصول إلى قاعة العلاج، وأصعب شيء يمكن أن يحدث داخل بناية المستشفى هو التقاط صورة للوضعية الكارثية للمستشفى، وعندما حاولنا التقاط صور لحالة المستشفى وطوابير المرضى وجدنا أن أول من يواجهنا هم المرضى أنفسهم. شابة بلباس أفغاني توجهت نحونا بنبرة صارمة عندما حاولنا التقاط صورة في الخفاء "إذا صورتيني مانتفاهموش" ولم تتوقف عن متابعة تحركاتنا، شاب تبدو الدماء على خده مضمدة جرحا ناتجا عن طعنة بالسلاح الأبيض أسر لنا بصوت هامس أن الشكوى داخل المستشفى خاصة إذا كانت موجهة إلى صحفي بمثابة مخالفة جسيمة قد تكلف صاحبها عناء كبيرا، الشاب الذي تحدث إلينا لم يكن دافعه كشف المستور بعد أن تتبعنا خطواته لنكتشف أنه أصيب بجرح غائر في خده الأيمن بعد دخوله في شجار مع شخص ثان، شجار كان سببه اعتداء الشاب على فتاة بالضرب وهي الفتاة التي كانت ترافق الشاب في خطواته وآثار كدمات بادية على وجهها وإحدى عينيها، وبعد اكتشاف شخص ثالث كان يرافق الشاب والشابة المتخاصمين أن فضوليا يتجول في المستشفى انتقل الثلاثة إلى ركن قصي في قسم المستعجلات وهناك بدأت فصول مفاوضات حضر فيها أحد عناصر الأمن بزي مدني، وبما أن الأمر أصبح مكشوفا تكلف مرافقي بإتمام المهمة واقترب من المجموعة ليكتشف أن محاولة للصلح بين الأطراف تجري قبل مغادرة الجميع لبناية المستشفى، إذ أن الشاب المصاب بجرح في الخد اعتدى على الفتاة بالضرب لتتصل الأخيرة بشقيق لها حضر فورا إلى مكان الاعتداء حيث وجه طعنة بآلة حادة للمعتدي. الشاب والشابة توجها إلى قسم المستعجلات لتلقي العلاج حيث حصل كل واحد منهما على شهادة طبية تثبت إصابته بعجز لم نتمكن من معرفة تفاصيله، فيما اتصلت إدارة المستشفى بمصالح الأمن التي حضرت إلى عين المكان، وبعد دخول الشرطة على خط النزاع طلبت الفتاة من الشاب المصاب أن يتنازل عن متابعته لشقيقها في مقابل أن تتنازل هي عن متابعته قبل الوصول إلى مركز الشرطة. في الجانب المقابل لحجرة الفحص قاعة تحتضن 8 أسرة يرقد فوقها مرضى أو مصابون بجروح خطرة أو كسور، لم نتمكن من أخذ صورة للمشهد بعد افتضاح أمرنا حيث توجه نحونا رجل الأمن بزي مدني الذي كان يرافق الشاب والشابة بعد أن أثارته تحركاتنا وسألنا عن سبب وجودنا هنا، فأجبناه أننا نبحث عن شخص من العائلة نقل إلى قسم المستعجلات وبدا عليه أنه لم يقتنع تماما بجوابنا، واصلنا بعدها التجوال في قسم المستعجلات الذي يتكون من خمس حجرات ثلاثة مخصصة للعيادة الطبية وواحدة للعلاج وفضاء الانتظار الذي لا تتسع سعته الاستيعابية لأكثر من 20 شخصا على أقصى تقدير إضافة إلى ممر يتوسط الحجرات، بينما يستقبل القسم ذاته المئات من المرضى والمعطوبين غالبيتهم يضطرون إلى الوقوف مسندين بمرافقيهم أو بجدران القسم. بعد محاولات متكررة وتحت مظلات متعددة استطعنا إقناع أحد الأطباء بالحديث بعد تدخل شخص ثالث على معرفة بالطبيب، الأخير كشف للأخبار أن القسم الذي يفترض أن يكون في حالة تأهب دائم وما يقتضيه ذلك من توفير تجهيزات كافية وأطر طبية تسمح بتغطية كل الحالات التي يستقبلها القسم يعاني مما وصفه الطبيب ب"الفقر الشديد" في المعدات وحتى المتوفر منها يعاني من أعطاب متكررة أولها جهاز السكانير الوحيد المتوفر الذي غالبا ما يتوقف عن العمل ليضطر المرضى إلى التوجه نحو المصحات الخاصة لإجراء الفحوصات اللازمة، الطبيب الذي رفض الكشف عن اسمه أسر لنا أن موظفي وأطباء القسم سبق وأن طالبوا مصالح وزارة الصحة بتصحيح وضعية القسم الذي يعاني الدرجة الصفر من النظافة حسب ذات المصدر، وأضاف أن وزارة الصحة كانت قد وعدت في وقت سابق بوضع مخطط لإصلاح القسم المذكور بميزانية بلغت 300 مليون سنتيم من المفروض أن تنفق في ترميم القسم المتهالك وجلب المعدات الأساسية المتعلقة بتقديم الإسعافات الأولية، إلا أن وضعية القسم لم تتحس كما كان منتظرا. ممرات الموت بعد قسم المستعجلات توجهنا إلى الطابق الثاني الذي يضم قسما خاصا بالعمليات الجراحية، عشرات الخارجين من "بلوك" العمليات يتقاسمون الأسرة التي لا تكفي لإيواء كل مغادري غرفة العمليات، حيث يضطر بعضهم إلى تقاسم سرير واحد، وعندما تستفسر مسؤولا أو ممرضا وبطبيعة الحال دون أن تكشف نواياك الحقيقية من السؤال، يجبونك بأن "هادشي لي عطا الله... ماعندنا مانديرو ليهم" جواب مقنع إلى حد ما لأن الأطر الطبية والصحية تنتهي مهمتها عند تقديم العلاج ومسؤولية توفير المعدات والأسرة الكافية لكل المرضى تتحملها وزارة الصحة. مشاهد الحياة تتلاشى وسط الوضعية المزرية للمرضى، وضعية لن يتردد مسؤولو القطاع في نفيها لكن واقع الحال يؤكد بالعين المجردة أن حال القسم يجعل مجرد التفكير في زيارة المستشفى تسبب حالة اكتئاب ورعب في نفس كل من زار هذا القسم الذي "يرتاح" فيه الخارجون إلى الحياة بعد عمليات جراحية تختلف درجة خطورتها لكنها تنتهي إلى نفس المكان، وما يزيد من حالة الخوف التي تنتشر في ردهات القسم الوجوه المتجهة للممرضين والممرضات الذين اعتادوا على مثل هذه المشاهد وأصبحت جزء من يومياتهم، إحدى المريضات التي خرجت قبل يوم واحد من غرفة العمليات بعد إجرائها لعملية على الورك أسرت لنا أن شخصين اثنين اقتسما سريرا واحدا في الليلة الأولى التي قضتها بالمستشفى وأضافت وهي تلتفت يمينا ويسارا خوفا من ضبطها وهي تحكي لنا واحدا من أسرار المستشفى، أن المسؤولين عن القسم قالوا للمريضين أنه لا توجد أسرة كافية لكل المرضى لذلك عليهما أن "يقسما الصبر". ومن المشاهد المثيرة داخل غرف القسم أن تجد غرفة واحدة يتقاسم أسرتها رجال ونساء فالكل متساوون أمام المرض وأمام "عسر الحال"، إنه "قانون الندرة" الذي يصبح معه الحصول على سرير بمثابة غنيمة المنتصر. ممرات المستشفى تحمل رائحة الموت ولا يأتمن المرضى للحياة إلا بعد توصلهم بقرار مغادرة هذه البناية التي تخفي كثيرا من الأسرار ولا يمكن أن تخرج أسرارها إلى العلن إلا في السر، وكشف أسرار المستشفى الأكبر في شمال المملكة الذي يحمل صفة المستشفى الجهوي مجازفة في ذاتها، مجازفة لأن الأطباء العاملين في المستشفى متحفظون جدا عندما يتعلق الأمر بمواضيع مرتبطة بالمهنة وأسرارها، رغم أن المشاكل التي يتخبط فيها المستشفى لا تدخل ضمن أسرار المهنة، لكن الصحافة محظورة على العاملين في المؤسسات العمومية والحصول على المعلومة الحقيقية يقتضي مسلسلا من المفاوضات، وهو الأمر الوحيد الذي يحرص فيه مسؤولو المستشفى على احترام القانون ويطلبون من الصحفي أن يدلي برخصة تسمح له بالتصوير وأخذ تصريحات من الموظفين والمرضى. حاولنا الدخول في تفاصيل يوميات الأطر الصحية بالمستشفى، وبدا لنا أن الأطباء هم أول المشتكين من الوضع الذي وصفه أحد الأطباء بالمصيبة"، الطبيب الذي يعمل نصف يوم في قسم المستعجلات بمستشفى محمد الخامس والنصف الثاني من اليوم في مصحة خاصة قريبة من المستشفى العمومي، تحدث عن صراع يومي مع الخصاص الكبير في المعدات والإقبال المتزايد للمرضى على مستعجلات محمد الخامس بالرغم من افتتاح مستشفى ثان بالمدينة هو مستشفى محمد السادس الذي يتوفر بدوره على قسم مستعجلات، إلا أن المسؤولين على مستشفى محمد السادس الذي افتتح قبل سنوات قليلة غالبا ما يرسلون المرضى إلى مستشفى محمد الخامس بدعوى ضعف القدرة الاستيعابية، إضافة إلى المرضى القادمين من مختلف المناطق المجاورة لمدينة طنجة، ومنهم من يأتي من خارج الجهة لأسباب عدة في مقدمتها تواجد عائلات المرضى بمدينة طنجة وهو الأمر الذي يسهل عليهم متابعة حالة المريض. الطبيب يشكو عسر الحال لبناية لا تصلح لمستشفى الدكتور خالد لغنيمي طبيب مختص في جراحة الأطفال كشف أن أول مشكلة يواجهها العاملون في المستشفى وطالبي العلاج هو البنية المهترئة للمستشفى، حيث أكد الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحة فرع أطباء الصحة العمومية بطنجة على أن المستشفى الذي يفترض فيه أنه جهوي ويستقبل المئات من المرضى يوميا في ظل الارتفاع الكبير في وتيرة النمو الديمغرافي التي تعرفها مدينة طنجة إضافة إلى مدن أصيلة، العرائش والقصر الكبير، أن القدرة الاستعابية للمستشفى لا تكفي مطلقا لاستقبال طالبي العلاج القادمين من هذه المدن وحتى من خارج تراب الجهة، وكشف الدكتور الغنيمي الذي يعمل بمداومة المستعجلات إلى جانب جراحة الأطفال أن بناية المستشفى التي بدأ العمل داخلها في عام 1993 غير صالحة لمستشفى جهوي إلا أن وزير الصحة السابق الراحل عبد الرحيم الهاروشي اتخذ قرار إدخال ترميمات على المستشفى واستمرار العمل فيه. بناية المستشفى التي تقع فوق تل معزول مهددة بانجرافات قد تتسبب في انهيارات جزئية للبناية، وأكد الدكتور لغنيمي أن السيول التي تسببها الأمطار الغزيرة التي تعرفها مدينة طنجة كل عام تهدد سلامة المستشفى والعاملين فيه، وبالإضافة إلى المخاطر المرتبطة بشروط السلامة فإن المستشفى الذي يستقبل أكبر نسبة على الإطلاق من المرضى وطالبي العلاج في منطقة الشمال يتوفر على باب واحد، حيث أن كل زوار المستشفى يستخدمون مدخلا واحدا يؤدي مباشرة إلى قسم المستعجلات ومنه إلى باقي أجنحة وأقسام المستشفى، وهو الأمر الذي اعتبره الدكتور الغنيمي أمرا غير مقبول إطلاقا ولا يستجيب للمعايير المعمول بها في المستشفيات الوطنية "بلا مانقولو الدولية"، حيث يتوجب توفر أي مستشفى على مدخلين كحد أدنى واحد مخصص للحالات المستعجلة والثاني مخصص للعيادات الطبية والزوار، بينما مستشفى محمد الخامس يتوفر على مدخل واحد يستخدمه المرضى والزوار والأطر العاملة بالمستشفى، كما أن موقف السيارات المقابل للمدخل الوحيد غالبا ما يتسبب في مشاكل للازدحام الدائم الذي يعيشه. على كل زوار المستشفى أن يعبروا البوابة الوحيدة التي تستقبلك فيها مشاهد المصابين ضحايا حوادث السير والاعتداءات والمصابين بكسور، إلى جانب مرافقي المرضى وطالبي العيادة الطبية إضافة إلى كثير من الأشخاص في وضعية صعبة (مشردين)، وبمجرد أن تدلف إلى داخل البناية تجد حجرة صغيرة على اليسار مخصصة للعيادات الطبية المستعجلة وغير المستعجلة يتحلق حولها العشرات من المواطنين (نساء، رجال، أطفال...) في قاعة انتظار لا تتسع لأكثر من 15 شخصا، وفي الجهة المقابلة للمدخل الوحيد باب ثان صغير يؤدي مباشرة إلى حجرة مخصصة للعلاجات الطارئة تحتوي على 8 أسرة وهي عبارة عن غرفة مفتوحة تبلغ مساحتها حوالي 8 أمتار على أقصى تقدير يرتمي فوقها معطوبون تتفاوت درجت خطورة أعطابهم دون أغطية ودون حجاب يحجبهم عن أعين الفضوليين، وفي نفس الممر غرفتان إضافيتان واحدة مقفلة والثانية مخصصة للعيادات الطبية. هذه هي صورة قسم المستعجلات بمستشفى محمد الخامس الجهوي بطنجة عاصمة البوغاز والقطب الصناعي الثاني في المغرب وحاضنة "الأوراش" الكبرى، ممر يؤدي إلى باقي أقسام المستشفى يتخذه المرضى باحة للانتظار والاستراحة من رحلة العلاج، ووصف الدكتور الغنيمي وضعية قسم المستعجلات بأنه مجرد "كولوار" لا توجد به قاعات ولا مقاعد للانتظار، بينما يعتبر هذا القسم أهم قسم في أي مستشفى في العالم، وأضاف الطبيب المختص في جراحة الأطفال أن فضاء القسم تحول في جزء منه إلى مأوى للعديد من الأشخاص في وضعية صعبة حيث يتخذون من المستشفى ملجأ لهم بعد انتهاء فترة علاجهم، وكشف الطبيب نفسه أن قسم الولادة والرضع يختصر الكثير من مشاهد الخصاص ورداءة الخدمات الصحية حيث أكد الغنيمي أن عدد الأسرة المخصصة للنساء اللواتي يضعن حملهن بالقسم ذاته غير كاف بالمرة مما يجعل مشهد تقاسم امرأتين لسرير واحد مشهدا متكررا على الدوام، كما أن الحاضنات (العلب التي يوضع فيها الأطفال حديثو الولادة)المخصصة لحديثي الولادة لا تكفي لاحتضان كل المواليد مما يجعل إدارة القسم تخصص حاضنة واحدة لثلاثة مواليد في بعض الأحيان. مشاهد البؤس مثل لوحة تراجيدية لا تحجبها أسوار المستشفى ولا تصريحات المسؤولين على القطاع، فقط زيارة خاطفة لأروقة البناية تكشف المستور وتفند مشاريع وزارة الصحة، إنه واقع قطاع الصحة في المغرب. (*) عن جريدة الاخبار