منذ أن وطأت أقدامنا أدراج كلية الحقوق فهمنا أن البون شاسع بين ما تدرسه من النظريات السياسية والقانونية وبين ما يمارس فعلا في واقع الناس من قبل السياسيين؛ إذ لا يكفي التنصيص على الطابع الديمقراطي للمؤسسات أو على الفصل بين السلطات أو على الحقوق والحريات العامة الأساسية للإنسان والمواطن في دستور الدولة لتُعتبر حقا دولة عصرية تحترم مرجعياتها السامية في تدبير شأنها وفي التنافس والتداول الديمقراطي على السلطة وفي تمتع المواطن بما يحتاجه حقا لاعتباره حرا ومكرما، بل لا بد من ممارسة فعلية رتيبة وراسخة تنسجم مع النص القانوني وتنفث فيه روحا تجعل من فصوله وبنوده ومواده سلوكا حيا يدب في الأرض، يلمسه المواطنون في حياتهم كلها. فلا يمكننا اعتبار دولة ما حقوقية إلا وفق هذا المعيار، إذ لا يكفي تضخم التشريعات والتقنينات في مجالات الحياة المختلفة، ولا تكفي الخطابات والتصريحات الرسمية، ولا يكفي التضليل الإعلامي الداعم للحاكم؛ الذي يوهم الناس أنهم في دولة الحق، حتى إذا هم أحدهم بالعزم على مقاضاة الدولة في مظلمة مسته، ارتطم بحيف القضاء ضده أو بانعدام مساطر التنفيذ إن أنصفه القضاء، فتأكد له الانفصام والتناقض الصارخ الذي تعيشه مثل هذه الأنظمة مع مبادئها وديمقراطيتها وشرفها. في مثل هذه الأوضاع المتناقضة والديمقراطيات المزيفة لا يمكن إلا أن نشاطر رأي أستاذنا "مورس روا" الذي يقضي باعتبار استنساخ دساتير الدول الديمقراطية من قبل كثير من دول العالم الثالث عبارة عن محاكاة دستورية صرفة، تنم عن قصور سياسي عند رجالات هذه الدول وعن شيوع ديكتاتوريات مقنعة ديمقراطيا، ظاهرها الرحمة ومن قبلها العذاب، تؤكدها وقائع الممارسات الأمنية –المخزنية- الظالمة التي تطال أحيانا حتى الذين أيقنوا بضرورة دعم مسلسل ترسيخ الديمقراطية بالمشاركة في عملية الانتخابات المختلفة، بعد معارضة حقيقية –لسنوات- لنُظم ومؤسسات وممارسات الطبقة الحاكمة، هؤلاء المتحولون إلى صف الدعم المباشر أو غير المباشر للأنظمة المستبدة وصفهم "فليب برو" في كتابه المشهور " علم الاجتماع السياسي" بالمتشربين لأطروحات خصم البارحة؛ إذ تفضي بهم عملية الانخراط في لعبة النظام الحاكم إلى وهم حقيقي بأنهم يصنعون واقعا أكثر استقامة وعدلا وديمقراطية، حتى إذا انخرطوا فعلا في دواليب الحكم وفق إرادة الحاكم المستبد وفي حدود المساحة والهوامش المسموح بها، وجدوا أنفسهم في مأزق مكبلين أو محصورين من كل جهة، يصعب عليهم بعدها الرجوع إلى موقع المعارضة من جديد بنفس القوة والنجاعة؛ إذ سيحسبهم الناس أدوات في يد الحاكم الفعلي، يحركها كيف وأنى شاء. لهذا لابد من تحليل مسبق لواقع الأنظمة ومن استقراء عميق لإرادة الحكام ونواياهم، ولا بد من قراءة معمقة لملاءمة اللحظة وعقدة المسألة والتفصيل في تسطير بنود المُشارطة بين كل أطياف الحكم، وذلك قبل قبول الخوض في غمار المشاركة المباشرة في اللعبة السياسية؛ إذ يخشى على مناضلي الأمس ومعارضي الشعب أن يجعل منهم النظام المستبد بوقا لتلميع أطروحاته وبرامجه والدعاية له والتبريك لأوامره، فتكون بذلك أدوات بيده وكراكيز تحركها أنامله لتزييف الواقع الحقيقي وإيهام الشعب والعالمين أنهم ضمن حكم عادل وديمقراطية حقة، فينطلي المكر السياسي على الجميع،فتهدر الفرصة لإحداث إصلاح جدري وتغيير بليغ في طبيعة الأنظمة وجوهرها ومؤسساتها. في حالة ثبوت مكر النظام الحاكم وتبنيه لإستراتيجية توريط المعارضة في لعبته المزيفة عبر تكتيك تعديلات دستورية سطحية وغموض في تعبيرات قانونية ومتاهات في الممارسات الفعلية، فالأولى، كما يقول العالم السياسي الإيطالي "أنيولي"، أن تبقى الأحزاب والمنظمات والتجمعات الشعبية ضمن معارضة خارج البرلمان، لتمثل حركة احتجاجية قوية، تفضح الحقائق وتوعي الجماهير بمجريات الأمور وتدعم قضاياهم ضد الاستبداد والتسلط والفساد، وترفع سقف مطالبها المختلفة كي تضغط في اتجاه خنق مؤسسات النظام المستبد فيُعجِل ذلك بزواله أو إصلاحه من داخله ما أمكن، وكل ذلك بطرق سلمية راقية حضارية تنأى بها عن الثورات الحمراء التي تحرق الأخضر واليابس وتذبح الكبير والصغير انتقاما في زعمها للشعب. مثل هذه الأساليب السلمية قد تقدح نورا في فؤاد بعض الحكام، لينتبهوا إلى تناقضاتهم وبعدهم عن شعوبهم، فيدركوا المخاطر المحدقة بهم وبأنظمتهم إذا هم أصروا على اعتماد العصا والنار في التعامل مع شعوبهم، فيعلنونها مصالحة عمرية حقيقية معهم، فيؤذن لديمقراطية حقيقية ولممارسة أخوية عادلة بين كل أفراد الشعب. * كتبت هذه السطور قبل بزوغ إرهاصات الربيع العربي والتغييرات السياسية التي صاحبته.