لكن الواقع على الأرض يكشف أن رسالة الحكومة ورئيسها لم تصل إلى جماهير المحتجين الذين واصلوا غضبهم في الشارع العام، احتجاجا على البطالة التي تجعل الحياة بدون طعم، وتفقد أي معنى للوجود. لم ينفع لا الخطاب الأول للرئيس، ولا استجداء ناطقه الرسمي، ولا خطابه الثاني، الذي ملأه بالوعود. فلم يكن منه إلا أن أعطى أوامره «المطاعة» بإغلاق المدارس والجامعات في كافة أنحاء البلاد، حتى إشعار آخر. الحقيقة أن سلوك مثل هؤلاء الحكام، الذين يريدون أن يحكموا طول العمر، يبعث على السخرية، قبل الغضب... يظلون لسنوات وعقود يغلقون صناديق بريدهم على رسائل شعوبهم، يرفضون استلامها، ويمنعونها من الوصول إليهم. بينما يريدون لرسائلهم أن تصل في الحين. لقد كان ناطق بن علي، وهو يستجدي على الهواء مباشرة عبر «الجزيرة»، غير صادق، حين قال إن الرسالة وصلت. الرسالة لم تصل، لأنها لو وصلت إلى رئيسه واستلمها وقراها جيدا، لما فكر في أن يستمر رئيسا «مدى الحياة» على هذه البلاد. الجواب على هذه الاحتجاجات التي انتشرت في كل ربوع البلاد لن تتم ب«حزمة إجراءات» مستعجلة وانفعالية. صحيح أنها احتجاجات على أوضاع اجتماعية، ولكنها لا تخلو من حمولة سياسية. لقد انتقل المحتجون من الاحتجاج على الوضع الاجتماعي إلى الاحتجاج على الوضع السياسي الذي أفرزه. وسيكون جاهلا بالتاريخ وبقوانين التاريخ من كان يعتقد بأن بإمكان شخص أن يبقى خالدا في الحكم ومستبدا بالسلطة، دون أن يثير غضب الناس وحنقهم. يكفي أن يبقى بن علي رئيسا على هذه الرقعة الصغيرة من منطقة المغرب العربي، طيلة هذه المدة الطويلة (منذ 1987، حين أزاح الحبيب بورقيبة، الذي استحلى هو الآخر حكم البلاد، منذ الاستقلال)، لكي لا نحتاج لأي دليل آخر لنقول إنه غير ديمقراطي ومستبد بالحكم. وحتى لو لم يخرج التونسيون إلى الشارع، فإن بقاء بن علي في السلطة ربع قرن من الزمان، يكفي لوحده ليكون عنوانا لانعدام الديمقراطية وتوابعها، من حريات وحقوق سياسية ومدنية واجتماعية وثقافية... لا يمكن، ونحن نتجول في حديقة الدول الديمقراطية الحقيقية، أن نجد رئيسا يظل جاثما على أنفاس شعبه مدى الحياة. وحتى في تونس نفسها، لا يمكن أن نتصور أن يكون الشعب التونسي مغرما إلى هذا الحد الجنوني في شخص واحد ووحيد، ليبقيه حاكمه الأبدي طيلة هذه المدة. لم يعد يصعب على الشعوب، مهما بلغت درجة حرمانها من المعلومات، أن تعرف ما يجري في العالم. ويكفي أن تُحصي شعوبُ تونس أو ليبيا أو مصر أو غيرها من البلدان المثيلة رؤساءَ الدول الديمقراطية الذين عاصرَهم رؤساؤُهم، ليحكموا على طبيعة أنظمتهم. الآن، لم يعد ينفع بن علي أن يستعرض منجزاته في التنمية الاجتماعية والاقتصادية ويتباهى بالنجاح الذي حققه في هذه المجالات، مقارنة مع بلدان قريبة، ليداري على استبداده بالحكم وانفراده بالسلطة. فحتى هذه الورقة سقطت كما تسقط أوراق التوت. ولن ينفعه أن يلقي بالمسؤولية على أطراف حاقدة أو يتهم أيادي خفية. لقد ثبت الآن أن النظام البوليسي، مهما نجح في حبس الأنفاس، والتضييق على الحريات، وتحريم الاختلاف، ومنع التعدد والتنوع، وفرض الاختيار الوحيد والرأي الوحيد والحزب الوحيد والرئيس الوحيد، واحتكار الإعلام وتوظيفه للمباركة، فإنه آيل إلى الزوال. ولا يمكن ألا يخطر ببالنا هنا العلامة ابن خلدون، المزداد بتونس (يا للمصادفة)، والذي كان نبه، قبل قرون، في مقدمته الشهيرة إلى خراب العمران، حين قال إن «الظلم مؤذن بخراب العمران». النظام البوليسي، مهما تجبر وتحكم، فإنه يحفر بيده قبره الذي لابد أن يدفنه فيه الشعب في يوم من الأيام. هذه رسالة من التاريخ، وجدت من يقرأها جيدا في الدول الديمقراطية، التي لم تجد بدا من اختيار النظام الديمقراطي، فدخلت تاريخ الديمقراطية. لكن دولا أخرى لم تدخل هذا التاريخ، لأن منها دولا مازالت لم تطلع عليها وأخرى مازالت تتهجى بالكاد حروفها.