بعد هذا الحديث الساخن في يوم حر لاهب، قال لي صاحبي: هلا جلسنا بتلك المقهى لنشرب مشروبا باردا، ونتذكر معا وُجوها كانت تأخذ مكانها بكل زاوية عند أبي حامد، ونخوض من جديد فيما تبقى من تفسير الواقع والبحث عن المتهم في جريمة اغتصاب كامل، لعقود في كل حي وحومة وشارع، وزنقة ودرب وساحة بلا وازع ولا رادع ... فقلت: ليس لدي مانع، فقد أنهكني التجوال في الشوارع والمرور بالفواجع...فطلبنا مشروبا نسترجع به قوتنا ونستحضر به الوقائع، فرمَقَنا أحدُ القدامى من الخارج، فأقبل فرحا ومُسَلما بكل الجوارح، فقال مرحبا بك يا أخي محمد، لقد اشتقنا إليك بعد طول مكث في الخارج، فهل ستبقى معنا دائما هذه المرة أم هي عطلة كعادة كل من غادر البلاد ساخطا وباحثا عن عزة ومكان لائق ومستقبل بلا موانع...فشكرته على ترحابه الرائع، فأجبت بكل صراحة: في الحقيقة ليس لدي بعدُ فكر واضح؛ لأن الوضع تفاقم واستفحلت الطبائع، وتبدل كثير ممن كان يروق ويُرغٌب في الرجوع بقرب الأحبة والأصحاب لنستعيد معا ذكرى الروائع، فلقد أصبحت أحس بغربة لقلة ما ألتقي من أولئك الوجوه اللوامع... فقال: إنه إحساس سائد عند كل طنجاوي حقيقي بفعل الميلاد والأصل والتاريخ؛ فلقد وقعت هجمة علينا من الداخل، فجاءت وفود من العرب والبدو، هاربة من الفقر والبؤس، وباحثة عن لقمة العيش، تسد بها رمقها وتحمي نفسها من الموت، بعدما أسلمها الساسة للجفاف وسطو القرض، بنك اللصوص والتربص بالملك، فأقبلوا على طنجة بلا هوادة ولا شرط؛ خصوصا بعدما فتحت لمن هب ودب من القوم، فلم يَعد يُطلب منهم جواز ولا مأوى كالأمس ولا ضامن بالإسم، وشيدت بها معامل تحتاج لأيادي الشباب الضائع، الذي رغم تعلم ونجاح وشواهد من الجوامع(الجامعات) اكتفوا بلقمة العيش، فأصبحوا يبحثون عن عمل ولو متواضع مقابل أجر لا يسد رمقا ولا يكفي الجائع عديم الخبز، رغم ذلك، الطوابير تُقلها حافلات وسيارات في كل وقت، نحو مناطق العمل بلا شرط ولا قيد، الكل مُسالم ومُعبر بصمت، فكان الزحف الواضح؛ فقد ملأت الأحياء كلها بمن كان يُعد دخيلا لا يسمح له بالمُكث، وبدأنا نرى أنماطا قروية وبدوية في السلوك واللباس والجلوس والسير والعيش، وتفشت الفوضى والاكتضاض في كل شيء حتى في شراء الخبز، ولم تعد طنجة مَدنِية بحضارة بُنيت منذ الفنقيين والعرب حملة العلم والدين للأندلس والغرب، ومن احتلها وحكمها من النصارى مع احترام النسب والفصل، فأين مظاهر الأمن والنظافة والنظام التي كانت سائدة في الشارع والحي والزقاق والبيت...فقلت: الكل أصبح إذنا قرويا وجبليا وأعرابيا كأنك عند العُرب في الغرب أو في قرية من ريف الشرق. فقال: نعم، لقد أصبحت كل الجهات واللهجات والعادات والأعراق متعايشة رغم أنف أهل العُرس، فأرغموهم بقبول حتى عمدة، جاؤوا به على الجرار (عفوا:تراكتور) كأنه أخطأ في الأرض والحقل، لا يعرف شيئا عنهم ولا له علم بالوضع، فتقلد أمرهم وترأس جمعهم ودبر شؤونهم, فقط لأنه أصبح يمثل الأغلبية، تلك التي أقبلت مع الهجرة القروية، فلم يعد لأهل طنجة حق في تسيير أمورهم لأنهم أصبحوا أقلية، فسعادتهم الآن -حسب ظنهم- في قبول ديكتاتورية البؤس، في مجلس البلدية وفي الولاية والبشاوية، فقد أسند كل المرافق الحيوية من نقل ونظافة وطاقة وأسواق بإرادة فردية وعنف في زي الديمقراطية، وكأننا أصبحنا لا نستطيع قيادة ولا تدبير حتى اطرامبيا (الحافلة)، فلا أحد له الحق أن يعلق على حافلات البلطجية، كأنها تسير وفق رسوم منسية من تاريخ غابر لدول عربية... ولا أحد يجرؤ على التعليق على الكمامات المنسية، في الشوارع وكل مكان مرمية، مكدسة في الصبح والعشية في الأحياء الشعبية والمدينة والأحياء الراقية... ناهيك عن الكلام في فاتورة أمنديس الجاحفة بأثمنتها؛ في ضوءها وماءها أغلى في سعرهما من الدول الراقية، في ظنهم أن ثمن السعادة غالية، وإلا أسلمونا لظلام حالك وجفاف وعطش يقتل في الثانية... أما الغلاء في الأسواق فكمٌامته أشد ما جاءنا من هؤلاء العفاريت والذئاب الوحشية؛ فمن يقوى على الكلام في المعاش والغلاء بلا روية؟ ولو أن الطماطم والبطاطا أصبحت تبلغ عندنا بأثمنة خيالية، والسمك الطري حقا قد عاد حلما يُسيل لعاب الطبقة الشعبية، وكأن بِحارنا خُلقت لتصير لغيرنا؛ بخيرها وشواطئها ورمالها بيعت بعملات أجنبية، ربما سيأتي علينا يوم حتى الأكسجين سيُباع لنا أغلى من بترول السعودية، فلن نجد درهما لضمان العيش إلا بيع بناتنا كلهن للخليج والخارج بأقل من أوقية، يومها سنعي ثمن السكوت عن الذل وعن اغتصاب العروس الطنجاوية، مدينة طارق وبن بطوطة والرجولة المنسية... إنا لله وإنا إليه راجعون. استدراك على هامش التعليقات: لم يكن قصدنا في هذه السلسلة من المقالات حول طنجة: عروسنا المغتصبة أن نجرح جهة أو ننقص من خِلقة قوم أو نحتقر أناس بغير ذنب اقترفوه، ولا أن نرفع آخرين لمجرد أصلهم أو فصلهم، وإلا حق علينا أن نوصم بالتمييز والمحاباة الظالمة، وهذا نأباه لأنفسنا وللناس، نظرنا لمرجعتنا الإسلامية من جهة، وتجربتنا الحياتية خارج البلاد؛ إذ الغربة علمتنا التعايش مع كل الأقوام والأجناس من مختلف دول العالم، بتعاون وتحاب واندماج في قضايا ومواقف تخدم مصالح الجميع، كما علمتنا أن العبرة ليست بأنساب الناس وأعراقهم ومستوى تقدمهم المادي، بل برقيهم التربوي والأخلاقي ونضجهم الثقافي ووعيهم الاجتماعي أساسا، لهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننزع نسمة خير من أناس ولو كانوا أعداء لنا، وإلا كان غَمط للحق وتطفيف في الحكم وانحياز مجحف لا يتمشى والعدل الرباني، فلا يُعدم قوم مهما كانوا من نزعة شر وقلة ضيم، فهل تأخذ الأغلبية بجريرة هذه الأقلية؟ فلا تزر وازرة أخرى. تجريحنا ونقدنا انصب أساسا هنا على انحرافات وظواهر خلُقية، في السياسة العامة وفي سلوك أقلية؛ فرضت إرادتها على الأغلبية، في البوادي والحواضر بلا رحمة ولا هوادة، كانت ضحيتها ليست طنجة فقط بل كذلك مدن أخرى كثيرة وبوادي قَصِية، شرد أبناؤها وبيعت ممتلكاتها أو منحت لمن ساهم في إرساء الفساد وتوطين الاستبداد، فكانت الهجرة القروية إلى المدن بعينها، بعدما استحال العيش على أرض لم تعد تضمن لقمة عيش ولا سقف دار ولا قطرة ماء صافية، لغياب سياسة تنمية البادية وتخطيط لمدن أساسية، فعمت الفوضى والتردي، حتى أصبح كل شيء تحكمه البداوة والقبيلة المستولية، على المشاريع والثروات والسلطة الهمجية... فهل وعيت كلامي أم مازلت تحسب طنجاوة مستكبرين عنصريين متعصبين بلا سبب ولا روية...