من منّا يحبُّ العجزة؟ ستجيبون حتمًا، بلى نحبهم جداً. كنوزُ الحكمةِ وتجاربُ حياتيةٍ فريدةٍ، ولكنني أقصد وجود العجزةِ، حضورهم المكلَلَ دائمًا بهالةٍ من الخشوعِ والوقارِ. تلك الهالة التي تجعلنا نسلُك مسلكًا مزيّفًا لا نسلكُهُ عادة، فنصطنِع الوقارَ أمام الأطفالِ ونَنْهَرُ شقاوَتهم، أو نغيِّر من البرامج لتُلائم هدوؤهم وتؤدتهم (هدوء وتؤدة العجزة). لكن هل هم فعلا كذلك؟ صديقٌ تجاوز الخمسين بسنتين ربما أو بثلاثٍ أخبرني بإحدى علامات الشيخوخة الأولى. يقول ساخرًا: - متى ما أحببتَ الفتيات الصغيرات صرتَ عجوزًا، أولئك اللائي يراهقن النضج والبلوغ. صديقي هذا مازال مفعمًا بحيويةِ الشباب، والحقُّ أنّ الشباب حالةٌ نفسيةٌ وذهنيةٌ أكثر من مجرد أرقامٍ تتراكم على مرِّ السنين. قلتُ؛ صديقي الشاب/المقبلُ على الشيخوخةِ، أسرَّ لي بهذا السرِّ الذي يحيطه العجزةٌ عمومًا بالسريَّة اتجاه الناس والكبت اتجاه أنفسهم؛ ككلّ الطابوهات! ومن منّا لم يسمع و/أو لم يرَ عجوزا يتهمه الناس بالارتداد مراهقًا؟ كثيرةٌ هي الحالات التي نرى فيها عجوزا وقد أُصيبَ فجأةً بداءِ التأنُقِّ وبدت عليه بشكلٍ واضحٍ عوارضُ المراهقةِ. والواقعُ أنّ هذه الحالات بالرغم من أنّها معزولةٌ، تعبِّر بصدقٍ عن حقيقةِ ما بعد الخامسة والأربعين. آهٍ منكم أيّها العجزة! ولكن لمَ إذاً كلُّ هذا الخُبثِ والمداراةِ والمبالغةِ في إظهارِ النُضجِ وضبطِ النّفسِ؟ لمَ تُحيلون حياة أبنائكم وأحفادكم المراهقين من أمثالكم (ويا لسخرية الأقدار) إلى عذابٍ بسببِ أفعالٍ تأتونها كما يفعلون، ومشاعرَ تُراودكم كما تراودهم؟ نحن الآن في صالةٍ رياضيةٍ واسعةٍ، عجوز يُقابِلُني تمامًا به شبهٌ كبيرٌ من العجوزِ رِفعت إسماعيل، غير أنّه ممتلئ الوجهِ تبدو عليه أمارات الخير الوفير، أعني أنّه لا يحتاجُ بداهةً لقرصِ البنسلين. يركبُ دراجةً رياضيةً مثبتةً إلى الأرضِ، ويتبِّع باجتهادٍ ملحوظٍ حركاتِ أستاذ حصةّ البايكينغ. إنه يكاد يرقص من فرط تحمسه للموسيقى، البولماني يغني(تا لقيت اللي تبغيني) على إيقاعٍ صيفيٍّ (Summer Hits) مَكْسَجَهُ أحدهم، وعمنّا الحاج يرقص فوق الدراجةِ دافعًا بكتفيْهِ تارةً إلى الأمام وأخرى إلى الخلف، منشرح الأسارير. أكادُ أجزمُ أنَّ نسبة الأدرينالين في دماغه تفوق تلك التي في دماغ مشجِّع برشولنيٍّ شهِد ملحمة ريمونتادا باريس سان جرمان الكبرى. أنا موقنٌ بفشلي الذريع في وصفِ حركاته. من منكم يعرفُ شواذَّ الطّيراسا؟ من منكم شهِد رقصَهم المقزِّزَ أثناء إحيائهم لِلَيالي رمضان؟ يشبه المشهدُ الذي أمامي ذلك تمامًا. أما اللذين حالفَهم الحظُّ ولم يشهدوا ملاحم الطيّراسا الرمضانية، فلا أظنُّ أنّ الحظ قد حالفهم أيضًا ولم يشهدوا ملاحم أدّومة الفايسبوكية. يقوم الحاج بشيء من هذا القبيل! تخيلوه الآن بين أهله وأسرته: يحسِبُ الجميع له ألفَ حسابٍ، ويصير البيتُ مقبرةً أو قصرًا مهجورًا في الخلاءِ إذا ما آوى إلى فراشه بعد الغداء. يثير الرعبَ في نفوس كل من تحت قبضته، ولا يجرأ في حضرة جلالته أن يعترضَ معترضٌ. تخيل فقط؛ هذا الأبله الذي فقَدَ عِقال نفسه بسرعةٍ على إيقاع أول أغنيةٍ شبابيةٍ يدعي كل هذا الوقار والجلال!! وليس أجمل من عمّنا وأديبنا الكبير نجيب محفوظ، وهو يصف ذلك بمنتهى الحرفية، وبمنتهى الروعة ومنتهى الإبداع. سي السيّد، بطل الثلاثية الذي كان يحكم بيتَ أمينةَ بقبضةٍ حديديةٍ في الصباح، كان يرقصُ كقردِ السيركِ بزهو في بيوتِ وعَوّاماتِ العَوالِمِ في الليل. زد عندك هذا أيضا! لمّا كنتُ طفلاً كنتُ أحبُّ ارتيادَ المساجدِ والإجتهاد في الطاعات؛ كنتُ أتسابقُ مع المأموم على الصفِّ الأول. ولقد حدث مرةً أن صلى بجانبي شيخٌ طاعنٌ في السنِّ، فإذا بي -كأي مجتهدٍ- أحاذي قدميْنا امتثالاً ل "حاذوا بين المناكبِ والأقدام، أتمّوا الصفوف يرحمكم الله". لم أجد نفسي -وأنا الطفل حديثُ السنّ- إلّا مُعانقًا ساريةَ الجامعِ الجديدِ، لقد دفعني المعتوه بجنونٍ أثناء الصلاة! كيف تجرأتُ ووضعتُ قدميَ الصغيرةَ بجوارِ قدمه الجليلة؟ جيلُنا لا يخجلُ من نفسه، جيلٌ هتكَ عرضَ كل الأخلاقِ والقيم. لنضع إذًا بعد كل هذا الكلام خريطةً تصف ما يمرُّ به الإنسانُ من مراحل: يكون طفلاً ثمّ يصير مراهقًا، ثم ينضُجُ بعد مخاضٍ عسيرٍ، فيقضي بالنضجِ ما تيسر من السنين، ثمّ يؤوب مراهقًا قبل أن يتقهقرَ طفلًا من حيثُ انطلق. مَثلُ العجزةِ في مبالغتهم في الوقارِ كمثلِ مومسٍ تجاوزت الثلاثين، تعيش على صدى عشرينياتها، فتبالغ بالاعتزاز بنفسها حتى وإن ذبل ثديها فاستوى الناهدُ منه بالبطنِ، وفقدت عجيزتها رشاقتها. تقول بزهوٍ: رحم الله زمانًا كنتُ فيه سلطانةً، يا رحمةَ اللهِ على جيلٍ كان يتذوق الجمال، أما هؤلاء الصبية فلا يحبون إلا العجفوات! وإياك أن تنسى: "احذر من أن تسخر من أحلام الشباب، فما السخرية منها إلّا لعارضٍ من عوارضِ الشيخوخة يدعوه المرضى بالحكمة " (نجيب محفوظ).