في حي شعبي بمدينة طنجة يقاسم الشاب يوسف والدته الطاعنة في الكبر العيشَ في بيت متواضع. ورغم أن والدته قد أوهنها مشاق الشيخوخة وأضعفها المرضُ إلا أنها ما زالت تتحامل على نفسها وتقوم بأعمالها المنزلية وتلبي بعض حاجيات ابنها الوحيد يوسف من معاش هزيل صارت تحصل عليه بعد وفاة زوجها . ويوسف شاب وَرِع تَقِي ، بار بوالدته ،مِعوان لها ، فهو يعتبرها حياته ودنياه ويحنُو عليها ويحرص على طاعتها وإرضائها . بيد أن ما كان يكدر نفسه هو عجزه عن مساعدتها في الإنفاق على البيت، ذلك لأنه كان عاطلا عن العمل ، وهذا الأمر ولد لديه شعورا بأنه شخص غير نافع لا لنفسه ولا لوالدته ولا لمجتمعه. وكثيرا ما كان يستبد به هذا الشعور وينغص عليه عيشه ويؤرق مضجعه ،على حين كانت والدته لا تكف عن الدعاء له بالفرج والتيسير. بعد أن أكمل يوسف دراسته الجامعية وحصل على شهادة عليا بتميز ،هام يبحث عن عمل يليق به ، لكن ليس أي عمل ، بل كانت أمنيته الكبرى تنحصر في تقلد وظيفة في القطاع العمومي تنتشله ووالدته من وحلِ العسرة والضيق . وكان هذا المُبتغى يساوره في منامه وفي يقظته ، لذلك لم يدخر وسعا في محاولة تحقيقه ،إذ كان حريصا ولسنوات على المشاركة في عدة مباريات للتوظيف التي تنظمها القطاعات الحكومية ،غير أنه لم يدرك مُراده ولم يجنِ ثمار جِده وتميزه ، ذلك أن الخيبة كانت تلاحقه وتعصف بآماله بعد اجتياز كل مباراة حتى ضجر من المشاركة في المباريات وتفاقمَ على مر السنوات شعوره بالمرارة والحسرة ،وصار مؤمنا بعد أن نيف على الثلاثين بأن أمنية التوظيف بالنسبة إليه باتت من أعسر ما ينال ، وبذلك تملكته مشاعر الإحباط وخَبت رغبتُه في مواصلة المشاركة في مباريات التوظيف ، فمِثلُه ليس خليقا بالوظيفة وليس أهلا لها ما دام لا يملك سَنَدا ولا مالا ولا نفوذا ولا وسيطا ولا هو من أهل التملق والتزلف والمداهنة، هكذا كان يردد في قرارة نفسه ، فما أكثر ما سمع عن ظَفر بعض أقرانه وزملائه في الدراسة من أبناء أهل المال والجاه بمناصب لا يستحقونها! ولطالما تَهادى إليه أن الشهادة الجامعية بلا سَنَدٍ لا تُجدِي نفعا ،وأن السند هو مفتاح الأبواب الموصدة. غير أنه كان يواسي نفسه بالقول بأن الكثير من زملائه الذين ظفروا بمناصب عمل في القطاع العمومي بقدرة قادر إنما سلبوا غيرهم حقوقهم المشروعة وأنهم يأكلون أموالهم بالباطل . ومع تعاقب السنوات، وَطن يوسف نفسه على ألا يجتاز أية مباراة لولوج الوظيفة العمومية ، وبذلك انهد صرح أحلامه ومضى يتحمل شظف الحياة التي ثقلت عليه وطأتها حتى أصبح هائما في دوامة التفكير في مستقبله. لكنه لم يلبث أن رضي بقدره واستسلم لجبروت حياته الرتيبة بعدما صارت أيامه متشابهة تسير على نفس المنوال . فرضت رتابة الحياة على يوسف أن ينزوي في بيته كل صباح ، فما كان يبارحه إلا لقضاء شأن يخص والدته العجوز. أما بعد عصر كل يوم ، فقد اعتاد أن يفزع إلى دكان حلاق حيث صار يستمرئ الجلوس في مقعد في زاوية قرب نافذة زجاجية عريضة مشرعة على شارع لا يخلو من صخب ومن زحام . في تلك الزاوية ، صار دأب يوسف أن يجلس و يطرق برأسه وهو يصوب بصره إلى شاشة هاتفه المحمول أو يحدق في شرود فيما يتحرك في الشارع ، وأحيانا كان يمسح ببصره صديقه الحلاق وهو يجري مقصه أو آلة حلاقته على رؤوس أو ذقون الزبناء . والحلاق رجل لطيف وديع ، لكنه محسوب من أهل القيل والقال وكثرة السؤال ، فهو لا يكف عن السؤال والاستخبار و لا يدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون زبنائه إلا أحصاها ،لذلك كان كلما شرع في قص شعر رأس زبون إلا وحاصره بسيل من الأسئلة حتى ليخيل للزبون أنه ماثل في جلسة استنطاق أمام قاضي تحقيق. أما يوسف فكان في غالب الأحيان يعفي لسانه من الكلام ويكتفي بالإصغاء إلى حديث الحلاق والزبناء ، وكان قلما يشاركهم الحديث ، لكنه كان أحيانا يضيق صدره بأحاديث الزبناء لاسيما حينما يتذاكرون في شؤون العمل والبطالة ،حينئذ تراه لا يحتمل الجلوس ، فلا يلبث بعد ذلك أن يهب واقفا، ثم يتقدم نحو باب الدكان و يغادره واجما ،ناكس الرأس بعد أن يلقي السلام . وما هي إلا أن ينطلق على غير هدى يتمشى هائم الفكر كأنما يسعى للتخلص من هاجس مرير اعتراه . ويظل على تلك الحال هائما حتى يطرق مسمعَه آذان المغرب ويبتلعه أول مسجد يصادفه في طريقه . واتفق أن توجه يوسف بعد عصر يوم استجابة لطلب والدته إلى وكالة لأداء فاتورة الماء والكهرباء التي تخص بيتهما ، غير أنه وجد باب الوكالة مغلقا ،فانعطف نحو دكان الحلاق بعد أن قَر عزمُه على الرجوع في اليوم الموالي لأداء الفاتورة بعدما احتفظ في جيبه بالمبلغ المالي الذي أمدته به والدته . وكمألوف عادته ، عندما اقتادته خُطاه بعد ذلك إلى دكان الحلاق احتل مقعده في زاويته المعهودة، ثم جعل يُجيل عينيه في أرجاء الشارع بينما كان الحلاق منهمكا وقتئذ في تشذيب لحية زبون ،في حين كان أربعة زبناء ينتظرون دورهم وهم يخوضون في أحاديث شتى . وفي لحظة ، صافحَ مسمعَ الجميعِ طرقٌ على الباب الزجاجي للدكان ، فما أن تطلعت عيون الزبناء والحلاق نحو الباب حتى وقعت على امرأة عجوز . في تلك الأثناء قطع الحلاق عمله ، ثم انبرى لفتح الباب وهو يحدق في المرأة العجوز التي دلت ملامحها أنها في عقدها الثامن. ألقت العجوز إلى الحلاق وإلى زبنائه الجالسين بتحية وهي تمسك بمقبض الباب من شدة الإعياء ، وكانت إحدى قدميها موضوعة على الرصيف فيما كانت الأخرى على عتبة دكان الحلاق كما لو كانت تهم بالدخول لكن من غير أن تجتازها . كانت العجوز امرأة ذات قامة قصيرة ، نحيفة الجسم ،محدودبة الظهر ، وكانت ترتدي جلبابا أبيض أنيقا ونظيفا وتدثر رأسها بوشاح من الثوب الزاهي وقد تهدلت منه خصلة من شعر أشيب. سأل الحلاق المرأة العجوز عما تريد ، فأنبأته أنها خرجت لقضاء حاجة وشراء دواء غير أنها ضاعت منها حافظة نقودها وهاتفها في غفلة منها أثناء نزولها من سيارة أجرة ، لذلك لجأت إلى دكان الحلاق أملا في أن تقترض مبلغ ثمانين درهما لتشتري الدواء وتعود إلى بيتها . كانت العجوز تخاطب الجمعَ باستعطاف وهي تُجري بصرَها تارة على وجه الحلاق و طورا على وجوه زبنائه الجالسين الذين أشاحوا بنظراتهم عنها بمجرد ما أن ذكرت حاجتها إلى المال ، وكذلك كان حال الحلاق الذي ارتاب في أمرها ، فما رأت منه العجوز سوى التبرم والإعراض بعد أن ولاها ظهره وتشاغل عنها بقص شعر رأس زبونه. أما يوسف فقد كان في تلك اللحظة جامدا في مكانه ،مُسنِدا رأسه إلى الجدار وهو يقلب بصره في هيئة العجوز وفي ملامحها وكأن شيئا ما شده إليها .لم يحفل الجالسون بكلام العجوز التي غضت بصرها ونكست رأسها ثم انسحبت من غير أن تنال منهم منالا . وما أن سارت العجوز بعد ذلك مترنحة من التعب والكلال وهي تجر قدميها ولا تلوي على شيء حتى رفع الجالسون أبصارهم وطفقوا يشيعوها بنظراتهم . في تلك الأثناء بقي صدى كلمات العجوز يتردد في مسمع يوسف ، ولم يقو على تجاهلها بعد أن تسللت إلى سويداء قلبه وحركت نزعة الخير فيه حتى عز عليه أن يرى العجوز منصرفة وهي خائبة ، بل إنه أحس بنداء خفي يدعوه إلى الاستجابة لطلبها، فملامح محياها كانت تشي بأنها صادقة . لم يملك يوسف بعد ذلك إلا أن أصاخ إلى نداء قلبه ثم اعتدل في جلسته و ارتد واقفا ثم مضى يهب في أثر العجوز حتى لحق بها واستوقفها قبل أن يأخذ بيدها ويعينها على عبور الشارع بتؤدة. مشى يوسف بعد ذلك خطوات معدودة رفقة العجوز . وفي لحظة ، ضرب بيده إلى جيب سترته فأخرج منه المبلغ المالي الذي طلبت العجوز اقتراضه ثم دسه في يدها بعد أن أخبرها باسمه ، فإذا بها تنهال عليه بالأدعية و هي تطبق على يده بقوة. التمس يوسف من العجوز أن ترد إليه ذلك المبلغ في اليوم الموالي حتى يتسنى له أداء فاتورة الماء والكهرباء. طمأنت العجوز يوسف ووعدته بأنها سترد إليه ماله في الموعد المتفق عليه. تابع يوسف بعد ذلك سيره مع العجوز إلى أن استوقف سيارة أجرة ثم امتطتها العجوز وانطلقت بها لحالها . انثنى يوسف عائدا إلى دكان الحلاقة . وما أن وطئت قدماه عتبة الباب حتى انهال عليه الحلاق بعبارات التهكم والسخرية وأنحى عليه باللوم ورماه بأنه مغفل ابتلع طعم العجوز، بينما أجمعت كلمات باقي الزبناء على أن العجوز امرأة تحترف التسول ، بل إن أحدهم ذهب إلى القول أنه شاهدها في السابق تتسول في أحد أسواق المدينة ،في حين قال آخر أن تلك العجوز تتغفل الناس و تحسن التمثيل وأنها أوتيت من المكر والاحتيال حظا كبيرا . بعد عصر اليوم الموالي دلف يوسف إلى دكان الحلاق كعادته وانتحى زاويته وطفق يصغي إلى حديث الزبناء وهو يرتقب إطلالة العجوز. وطال به الانتظار لكن دون أن تأتي ، حتى اعتراه الشعور بالانكسار والامتعاض ودب إليه اليأس من قدوم العجوز، فلم يجد بعد ذلك مناصا من تعزية نفسه فحمد الله وضرع إليه أن يعوضه خيرا. وفي أصيل اليوم التالي ، وفيما كان يوسف جالسا في مكانه الأثير وهو هائم في هواجسه وقعت عيناه على سيارة فاخرة يركنها سائق على بعد خطوتين أو ثلاث من دكان الحلاقة . كانت السيارة قد احتلت جزءا من الرصيف. وما هي إلا أن نزل منها سائق يرتدي بذلة سوداء . تقدم السائق نحو باب دكان الحلاقة، ثم نقر على الباب الزجاجي قبل أن يفتحه ويلقي بتحية إلى الحلاق وزبنائه. ولشد ما كانت دهشة الحلاق حينما سأله السائق عن شخص اسمه يوسف أقرض امرأة مالا قبل يومين . لم يملك الحلاق الذي بدا مأخوذا مبهورا إلا أن أشار بيده نحو يوسف الذي ما أن سمع اسمه حتى اعتدل في مقعده وتخضب وجهه بالحمرة . وعلى الفور نهض يوسف بعد أن طلب منه السائق أن يرافقه إلى السيارة الفخمة . سار يوسف خلف السائق طائعا وهو يكاد يتعثر في مشيته . في تلك الاثناء نحى الحلاق يديه عن رأس زبونه ،ومضى نحو عتبة الباب ،ثم جمد في مكانه وجعل من فرط الفضول يرصد المشهد بعين المستطلع المتطفل بعد أن أطلق العنان لأذنيه عَله يسترق السمع . كان الحلاق يود وقتئذ لو يستطيع أن يهب في أثر يوسف للوقوف على ما سيحدث، ولكن أنى له أن يقوم بذلك ورأس زبونه بين يديه ؟ . توجه يوسف نحو الباب الخلفي للسيارة استجابة لطلب السائق الذي فتح له الباب ودعاه للركوب .وما أن ألقى يوسف بجسده فوق جانب المقعد الخلفي العريض حتى وجد نفسه مستقرا بجانب العجوز التي أقرضها المال وقد اتخذ مكانه على يسارها ابنها ، وهو رجل أنيق الملبس، مهاب الطلعة ، تبدو على هيئته أنه صاحب مركز وجاه . رحبت العجوز بيوسف وهي تربت على كتفيه بيديها الهزيلتين و تعتذر له عن عدم حضورها في الموعد المتفق عليه لرد ماله ، في حين مد الرجل الأنيق يده نحو يوسف وصافحه بحرارة ثم عبر له عن كبير شرفه بالتعرف عليه وأكبر فيه جميل فعله مع والدته. ومن فرط الارتباك خفض يوسف بصره وأمسك عن الكلام وهو يدعك يديه و يزدرد ريقه . لم تنقض سوى دقائق حتى ضرب الرجل بيده إلى جيبه ثم سحب منه أوراقا مالية ومدها إلى يوسف وهو يشكره على حسن صنيعه مع والدته . وَمضَ في خاطر الرجل أن يوسف سيتلقف الأوراق المالية ، لكن هذا الأخير ، وفي إٍباء وترفع ، أصر على ألا يأخذ منها إلا المبلغ المقترض . وجد الرجل في عفة يوسف وقناعته ما أثار إعجابه. سأل الرجل يوسف عن أحواله وعمله. كان يوسف في تلك الأثناء ما يزال مرتبكا ومتلعثما ، لكن ما أسرع أن خلع عنه عباءة الارتباك فانحلت عقدة لسانه وجعل يجفف عرق جبينه بِكَم قميصه ثم استرجع هدوء نفسه وأنشأ يقص على الرجل قصته مع البطالة و العمل ومباريات التوظيف ويفضي إليه بما يمور في داخله من مشاعر الإحباط والقلق بعدما ذهب تعبُ سنوات دراسته وتحصيله أدراج الرياح . لم يمهل الرجل يوسف ليتم قصته حتى طمأنه ووعده بأنه سيشغله في شركته ، ثم أمر السائق أن يسجل رقم هاتف يوسف قبل أن يطلب منه أن يوصله إلى بيته. انطلقت السيارة الفاخرة تطوي الشارع تحت أنظار الحلاق الذي استعر في خاطره لهيب الأسئلة بعدما كان يمني نفسه في عودة يوسف ليفضي إليه بما جرى . منذ ذلك المساء ، توارى يوسف عن أنظار الحلاق وغاب مرآه عن عيون زبنائه وانقطعت أخباره بعد أن لم يعد يفزع إلى ركنه المعهود في دكان الحلاقة. وتتصرم الأيام وتدور الشهور دورتها ، ويجري ذات مساء على لسان زبون من زبائن الحلاق أن الحياة قد أقبلت على يوسف بالدعة والرغد والنعيم الفياض بعد أن تزوج بابنة مُشَغله . * كاتب من طنجة