خلال أيام شهر رمضان، تعيد جريدة طنجة 24 الإلكترونية، نشر أجزاء العمل الأدبي المتميز "صدى الذكريات - نشيد الفقد" ، للكاتب الطنجاوي بوسف شبعة حضري، على شكل حلقات لن أنسى ذلك الرجل.... إن نسيت ملامحه وقسمات وجهه وهيأته البهية وتفاصيلها الدقيقة، فقد كان رجلا أنيقا في إحسانه، لم أنس وجوده في خيالي قط. كيف أنساه؟ أو أنسى معروفه. كان يأتيني بأغلى شيء، بكل ما كان يطلبه طفل في سني. يأتيني بالحلويات والألعاب ومعه ابتسامته العريضة، يلقاني بوجه بشوش كلف. كل يوم كنت ألقاه في المسجد قبل أذان المغرب بدقائق، يخرج من تحت جلبابه لعبة من دون أن تعلم يمينه ما بشماله، لما كبرت عرفت أنه كان محدود الدخل، ورغم ذلك يؤثرني على نفسه، فكبر في عيني حين فهمت دنيا الناس. لن أنسى أيضا ذلك الرجل الذي أخذ بيدي وأخرجني من دوامة الموت، ونظرات النسوة وفضول المعزين، وصراخ النائحات في الجنائز. أخذني بعيدا عن كل هذا،عن الصراخ والعويل والموت، إلى عالم ألعابي لأعبث بها كما تعبث الحياة بمصائر الناس كلعبة تتقاذفهم ما بين الموت والحياة. لن أنسى ذاك الرجل كيف مسح رأسي وربت على كتفي بكل حنو، عندما علم بكوني يتيم الأب. كما لا أنسى أيضا صدى كلمات ذلك الرجل الستيني، حينما وصفني بأشنع الأوصاف لا زالت تتردد على مسامعي على مر الأيام. لن أنسى ذلك الفقيه، وهو يعلمني سورة الإخلاص بكل إخلاص. ولا أنسى من نظر إلي في صغري نصف نظرة أو نظرة كاملة، ومن أكرمني، ومن أوسع لي في مجلسه، ومن لم يدعني إلى أن أقاسمه فرحا كان بإمكانه أن يقاسمني إياه. لن أنسى قساة القلوب الشداد الغلاظ ولا نهيهم الفظ وأوامرهم التافهة. لن أنسى ذالك اليوم الذي وضع فيه البطل ممدا في التابوت على مرأى أبنائه. وحمل في نعش على أكتاف الأحباب والأعداء على حد سواء، مهللين مكبرين موحدين، وأنا ألعب كأن المشهد لا يعنيني. كلما تذكرت ذلك قلت في نفسي: "يا ليتهمم أخبروني أن ذاك الرجل المحمول على الأكتاف ليس سوى والدي، تراني ماذا كنت سأفعل؟ لكنت تبعت موكبه، وشيعته ببصري إلى آخر المطاف ولكنت ودعته.