أولاً : النص التابوت الصغير: أمضيتها كشاعر تسكنه الوحشة . . أرِقاً أنفخ دخان التبغ في وجه الضجر، وفضاء المكان المزدحم بطوابير من الفراغ . . حبِلا بشعور و أحاسيس غريبة نأتْ بي بعيداً .. تمنيت لو أجهضتها. على ضوء أصفر شاحب يثير الشعور بالذنب . . قلبي منقبض بشدة تماماً كما لو كان آلة استشعار ورصد أو نزع ألغام ... شيءٌ ما سيحدث ..!!؟ ذلك ما أنبأت به عيناي اللتان كان رمشاهما يرفان بسرْعةٍ عجيبة ، ولكنْ متى ؟ وكيف ..؟ ولماذا ..؟ و أين ..؟ ذلك ما كنت أجهله تماما... مددت يمناي مع هزيع الليل الأخير و أدخلتها من تحت قميصي ووضعتها على صدري..؟ يا إله الكائنات ..! قبائل ترقص على إيقاع قرع الطبول .. هكذا بيّن نبض قلبي... كنت قد فقدت قداحتي بذات الليلة فاضطررت لأسباب اقتصادية اقتناء علبة كبريت رغم أنها ليست عادتي وربما كانت الأولى منذ ميلاد إدماني التبغ .. لم أدرِ ما حدا بي و اجترنّي إلى تأمل علبة الكبريت طيلة الليل ومع كل لفافة تبغ اشعلتها ..، كلانا سلّم للآخر نفسه ، وكلانا سعى بكل ما أوتي من طاقة إلى استنزاف صاحبه ، أنا والسجائر و أعواد الثقاب.. ولاح الفجر أخيراً بعد ليلة حزن وقلق طويلة ، وصاح الديك الشادي ، و أذّن مؤذّن الصلاة ، فنسيت ، كما عن غير قصد ،ما دار بخلدي وصال وجال بخاطري .. وتركتُ أذني تستجوب الميكرفون بالإصغاء حتى فرغ المصلون من صلاتهم ، وما هي سوى لحظات حتى جذب أحدهم الميكرفون معلناً موت شخصٍ لم أتبين اسمه أو اسم عائلته لخفوت الصوت وحزنه. رغم ذلك فلم يفتني موعد مراسم الجنازة " الثامنة صباحاً " حوقلت وهلّلت ونويت الذهاب للصلاة كائناً من كان ، ودخت من الأحاسيس الغريبة والشكوك التي استفردتني واستحوذت عليّ وذهبت بي كلّ مذهب وعجزت عن سبر غورها... في الثامنة إلا دقائق قصدتُ المسجد يرافقني الحزن الذي أُتخِمَ لفرط ما أسرف فيَّ .. و انتظرت حتى جيء بالنعش في تابوت، وطفقنا نصلي عليه ، وحرصت أن أكون في الصف الأول..كنت جائعاً إلى موقفٍ كذاك يعيد لي صوابي ويوقظني من غفلتي .. تعب ريحان النعش – كنت أتأمله- من إراقة رائحته ورونقه ، وتدلت رؤوس " المشاقر" و أوراقها من فرط النعاس ، ولدى مغادرتها مكان مراسم الجنازة " المسجد " كانت قد أتخمت ، كانت ما تزال تتجشأ.. عقب ذلك مضينا نغذّ الخطى مهللين محوقلين حاملين النعش في موكب مهيب صوْب المقبرة ،وصلنا إليها وانشغل الجميع وانهمك في إهالة التراب على القبر بعد أن وضِع التابوت في أحشائه، وخلصت من ذلك قبل أن تصنع عليه تلة وابتعدت لخطوات وطفقت أنفض كفيّ واصفق إحداهما بالأخرى ليتطاير غبار التراب، تراب القبر، الذي تعفرت به .. ومن ثم أدخلتهما جيبي مطرقاً، وفي أحد الجيبين وجدتُ علبة أعواد الثقاب والتي لم تشرق الشمس إلا وهي فارغة ..، تحسستها ولم يكن الأمر هيناً حتى أخرجها و أتخلص منها وسط ذلك الجمع المهيب ... شردتُ و أوغلت في الشرود متأملاً ما بجيبي وما يحدث وحدث وكان رهيباً فالتابوت الصغير " علبة الكبريت " لم يكن ثمة فرق بينه وبين التابوت الكبير " النعش" الذي أودعناه منذ لحظات إلى القبر خصوصاً في عالم الطرود ، إلا أن التابوت الصغير لم يكن به جثة علاوة على أن جيبي لم يكن ذا صبغة دينية .. وقفلت عائداً متثاقلاً لا ألوي على شيء عدا النوم بعد زوال ما أرقني وانقباض قلبي ورفة عيني السريعة ..، حاملاً ذلك التابوت الصغير بجيبي جاعلاً منه رابطاً يذكرني بالموت كلما نسيته... ثانياً : القراءة يرسم النص صورة " بورتريه " واضحة المعالم والتفاصيل للمتكلم في النص " الراوي " الذي يستحوذ على الحكي ويحكم السيطرة على ابراز التفاصيل عبر(الأنا) في رسم صورتها داخلياً وخارجياً . ورغم الإحاطة التي يتمتع بها الراوي المتكلم في النص إلا أنه يترك لنا فجوات لنمارس معه بعضاً من متعة الحكي ، وهو حكي ممتع حتى وإن كان مريرا . وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال قد يكون قديماً ، وهو : لماذا الحكي متعة ؟ لماذا عندما نحكي نشعر بالارتياح ؟ أو فلنقل ، ونحن في سياق الأدب ، لماذا نشعر بإبداعنا ؟ أنشعر بشيء من الإبداع- فعلا - ونحن نحكي ؟ وما نستخلصه من هذه الأسئلة المتراكبة يكمن في طيات كلمتين مفتاحيتين ، هما : المتعة والإبداع . و أمر المتعة والإبداع مع الحكي ذو شجون ، فهو يرتبط بالجماعة كما يرتبط بالفرد . الجماعة تحكي لتشكل هويتها تحكي لتكون فالحكي- كما يرى أقطاب الدراسات الثقافية – هو الأمة The Narration Is The Nation ، وهذا الحكي يشمل " مجموعة قصص وصور ومشاهد وسيناريوهات وحوادث تاريخية ورموز وطقوس قومية ترمز إلى أو تمثل التجارب المشتركة والمآسي والانتصارات والويلات التي تضفي على الأمة معنى"( حول الهوية الثقافية ، ستيوارت هول ، مجلة إضافات ع2 ربيع 2008م). و إذا كان الأمر كذلك ، فالأمة تحكي لتعيد تشكيل ذاتها ؛ لترسم معالم هويتها ؛ لماذا يحكي السود رحلة العذاب والعبودية بين أفريقيا والعالم الجديد ؟ ولماذا يحكي اليهود الشتات ؟ ولماذا يحكي العرب سيرة أجدادهم في هذا الزمن بالذات ؟ . إنه دفاع الهوية عن ذاتها. إنه الترسيم الرسمي لحدود الذات الجمعية ومشخصاتها وطموحاتها ، وليس ذلك بالضرورة حنيناً مرضيّاً إلى الماضي بل هو استحضار للماضي من أجل ترسيخ الحاضر وتأمين المستقبل. ومثل الجماعة يحكي الفرد ليجدد هويته ، وليستبصرها عميقا ، وليمدها بمعرفة تبدو – وهماً - معروفة من قبل لكنها تغدو معروفة- حقاً- عبر التشفير الرمزي ؛ أي تحويلها إلى أشكال رمزية كما يرى السيميائي كاسيرر. وبذلك تنتقل من هلام مفكك يتمدد في الوعي واللاوعي إلى صور محددة في الإدراك المتعيّن باللغة. تمارس الذوات المفردة حكاياتها لتعلن عن وجودها ( أنا أحكي إذن أنا موجود ) ، فوجودها بدون الحكي يعني الوجود غير المبنين . اللغة داخل خطاب السرد هي من يهبنا صورةً بنيوية ، و إلا فنحن حكايات مشتتة ؛ حكايات لا هوية لها ، ولا تأخذ هويتها إلا بالسرد . لماذا تموت حكايات عظيمة وتفقد وجودها ؟ لأنها ببساطة لا تحكى. كان العرب يدعون الشيخ الكبير بالشيخ الكنتي ( مِن كنتُ ) لأنه يحكي قصصه ، يحكي كثيرا ، يحكي أكثر من الذي لا يزال ( يوجد ) في دوامة الأحداث . إنه يحكي ليعيد بناء هوية قوامها صنع الحدث ، لكنها اليوم بعيدة عن تلك الفاعلية ، هي ، بعبارة محددة ، مهددة بالموت وتريد البقاء و ( الوجود ). ولنعد - بعد الحديث عن الضرورة الوجودية للحكي -إلى نص ( التابوت الصغير ) لنمارس اللعبة مع الراوي ؛ لنقوم بدورنا القرائي في ملاحقة فجوات الحكي المدركة في نسيج متكامل يترك فجواته لمرور القراءة وفعلها التأويلي . و أول ما يلفت من هذه الطبيعة الفجوية للنص العنوان الذي ينطوي على فجوته التي تنخر عميقا في جسد النص . ونحن لن نصبر كثيرا حتى نملأها ، ف( تابوت صغير) عبارة ملبسة ليس نحوا وإنما دلالة ، و إلباسها متأتٍ من الصفة " صغير" . لماذا صغير ؟ و لن نجهد كثيرا في التنقيب عن معناها لأن النص سيكشف بنفسه الخفاء الذي احدثته صفة " صغير" لتأتي لحظة الجلوة عند دال " كبريت " في داخل النص ، التابوت الصغير هو علبة الكبريت بوضوح وجلاء. هل انتهى الحكي ، المرتسم في التأويل ، عند هذا الحد ؟ أم أن للحكي سراديب يتخفى فيها ؟. يفتتح النص بعد العنوان بالفعل " أمضيتها " لنجهد في معرفة المفعول به قليلا فهو لا يظهر إلا في الفقرة الخامسة عند قوله " كنت قد فقدت قداحتي بذات الليلة " . إذن أمضى " ليلة " أما الفاعل فهو الراوي الذي يأخذ بزمام الحكي ولا يفلته حتى ينفض الغبار من يديه. لذلك فالزمن ليلة وساعة من نهار. والرواي يشبه نفسه بشاعر تسكنه الوحشة ، فهل الراوي معادل نصي للروائي الشاعر ؟ قد يكون فالدلائل تشير نحو معادل واقعي يتمثل في شخصية من دم ولحم لا من كلمات فقط ولا هي شخصية بلاستيكية مصطنعة. و لكن ، هل يشترط في الشاعر أن تسكنه الوحشة ؟ ربما، لأنه ذو شعور فارط يكاد يقضي عليه ، فالمتكلم شديد الحساسية بكل ماحوله .المكان يبدو في تلك الليلة " حبلا بشعور و أحاسيس غريبة " لأنه " مزدحم بطوابير من الفراغ " والضوء " أصفر شاحب " . والضجر يتغول ليكون له وجه لا يملك المتكلم إلا أن ينفث فيه دخان تبغه . وتستمر التفاصيل في الحضور لترسم المشهد الداخلي والخارجي للذات " شعور بالذنب " و " قلب منقبض " واستشعار بالطالع السوء . شيء ما سيحصل . ليقدم لنا ظلالا عن أمر جلل سيحصل وسيزيد في المرارة. لكن ليس قبل أن ينهي المتكلم تفاصيل ليلة موحشة ليست كليلة امريء القيس التي شدت نجومها بحبال وثيقة حتى هبطت على صدره بكلكلها ولكأنه في كابوس عاصف . إنها ليلة لم تتوقف حركتها بل كانت صاخبة تسمع فيها أصوات القبائل وهي تضرب بالطبول ، لينقلنا المشهد نحو صور مرسومة في مخيلتنا عن قبائل أفريقية تشعل النار وترقص على ايقاع الطبول حول ضحيتها . هل ضحية تلك الليلة هو المتكلم الراوي؟. في حومة ذلك الكابوس تمتد يد المتكلم مع هزيع الليل وكأنها " من خلال الموج مدت لغريق " لكأنها يد في الظلمة إذا أدخلها لم يكد يراها ، لكنها ، مع ذلك ، تقوم بمهمة يسيرة هي التحسس للصدر قبل أن يقضى عليه فيموت. تكبر الأشياء الصغيرة ويكبر التفكير فيها عبر منظار الحكي المرير : " كنت قد فقدت قداحتي بذات الليلة فاضطررت لأسباب اقتصادية اقتناء علبة الكبريت رغم أنها ليست عادتي وربما كانت الأولى منذ ميلاد إدماني التبغ .. " تأتي علبة الكبريت بسبب فقدان القداحة طارئةً لكنها – رغم تفاهتها وكونها من سقط المتاع - تكون محور الحكي ، أو محرق النص وعجلة التوليد فيه . تتوارد الاشعاعات الدلالية حولها ، فحملها لم يكن عادة ، لكنها أصبحت المثير الحسي لرغبة التفلسف لدى الإنسان( المتكلم ). و يأتي مع علبة الكبريت أعواد الثقاب والتبغ والدخان المتعالي لتشكل هذه الكوكبة الشيئية البسيطة جو الحكي . الحكمة تؤخذ من الأشياء البسيطة التي لا يؤبه لها ، كما ترى صرعة التفكير مابعد الحداثي ، ولذلك أهتم ماركيز – مثلا – بالتفصيلات الصغيرة في رائعته ( مائة عام من العزلة ) حيث راح يرسم تفاصيل الأشياء في القرية إلى حد وصف أدوات المخزن في البيت. نصنا يرسم طقوس التدخين وماراءها من مشاعر. إنه ينسجم مع الروح مابعد الحداثية في إغراق الفرد في " سردياته الصغيرة " . هو لا يتكلم إلا عن أجواء الكبريت والتبغ . بل أكثر من ذلك يحتفي بها في حكيه المرير . إنه غارق في ذاتيات بسيطة لا تتعلق بما يسمى ب" السرديات الكبرى " . و آية ذلك الاستغراق أن المتكلم يمضي ليلة كاملة حتى مطلع الفجر لا يذكر فيها إلا وحشة تلك الليلة وما رافقها من اهلاك للسجائر و أعواد الثقاب ، وحتى عند نداء مؤذن الصلاة ، وهو نداء يربط الفرد بالمجموع لا يستيقظ المتكلم من استغراقه في " سرديته الصغرى " بل يستمر الخيط الشعوري في مساره لا يحيد عن همومه القريبة. إلا أن صوتاً آخر يوقظ الحكي من مرارته البسيطة " سردية الليلة الموحشة " ليضعه في مواجهة سردية جمعية كبرى هي " الموت "!! لا يسمع الراوي المتكلم " اسم الميت ولا اسم عائلته " من صوت المتكلم في مكرفون المسجد ، ولا ينتبه لذلك فالعصر عصر السرديات الصغرى ، كل مشغول بقصصه الخاصة ، الكل مشغول عن الكل ، الكل رغم أدوات الاتصال في حالة اللاتواصل . فقط الموت هو المنبه ( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ). يتنبه فقط لموعد صلاة الجنازة " الثامنة صباحاً ". من هنا ترتبط وصلتا الحكي بين " القصة الصغرى" و " القصة الكبرى " قصة ليلة بسيطة تتكاثف فيها الهموم منذرة بأمر ما ، وقصة " الموت" التي تربط الفرد بالمجموع . إنها القصة التي تعبر عن حاجة لدى الفرد : " كنت جائعاً إلى موقفٍ كذاك يعيد لي صوابي ويوقظني من غفلتي .. " إنها الصرخة في وجه " استفراد " المشاعر الكئيبة بالمتكلم. لكنه ، رغم ذلك ، يعيش حالته السردية الخاصة يحكي بصيغة الجمع " وطفقنا نصلي عليه " .. الخ ، وهو يهجس (منفرداً) بالتفاصيل المصاحبة للموكب الجنائزي ؛ الريحان وحركته ونعاسه ؛ الدفن وتفاصيله ، ليعود ، مرة أخرى ، إلى علبة الكبريت الفارغة في جيبه بعد ليلة من الاستهلاك للدخان. لكن هذه العودة من السردية الكبرى إلى السردية الصغرى لا تعبر عن ارتداد في التفكير بالسردية الكبرى بل تعبر ، كما تشير دوال النص ، عن ربط بين السرديتين فالصغرى التي كانت من لوازم الهم والضجر ، ورغم اتيانها بصورة طارئة ، غدت – كما سبقت الاشارة – محلا لانبثاق الحكمة " للتذكير " حسب منطوق النص . علبة الكبريت تذكر بالتابوت الحامل للإنسان إلى نهايته . هل في ذلك إشارة وعظية إلى خطر الدخان ؟ أم أن النص يسافر إلى ضفاف فلسفية حارت فيها العقول ؟. كلا التأويلين وارد في سياق النص المفتوح . فالتذكير بخطر الدخان متأت من نية الراوي على حمل علبة الكبريت فارغةً كإعلان عن رفض للتدخين ، وهذا معنى قريب جدا ، أو فلنسمه المعنى الأول القريب من ظاهر الدوال الفاعلة في السيرورة الدلالية للنص ، كما يقول بيرس. لكنّ هناك مغزى فلسفيا أبعد يكمن في النظرة إلى حقيقة الحياة المعاصرة التي تجري في سياق القصص القصيرة البسيطة المختزلة في ليلة توصف بالوحشة و بتعاسة الإنسان المعاصر المصاب بداء العصر ؛ داء الكآبة الذي يجعله منكباً على أشيائه البسيطة ، أو ( ناظراً إلى قدميه ) بتعبير إليوت في ( الأرض اليباب ) التي يصف فيها بؤس الإنسان الحديث ؛ يمضي الكل زاحمين الشوارع لا ينظرون إلا إلى أقدامهم. وما يلبث الناس سادرين في قصصهم تلك حتى تفاجئهم القصة الكبرى ؛ قصة الموت التي يغفل عنها الإنسان المعاصر الذي وصف في هذا النص ذاته بأنه يعاني من "جوع " إلى موقف يذكره . أو فلنقل- نحن- : موقف يرفعه من حساسية حياتية تقفه عند سرديات التشظي الذاتي ( الرأسمال الشيئي) إلى حساسية أخرى ترفعه إلى صعدات التماسك الوجداني ( الرأسمال الرمزي ) كما يعبر بعض علماء الاجتماع.