كان الوقت أصيلا والجو باردا رطيبا حين غشيني ذات زوال ميل إلى ارتياد حديقة وسط مدينة طنجة لأسري عن نفسي بنزهة رفقة ابني الصغير . كان حظي حين نزلت إلى الحديقة وتمشيت بين ممراتها أني عثرت على مقعد مكون من لوحة خشبية مستطيلة وخربة نخرها السوس نخرا فلم يبق فيها ولم يذر حتى أنها ما عادت فيما بدت لي صالحة لتكون حطبا في مواقد الأفران التقليدية . جلست على ذلك المقعد ثم أسندت ظهري إلى قطعة خشبية خشنة ونتئة ،لكن سرعان ما تكدر صفوي إذ شعرت بوخزات في ظهري فطاف بخيالي أنني خاضع في جلسة للوخز بالإبر الصينية . حاولت بعد ذلك أن أعدل من وضعية جلوسي رغبة في الإفلات من تلك الوخزات اللاذعة، لكن دون جدوى . لذلك ما عتمت أن هجرت ذلك المقعد ثم قصدت مكانا ظليلا حيث ألقيت بجسدي على عشبه وتمددت في استرخاء لكن في احتراس لأنه كان على قيد خطوات مني قطيع من الكلاب الضالة التي كانت ترتع في دعة وسلام. رحت لحظتها أقلب بصري في أرجاء المكان ثم أطلقت العنان لابني الذي كان مستقرا بجانبي ليشارك أترابه اللعب والركض بعد أن حذرته من الدراجات النارية التي كانت تمر مندفعة من حين لآخر في ممرات الحديقة . أغلب المقاعد التي كانت في مواجهتي كانت تحتلها نساء وشيوخ.وعن كثب مني ، كانت مجموعة من النساء تجلسن على مقعد متراصات وهن تتطارحن أحاديث حول شؤونهن وأحوالهن . كانت أحاديثهن المتشعبة التي لا تخلو من جدال تملأ الفضاء وتتهادى إلى أذني كما آذان مرتادي الحديقة المجاورين لهن . معظم أحاديثهن انصبت على ارتفاع تكاليف المعيشة وتسلط المعلمة ونقمة الزوج … وفيما كنت على تلك الحال سموت برأسي و جعلت أجيل عيني فيما حولي حتى جذب بصري مشهد ولد يافع كان يحتضن غير بعيد مني فتاة ناضرة . كانت الفتاة تجلس على ركبة الولد وهي تتوسد في غنج صدره بينما كان هذا الأخير يداعبها بالهمس واللمس في جسارة وبلا احتشام كما لو كانا في خلوة .والواقع أنني لم أقم لذلك المشهد وزنا إذ سرعان ما أشحت ببصري عنه ثم يممته شطر جهة مقابلة حيث استقرت عيناي على خمسة مسنين كانوا يجلسون على مقعد مستطيل متزاحمين وهم يثبتون عيونهم على الولد والفتاة ولا يزيغون وجوههم عنهما . بدا على جمهور المسنين الاهتمام البليغ بذلك المشهد الغرامي المعروض قبالتهم . والحق أن الفضول دفعني إلى التلهي بالنظر إلى المسنين الذين كانوا جامدين خامدين كأن على رؤوسهم الطير. ظل المسنون على تلك الحال يجرفون بنظراتهم الثاقبة والملتهبة المشهد الغرامي بشغف ولهفة بعد أن همدت أصواتهم وخمدت حركاتهم . وبالرغم من أن أحدهم كان عجوزا طاعنا في السن، مقوس الظهر ، مهيب الطلعة ، ممتقع الملامح قد بلغ به الهزال أقصاه ، فقد رأيته منكمشا في جلبابه الفضفاض وهو يضع رجلا فوق رجل يتابع المشهد بعينيه الذابلتين ويثبت من حين لآخر نظارته بأنامله كما لو كان ينشد أن تصفو له الرؤية . وبعد حين رمقته يعض شفتيه ويحرك شدقيه يمنة ويسرة وهو يفتل شاربه الأشيب تارة وطورا يشد بأنامله لحيته البيضاء المسترسلة على صدره حتى ليكاد ينتزعها من جذورها.عندئذ أيقنت أن العجوز طار ورعه و اعترى كيانه الارتجاج بعد أن اجتاحته رغبة ما. وتعزز يقيني حينما رأيته يرتكز على عصاه ويقرع بها الأرض في اهتياج كما لو كان يصب سخطه على شيخوخته. والحق أنني خشيت حينئذ أن يفقد العجوز السيطرة على نفسه ويخلع جلبابه ويشمر عن ساعديه ثم ينطلق … في تلك الأثناء اختلست نظرة عجلى إلى الفتاة والولد اللذين كانا ما يزالان غارقين في المداعبة والملاطفة بل وأحيانا العناق ، لكن من غير لثم ولا تقبيل . وبعد وقت قصير لمحت الفتاة تشرئب برأسها ناحية جمهور المسنين بعد أن تفطنت إلى أن عيونهم موصولة بها ، فما ملكت الفتاة بعد ذلك إلا أن اعتدلت في جلستها وسوت شعرها المسترسل ثم رشقت المسنين بنظرات حادة و مفعمة بالحنق والزجر ، غير أنها ما أسرع أن أرسلت ضحكة ناعمة بعد أن قرص اليافع صدرها الناهد ، فجعلت الفتاة تنحي في دلال يده عنها ثم ما لبثت أن ارتمت في حضنه كأنها غير معنية بالنظرات الحامية المصوبة إليها ، فما ملك الشاب بعد ذلك إلا أن أحاطها بذراعيه وجعل يميل عليها وهي تصغي إلى همسه وتنعم بمداعبته بعدما لم تعد تستشعر أي تحرج ليتواصل عرض المشهد الغرامي أمام عيون المسنين المتفرجين . كانت الشمس حينئذ قد شارفت على الغروب ، وما هي إلا لحظات حتى تردد صدى آذان المغرب في أرجاء الحديقة ، فأومأ أحد المسنين بعصاه لمجالسيه بالاستجابة للآذان ، فهبوا واقفين في وهن و تؤدة ثم أسلموا أمرهم لله حيث انطلقوا من فورهم يسعون إلى ذكره، بينما بقي العجوز الطاعن في السن متسمرا في مقعده يتطلع بعينيه الذابلتين إلى المشهد الغرامي مأخوذا مبهورا. فما أجل ما فعل المشهد الغرامي في كيانه! . مكث العجوز على تلك الحال إلى أن وقف عليه رجل فألقى إليه بتحية ثم أهاب به أن ينهض داعيا إياه إلى الهدى ، فانتبه العجوز إلى أنه في وضعية تلبس ، فلم يجد عن الامتثال لدعوة الرجل من محيص ثم هز قدمه على مهل و تحامل على نفسه بعد أن أمسك الرجل بذراعه ثم اتكأ على عصاه و مضى في أثر المسنين عابسا ومتحسرا وهو يسدد آخر نظرة مشبعة إلى العرض الغرامي . وبعد انصراف العجوز ساورتني الرغبة في مبارحة المكان . وفيما كنت أهم بالمغادرة لاحت مني نظرة إلى طفل لا يعدو الثالثة من عمره. كان الطفل على مقربة مني ، وما أسرع ما فوجئت به يتقدم مني و يمسك بيدي والدموع تنساب على خديه . والواقع أني ارتبت في أمره. دنوت منه وانحنيت عليه وجعلت أسأله عما به أملا في أن يفضي إلي بمكنون سره ، فاحتبس الكلام في فمه ،غير أنه ما لبث أن انفرجت شفتاه المرتجفتان عن كلمة " ماما" . نظرت إلى وجهه فتجلى لي الرجاء والاستعطاف في نظراته … حدست أن الطفل تائه يبحث عن أمه . ووجدتني بعد حين أخرج منديلا من جيبي وأمسح دموعه . ربت على ظهره في حنان ورفق ثم رفعته واحتضنته بين ذراعي ومضيت ألاطفه و أطيب خاطره وأداعب شعره في تودد حتى انتابه الاطمئنان ، فإذا به يمد يده إلى عنقي ويطوقه ثم توسد كتفي كما لو كان ابني . في تلك الأثناء لم أكن أتمنى شيئا سوى أن تصافح عيناي أم الطفل ، لذلك جعلت أتلفت حولي وأطوف ببصري أملا في العثور عليها ، بيد أنني لم أجد لها أثرا. في تلك اللحظات التي ثقلت وطأتها علي ألفيتني في حيرة من أمري، ذلك أنني صرت مرافقا لطفلين بعد أن خرجت من بيتي رفقة طفلي . والحال أنني أحسست أن شيئا ما شدني إلى هذا الطفل التائه الذي آثرني دون غيري من مرتادي الحديقة وأودعني أمانة رعايته بعد أن خصني بحسن ظنه. انطلقت بعد ذلك أتنقل بين ممرات الحديقة جيئة وذهابا باحثا عن أمه . وكنت كلما صادفت امرأة في طريقي إلا أعلمتها بأمر الطفل علها تعينني على أمري … لبثت على تلك الحال حتى اهتديت إلى مقعد شاغر ثم استلقيت عليه مستسلما للانتظار مترقبا ظهور أم الطفل ، على حين انبرى ابني يلاعب الطفل ويسري عنه بعد أن أنس به ونعم بوجوده . بل إن ابني تمنى علي بعد ذلك أن أحتفظ بالطفل ،غير أنني أقنعته بأن الطفل تائه يبحث عن أمه. كانت الحديقة عندئذ قد بدأت تتلفع بالظلام بسبب تعطل المصابيح المنتشرة في رحابها حتى أنها ما عادت تستضيئ إلا بأضواء السيارات وبالمصابيح الشاحبة المتدلية من الأعمدة المنتشرة على أطراف الشارع المحاذي . كان الوقت يمرق بسرعة . وكان الانتظار قد طال بي حتى ضقت به ذرعا . خطر لي بعدما بلغت حيرتي منتهاها أن خير ما يمكن أن أصنع هو تسليم الطفل لأقرب مركز للشرطة ، بيد أنني آثرت أن أتريث . كان قلقي يشتد بمرور الوقت . انطلقت بعد ذلك أسير في ممرات الحديقة و أنا أدير عيني في أرجائها ،غير أنني ما كدت أنعطف في أحد الممرات حتى تبينت أمة من النساء تهرول نحوي كأنهن ستهاجمنني .كانت النساء تتقدمهن امرأة بدينة تضع يدها على صدرها وتلطم بأخرى وجنتيها وهي تصيح منادية " ابني، ابني " . حينها أدركت بل أيقنت أن المرأة البدينة هي أم الطفل التائه . والواقع أنني ارتعت لمشهد النساء اللواتي كانت أعدادهن في ازدياد . وتفاقم ارتياعي حينما ضربت النساء الحصار حولي وجعلن يتطلعن إلي بالهمز واللمز والوشوشة ويخترقنني بعيونهن المرتابة. وقفت أرنو إليهن وقد وقع في نفسي أنني في مأزق ، و خيل إلي أنهن سيتهمنني باختطاف الطفل ، لذلك أخذت حذري وملكت رباطة جأشي ثم تهيبت لمجابهتهن . لم ينقض وقت قصير حتى قفز الطفل من ذراعي ومضى مندفعا نحو أمه كأنه تحرر من عقال ثم ألقى بجسده في حضنها على حين مالت أمه إليه وأطبقت عليه ثم أنشأت توسعه لثما وتقبيلا وهي منفجرة بكاء ونشيجا. أصوات النساء المختلطة كانت ما تزال تعم المكان ، ولم يهمدها إلا زغرودة مدوية أطلقتها امرأة ابتهاجا بالعثورعلى الطفل . كانت تلك الزغرودة كفيلة باستقطاب المزيد من الفضوليات وبعض الفضوليين. لبثت جامدا في مكاني ممسكا بيد ابني أرنو إلى المتجمهرين في صمت دون أن أخطو خطوة من فرط التأثر. كانت دائرة المتجمهرين تضيق على المرأة تحت إيقاع أصوات متشابكة ، وكان الفضوليون ما يزالون يتقاطرون على الأم وطفلها ويحتشدون حولهما حتى ماج المكان بالمتجمهرين . وقفت أتأمل المشهد بعد أن شملني الرضا و الارتياح . كانت لحظة مؤثرة غير أنها مسحت كل ما تملكني من شعور بالقلق والحيرة . تقدمت بعد ذلك أم الطفل نحوي فأجزلت لي الشكر في لطف ثم طفقت تفضي إلي بما وقع . وما أن انتهت من كلامها وانطلقت لشأنها حتى انفرط عنها عقد المتجمهرين . أحسست بعد ذلك أن عبئا ثقيلا انزاح عن كاهلي وانثنيت عائدا رفقة ابني إلى بيتي وأنا في غاية الغبطة. وفيما كنت أواصل سيري نحو منزلي صادفت في طريقي امرأة تنصح أخرى بعد أن انتحت بها جانبا فوق الرصيف و تطلب منها أن تشد بقوة على يد ابنها وتحرص عليه كل الحرص . ولما كان الغد جرى على أفواه الناس وعلى مواقع التواصل الاجتماعي خبر إحباط مجموعة من النساء محاولة اختطاف طفل في حديقة بوسط المدينة .