ذات صباح صيفي بديع من شهر غشت توجهت نحو مقهى اعتدت ارتياده كلما نازعتني الرغبة في الجلوس منفردا، وهو مقهى يحلو لي أن ألوذ به ليس لموقعه المطل على البحر فحسب، وإنما للسكون الذي عادة يغشى القاعة الواقعة في طابقه العلوي، والتي قلما يرتادها الرواد صباحا. دلفت إلى تلك القاعة في ذلك الصباح وانتحيت زاوية من زوايا شرفتها الداخلية التي كانت في تلك الأثناء خاوية على عروشها، ثم اتخذت مقعدي بجوار نافذة عريضة مطلة على الكورنيش، وكان خلفي قد انتصب عمود مرمري عريض يحجبني عن كل من يتخطى داخلا عتبة القاعة. ثم إنني ما إن عدلت جلستي والتقطت أنفاسي حتى أقبل النادل بخطى حثيثة ثم حياني بابتسامة مصطنعة وسألني متعجلا عن طلبي وكأنه خشي أن أغادر القاعة التي كانت أشبه بمكان مهجور. وبعد أن عاد النادل من حيث أتى رحت أنقل بصري إلى البحر وإلى ما يجري في الشارع وفي الرصيف العريض الذي كان ما يزال خاليا إلا من بعض المارة. لم تمض بعد ذلك إلا دقائق معدودة حتى قدم النادل وناولني فنجان قهوة وقنينة ماء صغيرة ثم انسحب ليترك القاعة الغارقة في السكون والهدوء تحتضنني لوحدي. وفيما كانت نسائم البحر تهب علي من النافذة وأنا مستغرق في التأمل، شارد بخيالي، تهادى إلي مسمعي صوت وقع أقدام وتبادل ضحكات بين امرأة ورجل، فأدركت على الفور أن القاعة استقبلت وافدين جديدين وأنني لم أعد في عزلة عن الناس. وعلى بعد خطوات مني جلس الوافدان، لكن من غير أن يحسا بوجودي خلف العمود الذي كان يحجبني عنهما وعن كل زبون يلج القاعة، إذ لم يكن يبين مني أي شيء. وما هي إلا لحظات حتى سمعت النادل يتحدث إليهما في شأن طلبهما ثم ما لبث أن انصرف لإحضار المطلوب. وفيما كنت قابعا في مقعدي أقلب ناظري في شاشة هاتفي، بدأ حديث الوافدين يخترق رويدا رويدا أذني بلا استئذان. كان الرجل يحدث المرأة التي تجالسه في دعة واطمئنان وبصوت جهوري ظنا منه أنه في خلوة معها وأن القاعة لا تحتضن غيرهما.. كان حديثه يصلني واضحا، سمعته يسرد عليها بعض شؤون حياته ونتفا من إنجازاته فكبر في ظني أن علاقة الرجل بمن تجالسه حديثة المنشأ، لكن حينما سمعته في لحظة يتحفها بعبارات غزلية ويفيض في الكلام عن تعلقه بها رجحت أن تكون خطيبته. أما المرأة فكانت مقلة في كلامها وكانت تكتفي بتلقف الكلام الناعم الذي كان يغمرها به الرجل، غير أنها كانت من حين إلى آخر ترسل ضحكات رقيقة لا تخلو من غنج و دلال. ولا أنكر أنني في تلك الأثناء كاد الفضول أن يدفعني إلى أن أستدير وأجرف بنظرة خاطفة ملامح العاشقين اللذين يعقدان جلسة رومانسية غير بعيد عني. لكنني وتفاديا لأي إحراج لي ولهما لم أجسر. وعلى حين غرة انقطع حبل الحديث بين العاشقين وأمسك الاثنان عن الكلام بعد أن حضر النادل وقدم لهما وجبة الفطور التي أنبأتني رائحتها أنها غنية وشهية. لم يكد النادل يغادر القاعة بعد ذلك حتى عاد الرجل ليلقي على سمع عشيقته من الكلام أرقه وأعذبه. والحق أن إحساسا بالحرج والضيق داخلني في تلك الأثناء لأنني ممن لا يستسيغون استباحة خصوصيات الآخرين..ولأجل ذلك حرت في ما أصنع، فلو نهضت وانسحبت سأكون في وضعية لا أحسد عليها، ولو مكثت في مكاني فلن أكون أحسن حالا. وفي النهاية رأيت أن مكوثي في ذلك المكان ليس من اللباقة والأدب، فالرجل فيما رجحت يجالس خطيبته، وحديثه الناعم معها كان يتناهى إلي بوضوح ولم أكن أتسمع أو أرهف أذني ولم تكن لي بالتالي القدرة على أن أصم أذني عن ذلك الحديث. والحقيقة أن نفسي حدثتني في لحظة بأن أحرك كأسا أو مقعدا أو أهاتف شخصا لألفت انتباههما إلى وجودي، لكنني تحاشيت كل ذلك لأني لم آنس في نفسي الجرأة على إعلان حضوري بعد أن سمعت نتفا من حديثهما الرومانسي الدافئ. ولعل الأدهى من ذلك أنه انتابتني في إحدى اللحظات سعلة خفيفة كادت أن تنطلق من فمي غير أنني أخرستها عنوة. لقد أحسست في ذلك الصباح أن حظي العاثر أوقعني في ذلك الموقف المحرج، وجعلني أنكمش في مقعدي كالمختبئ أسمع بل وأصغي إلى حديث الرجل والمرأة اللذين كان يهنآن في ما حسبا بخلوتهما. وكان الرجل حريصا من خلال حديثه على إظهار خفة روحه وطيب خصاله، وكان من حين إلى آخر لا ينفك يطري جمال المرأة التي تجالسه ويناديها بأجمل الكلمات. أما المرأة فكانت تلوذ في تلك الأثناء بالإصغاء، وكأن حديثه الناعم عقد لسانها وحملها على أجنحة الخيال. والحق أن ذلك الحديث أشعل في نفسي الرغبة في مغادرة القاعة حتى أنه قر عزمي في لحظة على إخلاء مقعدي والانصراف، غير أنني ما كدت أهم بذلك حتى طرق مسمعي صوت رنين هاتف أحدهما، ثم سمعت المرأة بعد ذلك تخبره بأن أمها تناديها وبأنها مضطرة للعودة إلى البيت، فلم يملك الرجل إلا أن انصاع لرغبتها. وبذلك انتهت فعاليات الجلسة الرومانسية التي احتضنتها القاعة على مقربة مني. لم ينقض إلا وقت قصير بعد ذلك حتى أبصرت الرجل والمرأة من خلال النافذة الزجاجية وهما ينزلان الدرج جنبا إلى جنب. كان الرجل الذي بدا لي في منتصف عقده الرابع فارع الطول وأنيقا في ملبسه؛ أما المرأة فأوحت لي من ملامح وجهها الأسمر أنها في بداية عقدها الثالث..كانت شابة حسناء، طويلة القامة، ممتلئة الجسم، ترتدي بنطلونا يكاد يتمزق من شدة ضيقه، وكان شعرها الأسود الناعم منسابا على كتفها. وعند نهاية الدرج أبصرت الرجل يدفع الحساب للنادل ثم وضع نظارة سوداء كادت أن تغطي نصف وجهه وتابع سيره وهو ممسك بيد مرافقته الحسناء السمراء التي كانت تسير مزهوة ومتمايلة في اتجاه سيارته التي كانت مركونة بجوار الرصيف المحاذي للمقهى. والواقع أنه حالما انصرف الاثنان تنفست الصعداء وشعرت وكأنني تحررت من قيد الإحراج فاسترخيت في مقعدي بعد ذلك وجعلت أتطلع إلى ما حولي وأستمتع بالسكون الذي عاد ليعم مرة أخرى أرجاء القاعة. بعد انصرام ما يزيد عن أسبوع عن تلك الواقعة ساقتني خطاي ذات صباح إلى المقهى نفسه، وصادف أن كانت القاعة التي أوثر الجلوس فيها خالية من الرواد. ولأنني كنت أنشد أن أخلو بنفسي ولا أجالس أو أحدث أحدا في ذلك الصباح، فإنني اتخذت مجلسي في المكان السابق الذي يحجبه العمود العريض عن عين كل زبون، ثم طفقت بعد ذلك أنظر إلى بساط البحر الأزرق وأتابع حركة المشاة والسيارات. وبينما أنا على تلك الحال رمقت من خلال الواجهة الزجاجية التي كنت أجلس بجوارها الرجل صاحب الكلام الناعم وهو يصعد درج القاعة رفقة شابة شقراء في منتصف عقدها الثالث. والعجيب أن السيناريو السابق تكرر في ذلك الصباح، فقد دخل الاثنان تسبقهما رائحة العطر وجلسا غير بعيد عني من غير أن يشعرا بوجودي خلف العمود العريض؛ وما إن استقرا في مكانهما وقدم لهما النادل طلبهما حتى انبرى الرجل يسمع الشابة من أطايب الحديث ومن معسول الكلام ما يروقها ويرضيها. ولا أنكر أن ذلك الحديث الناعم فتح شهيتي في تلك الأثناء للاستماع، رغم أنني من الذين يمقتون الفضول والتطفل. والواقع أنه لم يكن لي من خيار غير ذلك إذ ألفيت نفسي وقتئذ مجبرا على الاستماع، فالقاعة كانت تضمنا نحن الثلاثة فقط ولم يكن من صوت يعلو في فضائها سوى صوت الرجل الذي كان ينعت الشابة بأجمل الصفات ويفضي إليها بما يساوره من حب وإعجاب. والحقيقة أنه راودني الشك في ما كان الرجل يضمر في سريرته من خلال كلماته التي لم تكن تختلف كثيرا عن الكلمات التي كان يلقيها في جلسته السابقة على مسمع الشابة السمراء؛ بل إنني في لحظة أيقنت أن الرجل إنما يتقمص دور العاشق المتيم وأن الشابة الشقراء إنما طريدة ينشد الإيقاع بها. كان الرجل بارعا في أداء دوره التمثيلي، وكان حديثه معها لا يختلف كثيرا عن حديث المسلسلات الغرامية التركية، حتى خيل إلي في لحظة وكأن مقطعا من مسلسل غرامي مدبلج يتم تصويره خلفي، إذ كان الرجل يتحدث إلى الشابة الشقراء بحرفية عالية ويمارس عليها سحر الكلمات عبر انتقاء عبارات عذبة تلامس القلب وتهز قرارة النفس. ووحده مسمعي كان يملك حصريا حقوق الإصغاء إلى ذلك الحديث الرومانسي الذي حضر فيه عنصر التشويق بفعل بهاء الكلمات الرقيقة التي كان الرجل يوظفها خلال تلك الجلسة الغرامية التي لم يكن يعوزها وقتئذ سوى التصوير والموسيقى. لكن رغم أنني وجدت نفسي مندمجا في حديث الرجل ومتفاعلا معه، لكن ليس إلى درجة الانصهار كما يحدث لي حين حضوري بعض العروض المسرحية الجادة؛ ولأنني أومن بأهمية الصدق في بناء العلاقات الاجتماعية فإنني ألفيتني بعد أن تابعت جزءا لا بأس به من حديث الرجل أجنح نحو نسف تلك الجلسة، احتجاجا على غياب عنصر الصدق فيها، فكان أن هببت واقفا معلنا عن حضوري ثم شرعت في توزيع نظراتي على المقاعد والطاولات المتواجدة في القاعة كأني أبحث عن شيء ما. وفي تلك الأثناء استرقت إلى العاشقين النظر فلمحتهما يجلسان متقابلين. وما أن التقت عينا الرجل بعيني حتى حدجني بنظرات ثم عبس وبسر وهو يسوي في ارتباك ربطة عنقه فاهتديت إلى أن ظهوري ضايقه، فلم يملك الرجل بعد ذلك إلا أن أمسك عن الكلام واعتدل في جلسته ثم أطرق برأسه محاولا إخفاء وجهه وجعل يمسح جبهته من العرق بمنديل ورقي؛ أما الشابة فنكست رأسها وتشاغلت بالنظر إلى هاتفها وهي تمرر أصابع إحدى يديها على شعرها الأشقر. اخترت لنفسي بعد ذلك مقعدا وسط القاعة، ثم إنني ما إن ألقيت جسدي عليه حتى رأيت الرجل بوجهه المكفهر يرميني بنظرات لا تخلو من حدة، وسرعان ما وضع على عينيه نظارته السوداء، فأدركت أن الجلوس لم يعد يطيب له في ذلك المكان وأن النص المسرحي قد انتهى عرضه. لم تمض إلا لحظات حتى نهض العاشقان وبارحا المكان، ثم إنني عدت على الفور إلى مكاني المأثور الذي يحلو لي فيه الجلوس، فانبريت أشيعهما بنظراتي من خلال الواجهة الزجاجية. كانت الشابة الشقراء طويلة، ممشوقة القوام وذات حظ وافر من الحسن والجمال، وكانت تسير بجانب الرجل خافضة الرأس في اتجاه سيارته التي كانت مركونة في نفس المكان السابق. لمحت الرجل بعد ذلك ينحني ويفتح لها باب سيارته التي تحركت رويدا رويدا حتى توارت عن ناظري. عاد بعد ذلك الصمت إلى القاعة ليحيط بي من كل جانب، فجلست أستمتع بهدأة المكان وسكونه من غير أن يقلق راحتي صوت أو همس. وفي مساء يوم جمعة كنت مارا على رصيف بجوار إحدى الحدائق العمومية وسط المدينة، فشاء القدر أن يرمي في طريقي بذلك الرجل صاحب الكلام الناعم، إذ لمحته جالسا على مقعد خشبي مستطيل على أطراف الحديقة، وكانت بجانبه امرأة محجبة ترتدي جلبابا، وكان بدوره يلبس جلبابا مغربيا عصريا. رأيته وقد ضم طفلا صغيرا إلى صدره يلاعبه ويقبله بينما كانت المرأة التي ملأني الاعتقاد أنها زوجته تمسك مقبض عربة فيها توأمان رضيعان.. وكان وجهه تعلوه ابتسامة مشرقة وهو يهمس إليها ويلقي على سمعها بحديث يختلف بالطبع عن حديثه السابق مع الشابتين السمراء والشقراء. ولم يكن الرجل يضع وقتئذ على عينيه نظارته السوداء التي تغطي نصف وجهه؛ أما زوجته فكانت تصغي إليه فيما بدا لي في شغف واهتمام وهي تتأبط إحدى ذراعيه، وكانت شفتاها تنفرج من حين لآخر بابتسامة في وقت كانت عيناه الزائغان تغطيان جسد كل فتاة أو سيدة تمر بجوارهما.