في عقد الخمسينات، بدأت الأغنية المغربية تؤسس لنفسها مسارا خاصا، لا سيما مع بروز جيل من الملحنين الرواد أسس لأسلوب جديد يعتمد على "اللغة الدارجة والإيقاعات الشعبية" لتأصيل هذه الأغنية. ويرى الباحث في علوم الموسيقى أحمد عيدون أن الأغنية المغربية مرت بعدة مراحل، بدء بتقليد الأغنية المصرية من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن الماضي٬ حيث ظهر بعد ذلك جيل الملحنين أسس لأسلوب جديد يعتمد على اللغة الدارجة والإيقاعات الشعبية. وقبل ذلك، كانت هناك عدة تجارب تؤسس لهذا المنحى، كان أهمها ما قدمه الحسين السلاوي في نهاية عقد الأربعبينات. وقد سميت هذه الأغنية في زمنها بالأغنية "العصرية" لتمييزها عن الغناء التراثي والشعبي، بحسب المتحدث ذاته. واحتفل الموسيقيون المغاربة يوم الاثنين الماضي باليوم الوطني للموسيقى، الذي يصادف 7 ماي من كل سنة، في ظل تحولات لافتة شهدها مسار هذه الأغنية وتطورها عبر الزمن. ويرصد الأستاذ عيدون، في هذا الصدد، بروز اتجاهين كبيرين، وظف الاتجاه الأول اللغة العربية في كلمات الأغاني٬ بينما فضل الآخر التركيز على الدارجة وما يرتبط بها من إيقاعات. ويعد أحمد البيضاوي زعيم الاتجاه الأول. وقد نافسه فيه كل من عبد الوهاب أكومي وعبد السلام عامر. أما الاتجاه الثاني فقد عرف أسماء وازنة مثل محمد فويتح ومحمد بنعبد السلام وعبد القادر الراشدي وإبراهيم العلمي، قبل أن تلتحق بهم كوكبة كبيرة من الملحنين في السبعينيات. وتولد عن هذين الاتجاهين أسلوب وسيط منذ أن برز اسم عبد الوهاب الدكالي كملحن موهوب وفنان استمر نجمه في التألق لعدة عقود، على أن هذه الحركة، مثلما يؤكد الباحث المتخصص، مدينة لشعراء الأغنية ولجيل من المطربين والمطربات ممن يطول الحديث في سرد أسمائهم. وإلى جانب الأغنية التي اعتمدت القصيدة والزجل المغربي٬ يجدر التوقف عند الأغنية الأمازيغية، وهي الأغنية التي ظلت إلى عهد قريب ملتزمة بشكلها التقليدي شعرا وصيغا لحنية وأسلوب أداء على الرغم من أنها في ما سيلي من الفترات قد تتماهى مع الموجات الجديدة من مجموعات غيوانية أو راي في شرق المغرب أو تيارات شبابية حاليا، بحسب ما لاحظ الأستاذ عيدون. ولم يفت الباحث في علوم الموسيقى الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن الأغنية المغربية المسماة عصرية بدأت تستنفذ قوتها وحضورها لدى جيل الشباب منذ بداية السبعينات٬ ما فتح المجال لظاهرة المجموعات الغيوانية التي شكلت قطيعة مع الأغنية السائدة والغارقة آنذاك في مضامين العشق واللوعة والحنين٬ لتقدم مضامين أخرى تنطلق من المقومات التراثية لتعانق موضوعات إنسانية كبرى. لكن هذه الظاهرة بدأ دورها ينحسر في الثمانينيات مع اجتياح أغنية الراي للمشهد الموسيقي الوطني وصعود الأغنية الشعبية بسبب ظهور شركات إنتاج الكاسيط والفيديو الغنائي. وفي نهاية القرن ومع بداية الألفية الثالثة وتحث تأثير العولمة الموسيقية٬ برز في الساحة الفنية شباب يمتحون من تيارات الروك والهيب هوب والموسيقى الالكترونية وأساليب المزج ليقدموا أنفسهم بدلاء عن الجيل القديم. وفي هذا الاتجاه، يرصد الأستاذ عيدون ظهور تجارب عديدة في "البوب ميوزيك" و"الساول" وكذلك الأغنية الرومانسية التي تستعيد التجربة القديمة للإخوان ميكري. وبعد مرور عقدين من الزمن عادت الأغنية العصرية في حلة شبابية جديدة لتستفيد من تكنولوجيا التسجيل الحديثة ومن كفاءة بعض الموزعين المتحكمين في هذه التقنيات ليفرضوا أنفسهم على امتداد العالم العربي ويمزجوا بين دارجة وسيطة وتوزيعات غربية وأنغام خليجية ساهمت في انتشارهم في العالم العربي، بحسب ما لاحظ الباحث الموسيقي. واليوم، تحفل الساحة الفنية بكافة أنماط الأغنية ذات التأثيرات المختلفة٬ على الرغم من أن الغلبة مرحليا هي للأغنية الشبابية الجديدة٬ وفق ما يرى الأستاذ عيدون، خصوصا وأن التواصل مع الجمهور الواسع أصبح يتم أساسا عبر الوسائط الالكترونية ومواقع الأنترنت. غير أن الأستاذ عيدون يؤكد أن هناك شبابا كثيرين يقدمون موسيقى تستحق التقدير ويمتلكون الموهبة والقدرة على الإبداع٬ لكنهم مجبرون في غالب الأحيان على الانخراط في "الموجة التجارية والاستمرار في تعويد الناس على الابتذال". ويلاحظ الباحث أن أغلب الأغاني الجديدة لا تعير أي اهتمام لشعرية الكلمة ولا يوجد بها إحكام للوزن، بل هو نثر مغنى وتعسف في السجع واستخدام خاطئ للأصوات الإلكترونية وتوزيع موسيقي في شكل زخم من الأصوات لا يراعي أبسط القواعد الأكاديمية وينتحل مركبات صوتية جاهزة. وفي المحصلة النهائية، يرى الباحث أحمد عيدون أن غياب مؤسسة النقد وأزمة التعليم الموسيقي وانتفاء الإدارة الفنية الواعية والمسؤولة في وسائل الإعلام٬ وغياب الصناعات الموسيقية٬ وسهولة ولوج المطربين والمطربات إلى الشهرة من خلال التقليد في برامج المسابقات الفنية٬ كل ذلك لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تدني المستوى الحضاري للموسيقى. ويستدرك أن بعض الإشراقات النادرة لا تكفي حتى "نطمئن على أغنيتنا المغربية٬ كما لا يحق لنا الحنين إلى الماضي فالفن القديم لن يعود بالتأكيد بصيغته المتجاوزة حاليا".