جلس دافيد على كرسي خشبي في قاعة الانتظار، واضعا قلنسوة سوداء "الكيبا" على رأسه. من حين إلى آخر كان يعبث بلحيته، ويمسك بذقنه، معلقا بصره بسقف البهو، كدلالة على قلقه وتوتره الملحوظ. وهو الذي يعلم أنه إذا استدعاك الباشا الشرس إلى مكتبه، فما عليك إلا أن تدع الله في سرك بألا تفضي الأمور إلى عاقبة وخيمة. ذلك أن الريسوني لم يكن حاكما رخوا يضيع وقتا طويلا مع المجرمين ومخالفي القانون في محاكمات ماراطونية تستنزف المال والجهد. بمجرد ما كانوا يأتونه بسكير معربد أو مجرم منحرف يأمر زبانيته بوضعه في قبو الباشوية، فيتم رفعه على أكتاف المخازنية ليذوق عذاب فلقة مؤلمة، أو جلد ظهره العاري بسوط جلدي مملح. فجأة أدير مقبض الباب بعنف. أطل مستشار الريسوني برأسه من المكتب، مناديا على دافيد ليدلف إلى غرفة واسعة حيث يربض الحاكم المخيف. ما لبث أن نهض اليهودي من كرسيه في خنوع مستسلما لقدره. كان الباشا قابعا في مقعد وثير يتصفح بعض الجرائد الإسبانية، ملفوفا بسلهام أبيض، معتمرا طربوشا أحمر، عيناه تقدحان بمزيج من الحزم والغضب، وأصابعه تنقر على سطح المكتب في حركة عصبية تشي بتعكر مزاجه. أمر المستشار "ولد الرياحية" المتهم بالجلوس على مقعد جلدي متواضع قبالة الباشا. ظل اليهودي منكسا رأسه ينتظر من الريسوني أن يفرغ من فمه أول عبارة، كان يرتجف مثل عصفور مبلل، وكأنه في موعد مع إعدامه، يهيئ نفسه لتلقي سهم قاتل سيرمى به. خيم صمت مريب للحظات، سرعان ما تطلع الباشا إلى وجه دافيد مخاطبه بنبرة غاضبة: – يبدو أنك تجاوزت حدودك وحسبت أنه لن يقدر عليك أحد يا دافيد، أهنت المغاربة بكلامك المشين، وكأنهم أناس بلا قيمة، ووضعت نفسك فوق القانون. اندهش المتهم من كلام الباشا القوي، وقال: – أعتذر سيدي الباشا، أنا لم أقل شيئا. ارتد الباشا واقفا وأخذ يزمجر في انفعال شديد: – بل قلت أنك لا تكترث لسلطتنا، وأنك تعول على الحماية الأمريكية فقط. رد اليهودي مرتبكا في محاولة لتبرير فعلته: – إنها فلتة لسان سيدي الباشا، لقد اقتحم الرواد علي باب المحل حتى ظننتهم سيهجمون علي. ثارت ثائرة الحاكم الصارم وخاطب دافيد بلهجة لا تخلو من تهديد: – عليك أن تعلم أيها الوقح، أنه لا أحد يمكنه أن يتحدي سلطتي في المدينة، حتى لو احتمى براية أجنبية ترفرف فوق بيته. أطرق الريسوني قليلا، محاولا استعادة هدوئه، ثم ما لبث أن مال برأسه إلى مستشاره الماكر يطلب رأيه فيما اتخذه من قرار. وقتذاك، اعتدل في جلسته وحك جبينه، ثم صاح بصوت لا يخلو من حنق في وجه اليهودي: – قررت أن أمنحك خيارين لا ثالث لهما: يا إما أن تغادر المدينة إلى وجهة تختارها بنفسك بعد مدة أقصاها ثمانية وأربعون ساعة، أو تدفع غرامة ثقيلة بمبلغ مائة ألف بسيطة عقابا على جرمك. تنحنح دافيد في مكانه، وقد انسحبت الدماء من وجهه، برقت الدموع في عينيه رعبا، ثم نطق بصوت متهدج خفيض يلفه الحزن، بعدما أخذ نفسا عميقا ليتمالك نفسه ويتجاوز صدمته، ثم أجابه بنبرة يطبعها الانكسار: – بل سأدفع الغرامة يا سيدي الباشا، لا أقوى على مغادرة مدينتي وموطن أجدادي. رفعت الجلسة! أمر الريسوني المتهم اليهودي بمبارحة الباشوية مع منحه مهلة قصيرة لتنفيذ قرار الحكم. لم تمض إلا ثوان معدودة حتى قام دافيد ليغادر المكتب، متجها إلى بيته بالسوق الصغير يجر أذيال الخيبة، مكسور الخاطر، ومفجوع القلب. كان يمشي بخطى متثاقلة، متذرعا إلى السماء، مغمغما بشفتيه: ما لهذا الباشا القاسي لا تأخذه رأفة بمسلمي المدينة ولا بيهودها. اللهم انتقم ممن كان سببا في مصيبتي هاته، وعلى رأسهم الزرهوني وحمو حاضي! فتح الريسوني نافذة عريضة مطلة على حديقة خضراء، ليستنشق نسيما عليلا. كان الطقس جميلا يحمل على الدعة والانشراح. ثم سكب الشاي الأخضر وأخذ يرتشف من كوبه في تلذذ. بعد وهلة وجيزة نادى على سكرتيره عبد الله يسأله عن حمو حاضي. ما إن رن إسم حمو في أذنه، حتى كاد يجفل عبد الله من مكانه، حبس أنفاسه محاولا السيطرة على أعصابه وهو يتلقى أوامر سيده، يحثه على إبلاغ حمو ليمتثل أمامه في مكتبه. أصبح أمر حمو يؤرقه ويجافي نومه، إذ بات واضحا أنه ينافسه في نيل رضا الباشا ويهدد مكانته. ابتلع السكرتير ريقه بصعوبة، وارتبكت الكلمات على لسانه وهو يجيب الباشا: أمرك مطاع سيدي الباشا! ذلك أنه منذ وضع الريسوني عينيه على حمو حاضي والسكرتير يزداد توجسا. ما ألهب نفسه غيرة وتسارعت دقات قلبه حسدا. كلما ازداد حمو تقربا من الباشا، كلما تصاعدت حدة انزعاج عبد الله. لكن الريسوني بفطنته وحدسه السديدين، ينتقي خدامه المرموقين بعناية فائقة وتمحيص دقيق، إذ تبين له أن حمو حاضي "مخزني" صارم وخديم مطيع، قد يوكل إليه خدمات ناجعة، ومهمات في غاية الحساسية والصعوبة مستقبلا، لذا وثق من طموحه وإخلاصه، ورغب في تقريبه من دائرته. التحق حمو حاضي بطبقة المحظيين لدى الريسوني، واستحال إلى أحد أبرز المنتمين لحاشيته، وهم لفيف من أثرياء المدينة وأصحاب النفوذ، ممن يلتقطون أوامر الباشا، وينفذونها في الحين…يتبع…