-هل فعلاً طوبكال هو الأعلى في المغرب…؟ فاجأني التغيير الجذري للموضوع، فحديثنا كان عن مِصداقية الموسوعة الإلكترونية ويكيبيديا... لذلك ضيَّقتُ عيني قليلاً وركّزتُ فيما يقوله مُحاوري… طوبكال… آه توبقال، جبل توبقال… هل هو أعلى جبل في البلد...؟ قبل أن أغادر المغرب كان الأمر كذلك… نظر إليَّ بابتسامة في طيِّها عتاب، وهل الجبال عندكم تنمو بهذه السرعة؟ في الواقع من حين لآخر يُوَسْوِس الشيطان لأحدهم فيتَألَّه وينْتَفش، ويحسبُ أنّه سيبلغ الجبال طولاً… يوسف، أسألك عن جبل يعلوه الثلج في فصل الشِّتاء... هل طوبكال هو أعلى جبل في المغرب؟ قلت في نفسي، هلّا سألتَ ويكيبيديا وأَرَحْتَني.. ثم غمغمتُ : لِنَقُلْ… أَ تذْكر ابنتي كولدا؟ نعم …ومرَّة أخرى وسوَستْ لي نفسي، وهل مثل كولدا تُنسى؟ زميلتها في جامعة كونكورديا اسمها دِنا بنّاني سميريس… وهي مغربية الجنسية، أكيد أنّك سمِعْت بهذه العائلة؟ أسمع عنها كما أسمع عن عائلة روتشيلد… حيث تختلط الحقائق بالأساطير… قال والابتسامة لا تفارق مُحيّاه، دعنا من الحقد الطبقي... دِنا شجعت كولدا أن تذهب إلى المغرب لممارسة هوايتها المفضلة، تسلق الجبال… بدأتْ أعصابي تتوتر... ماذا تريد منِّي بالضبط؟... طبعاً لم أبُح بخلجات نفسي... اكتفيت بهز رأسي... ثم فهمتُ أنه يجب عليَّ أن أقول شيئاً ما… فكرة جيدة… نعم، لذلك قررت أن أذهب أنا وكولدا إلى المغرب في عطلة نهاية السنة... وقلتُ لماذا لا تصطحبنا كمرشد إلى طوبكال... تلعثمت قليلاً، ممم.. في الواقع ... قاطعني السيد بِنَطار، أنت تعرف أنني أسافر كثيراً، وقد راكمت العديد من النقاط التي تخوِّل لي شراء تذكرتين ذهابا وإيابا إلى المغرب. كولدا ستتدبر أمر تذكرتها… لا تلقي بالاً للمبيت، لديَّ بعض المعارف في مراكش سيتكفَّلون بالحجوزات. ولماذا لم يتكفلوا بالمرشد ويخرجونني من هذه الورطة قلت في نفسي… ثم أجَبْتُ بنبرةٍ تشي بِرغبة في الهروب، حسناً دعني أفكر… إلى اللقاء… ثلاثة أيام مرت على هذا الحوار، وكلما استحضرته تتَلبَّسني نفس المَشاعر... تتسارع نبضات قلبي وأحسّ بِنارٍ تسْتعرُ في كل أوصالي... لو أنّ ذلك جرى قبل أسبوعين لكان الأمر مختلفاً. كانت علاقتي بأستاذي الدكتور بِنَطَار مُمتازة. الوحيد في الجامعة، بل في كل مونتريال الذي وافق أن يؤطرني في بحثي لِنَيْل شهاد الماستر، شعبة القانون الدولي والسياسة الدولية مِن جامعة كيبيكبمونتريال. مع توالي رفض الأساتذة وتَهرُّبهم، تكهّنْتُ أنَّ موضوع البحث ربّمَا يكتسي بعض الحساسية: القانون الدولي والمقاطعة العربية لإسرائيل. هل أنت مع المقاطعة؟ سألني الدكتور بروس، أحد الذين الْتجأتُ إليهم… ليس مهم أن أكون مع أو ضد، ما يهم هو المقاربة والتحليل... أعرف، ولكني أودّ معرفة موقفك الشخصي… أنا عربي، وأنا مع المقاطعة… يبدو ذلك جليّاً في تقديمك للبحث… إلى الجحيم أنت وتأطيرك، كمْ وددتُ أن أبصق هذه الجملة في وجهه، لكني أجبن من ذلك بكثير... كان رد الأستاذ بروس واحدا من أقسى وأوضح الردود، فيما تنوعت أشكال رفض واعتذار الآخرين… حتَّى ساقتني الأقدار إلى الدكتور دافيد بِنطار. أرسلتُ له عبر الإيميل تقديما للبحث والنقاط التي أنوي التطرق إليْها: تاريخ المقاطعة العربية لإسرائيل، تطبيقاتها، المقاطعة الرسمية، المقاطعة الشعبية، الأسس القانونية، الأسس الشرعية، المقاطعة وقرارات الجامعة العربية، المقاطعة وإكراهات منظمة التجارة الدولية، وباقي المعاهدات، أثر المقاطعة على إسرائيل، على الدول العربية ثم على باقي الدول. وفي الأخير ألعب دور الخبير الذي يستشرف مستقبل المقاطعة وأضع بعض السيناريوهات... وطبعاً قبل أن تُعرب للأستاذ عن مدى امتنانك له إن هوَ خصَّص لك جزأً من وقته الغالي، لا مفر من التذكير بأن التصميم المُقترح لا يُعْدم مرونة تتيحُ له استيعاب ملاحظات وتوجيهات سيادته. لم يتأخر الرد… استحضرتُ حينها مَقطعا للمبدع عبد الحليم حافظ؛ جاني الرَّد جاني لقيتها بْتِستنّانّي… وكان القبول... فرحة ما بعدها فرحة... تعددت اللقاءات بالدكتور بِنَطار كانت أغلبها تتم في قاعة الاجتماع بالكلِّية أو في كافيتيريا الجامعة. ارتحت كثيراً لتعليقاته المصحوبة غالباً بحس فكاهي... كنا أحياناً نسيح في أرض الله ونخوض في أعراض السَّاسة والشعوب جرْحاً وتعديلاً؛ من أفغانستان إلى فينزويلا ومن الشيشان إلى جنوب إفريقيا... حدث ذات مرة أن حضَرتْ معنا ابنته كولدا. من حسن حظي أنها أُنكلوفونية قُحَّة، لذلك لم نتحَدّث كثيراً… لعلَّ من الإيجابيات القليلة للجهل أنه أحْياناً يحول بيْنك وبين التورّط، وكذلك كان جهلي بالإنجليزية مع الفاتنة كولدا… مؤخّراً كان الدكتور بنطار منشغلاً بإعداد مداخلة سيلقيها في إحدى الجامعات الأمريكية، فتقرر أن يكون اللقاء، ولأوّل مرَّة، في مكتبه. أهم ما يلفت انتباهك عند دخولك للمكتب هو الكم الهائل من الشهادات والأوسمة المعلقة بالجدران. جامعات إسرائيلية، جمعيات أهلية ومؤسسات أخرى لا أعرف مجال اشتغالها... ولستَ تحتاج أن تُدقِّق في أي واحدة من تلكم الشهادات كي تجد النجمة السداسية ثاوية في مكان ما... حاولت أن أتصرف بعفوية، لكن عيني كانت تخونني وتعيد التجوال عبر الجدران… طبعاً لم يفته ما بي من ارتباك... - لعلها المرة الأولى التي تدخل إلى هنا… - نعم، ويبدو أنني محظوظ… - ليس بالضرورة، كما أن بعض ما تراه على الجدران هو من قبَل المجاملة ليس إلّا… -لعلك تستحقها... ثم انغمسنا في تأويل أحد فصول ميثاق منظمة التجارة العالمية ويخص الاستثناءات التي تُجيز للبلد العضو عدم التقيُّد بالاتفاقية. فكرتي كانت بسيطة: إسرائيل سبق لها أنْ أثارت مسألة ''القِيَم'' لمنع استيراد اللحوم التي لا تحمل طابع ''كوشير'' وذلك لدواعي دينية وأخلاقية. باستعمال نفس الذريعة، ونظراً لوجود عدة فتاوي إسلامية تُحرِّم التعامل الاقتصادي مع إسرائيل، ولِمُبررات أخلاقية بمقتضى التضامن مع الفلسطينيين، فإن الدول العربية لها أن تتنصَّل من بعض الْتِزاماتها التجارية… ما يُبْهِرني في الدكتور بنطار هو قدرته الرهيبة على الإنصات وعدم المقاطعة. ثم يستأذنك في الكلام، يتحكم في طبقات صوته وفي نبرته كأنما يعزف لحناً... فجأة توقف عن الحديث. التفتَ إلي وقال، لعلك أدركتَ أني يهودي. - نعم … - لكنك لا تعرف أن أبي ولد في مدينة سبتة التي كانت يوماً مغربية... - وستعود كذلك يوماً ما... قاطعته مبتسما... - لا أعتقد أن ذلك سيكون غداً... لم أركِّز على هذا الموضوع… إذ سرعان ما استرجعت الاسم، دافيد بنطار، أو بالأحرى بن عطار. استغربتُ كيف فاتَتني هذه الجُزئية، ابتسمت وقلت له: لأول مرة أحلل اسمك العائلي… أخبرني أنه رأى النور في مستوطنة تُسمّى مجدال هاعيمك حيث يشكّل المغاربة ثلثيْ ساكنتها، وبعد حصوله على درجة الماستر، أظنه تحدث عن جامعة بن غوريون، قرر أن يأتي إلى كندا ليكمل دراسته فاستقرَّ بها. وحينما تلفظ كلمة ''اسْتقررت''، استدرك وقال إنه عملياً ليس مستقرا في أي بلد، لأنه كثير التنقُّل... وكما بدأ فجأة، توقف أيضاً فجأة... محتفظاً بهدوئه وبِأساريره المُنفرجة عرَّج بسلاسة إلى الفصل المذكور لمنظمة التجارة العالمية. وبنفس الوفاء لطريقة كلامه ونفس النبرة الراقية واللغة الفرنسية الأنيقة، حاول الدكتور بنطار سابقاً، وابن عطار حالياً، أن يبْعث لي بأقل الخسائر رسالة مفادها أن مقاربتي غير أصيلة وغير متناسقة، وأنّه عليَّ أن أسندها بقرائن أخرى تدعمها أوّلاً و' تلحم" أجزاءها ثانياً. وكما العادة، ما أن يبدأ الفتور يدب في جَرْسِ صوته حتى أدرك أنها قد أزِفتْ نهاية حِصّتي، فأستأذن بالانصراف. ولعل الفتور بعد ذاك اليوم قد تعدَّى صوت أستاذي ليصيب مشاعري تجاهه وتجاه البحث بِرُمته... وحين أقول الفتور فإني أستدْعي الحماس المجنون الذي كان يسكنني في البداية... لكني يقيناً ما فكرت يوماً أن أقاطع موضوع المقاطعة... على أن السؤال الذي لم أحاول البحث عن جواب له هو لماذا قَبلَ الدكتور بن عطّار أن يؤطرني…؟ عموماً لم تعد تراودني نفس الرغبة في لقائه وفي تلقُّف ملاحظاته. ذكَّرني هذا الإحساس بالشعور الذي كان ينتابني في سَنواتي الأولى بكندا حين كنتُ أضطر للدخول إلى إحدى محلات ماك دونالد، فقد كنت أحس بنوع من تأنيب الضمير. ذلك أنّي تشبَّعتُ بفكرة أن ماك دونالد شركة صهيونية وأنها لا تفتأ تقدم مساعدات لإسرائيل، وأني حين أستهلك منتجاتها فأنا أخون ''القضِيَّة"… كل من حدَّثته عنْ موضوع ''اكتشافي'' لجنسية الدكتور بن عطار يقول لي ما أعلمه أصلاً… الفلسطينيون يعملون داخل إسرائيل، بل ويبنون المستوطنات… أعضاء من السلطة كانوا يسمسرون في الإسمنت المخصص للجدار العازل... الشرطة الفلسطينية تحمي المستوطنين قبل الفلسطينيين... الفلسطينيون هنا في المهجر يتعاملون مع اليهود الإسرائيليين بدون تحفظ... ليخلص الجميع إلى نفس الجملة: هل تريد أن تكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيِّين؟ طبعاً الجواب الكلاسيكي لهذه المداخلات هو أن الأمر لا يهم الفلسطينيين وحدهم، لكنها مسألة قومية ودينية وأخلاقية وإنسانية وكل ما ينتهي ب "ية"... والحال أنني أسأل نفسي أحياناً لماذا أُعقِّد الأمور؟ ما يهمني هو مؤطر يعينني في الحصول على الماستر، ثم أبحث عن آخر من أجل الدكتوراه ثم هذا فِراقٌ بيني وبينكم... فالعودة إلى المغرب... خلال اللقاءات الثلاثة الأخيرة، حاولت أن لا ندخل في نقاشات إشكالية، كان جل كلامنا حول المراجع ومصداقية بعض المواقع الإلكترونية... لست أدري هل لاحظ الأستاذ ابن عطّار أني لم أعُدْ مرتاحاً له كعادتي. المهم أن الأمور لاتزال تمشي بسلاسة... والآن، سيادة الدكتور يطلب مني أن أكون مرشده في رحلة توبقال أوْ طوبكال حسب روايته. دعوْتِك إلى الله يا دِنا يا بناني يا سميريس… لقد عشت طفولتي قرب ثلاث عائلات يهودية في حي مرشان بمدينة طنجة، ولا أذكر أنه وقعت بيننا مشاكل... ولازالت نُتف من ذكريات جارتنا اليهودية وهي توزع علينا الحلوى كان اسمها حَضْرة... لكن الأمر هنا مختلف... أو ربما أنا من اختلف عن ذاك الطفل الذي كُنْتُه... شالوم دكتور دافيد، هايْ ميسْ كولدا، هذا هو طوبكال… هُنا في السفح يوجد ما يسمّى بمقام سيدي شمهروش حاكم الجان. وهو مكان يتعايش فيه الدين بالتجارة بالخرافة وبالطّب الشعبي ثمّ بِكُمْشة من الموبقات الأخرى... كل الأعين تتبعك، من المطار إلى قمة الجبل. البعض يطلب منك ما تيسَّر من الدَّراهم، على أساس أن السماء وهبتْك صيْداً ثميناً... سائق الطاكسي لن يستخدم العدّاد... مُتسوِّلو سيدي شمهروش سيطوفون بك ...المغاربة حين يريدون وصف فتاة جميلة باختصار، يستعملون كلمة ''قنبلة" . أمّا كولدا فهي ''شرنوبيل'' بشَعرٍ أشقر، أَوَ ليست أمها أُوكرانية. والذي جاملته الأقدار برؤية الغيد الأوكرانيات سيَعي تماماً ما أقول... عليكِ لعنة شمهروش يا سميريس يا دِنا... ولكن ماذا لو اعتذرت... سَأُريحُ وأستريح... في المقابل ماذا لو استَراح هو الآخر منّي... حسب ما توَّلد لديَّ من انطباع تجاه الدكتور ابن عطّار أعتقد أنه لن ينتقم مِنِّي لمجرد أنّي رفضتُ مرافقته إلى المغرب... يبدو أن صدمات الأساتذة الآخرين جعلتني أفكر كعانِس في بداية الخمسينات من عمرها خطبها أحدهم في غفلة من النحس الذي يلازمها، فصارت قضيَّتها المحورية هي الحفاظ على خطيبها… أظن والله أعلم أن هناك بعض الفارق بيني وبين هذه العانس الخمسينية، لكني لا أعرف بالضبط حجم هذا الفارق... عَفْواً أحمد ياسين، عَفْواً عبد العزيز الرنتيسي، خليل الوزير أبو جهاد، صلاح خلف أبو إياد، ياسر أبو عمار، يحيى عياش، فتحي شقاقي، غسان كنفاني، عماد عقل، المبحوح، وغيرهم... وغيرهم... عَفْواً يا كل الشهداء… يا كل الأسرى... يا كل اللاجئين والنازحين وغير المصَنفين... أَوْجِدوا لي عذراً رجاءً… فمنذ طفولتي وأنا أحلم أن أصير دبلوماسياً... وكم كانت أمي رحمها لله تتمنَّى أن تراني على شاشة التلفاز... من يدري، لربَّما ساهمتُ مستقبلا في حل الأزمة الفلسطينية... والدليل على مكانتها في صدري أني جعلتها، أو على الأقل إحدى تفرُّعاتها، موضوعاً لبحثي... ولن أسمح أن يزايد أحد على إخلاصي للقضية… لكني سرعان ما أسترجع ملاحظة الدكتور دافيد بن عطّار وأُحيلها على ''مُرافعتي'' المنولوجية لأجِدها فعلاً مقاربة غير أصيلة وغير متناسقة … ربّاه هل يتطلب الأمر حقاً كل هذه التراجيديا...؟ لستُ أدري... على العموم، سأقرر فيما بعد...